من دروس الانتفاضة: حكم العسكر هو حكم الفرد المطلق
صديق الزيلعي
3 April, 2024
3 April, 2024
صديق الزيلعي
تمر علينا ذكري انتفاضة أبريل المجيدة، وبلادنا تعاني من حرب مدمرة. خطورة الحرب انها أدت لأوضاع كارثية، ومآسي غير مسبوقة. وأرى ضرورة التعلم من دروس الانتفاضة، خاصة ونحن نواجه الدمار المستمر في حالة استمرار الحرب مما سيؤدي لخراب نهائي لبلادنا. وإننا إذا لم نوحد قوانا المدنية ستنتهي الحرب باتفاق الجنرالات، مما سيعيد بلادنا للحكم العسكري مرة أخري. هذه مقالات نشرتها في ذكرى الانتفاضة، وأعيد نشرها للنبيه لمخاطر العودة للحكم العسكري، إذا لم نسع بجد لإيقاف الحرب، وابعاد طرفي الحرب بشكل نهائي عن السلطة والاقتصاد.
هذا هو المقال الأول:
احتفاءا بذكرى انتفاضة مارس أبريل 1985، سأحاول أن استعرض بعض الدروس الذي تعلمناها من تلك الملحمة الجماهيرية العظيمة. ليس في إطار النظر النوستالجي للماضي، وانما في إطار النظر للماضي لتشكيل المستقبل. لذلك سأناقش تباعا بعض أهم دروس انتفاضة مارس أبريل، قصدا لمواجهة قضايا وتعقيدات وتحديات المرحلة الانتقالية الراهنة. وهي أخطر مراحل التحول الديمقراطي، التي مرت على بلادتا، لأنها ذات معادلة صفرية: اما تحقيق تحول مدني، أو السقوط في قاع هاوية الحروب الاهلية والتشطيء والدكتاتورية. الدرس الأول الذي تعلمناه من حكم مايو هو ان الحكم العسكري، مهما رفع من شعارات براقة، سينتهي عاجلا أو آجلا، الي دكتاتورية فردية مطلقة السلطات.
قام تنظيم الضباط الاحرار، تحت تأثير التجربة الناصرية في مصر، بانقلاب على النظام الديمقراطي في السودان. وتوهم القوميون العرب في الجيش وخارجه انهم سيكررون التجربة الناصرية بكل زخمها المعروف. وطرحوا برنامجا يساريا كان معدا كبرنامج انتخابي لبابكر عوض في انتخابات رئاسة الجمهورية، التي أعلن عن قيامها آنذاك. وأدي الموقف من الانقلاب لصراع حاد داخل الحزب الشيوعي ادي لانقسامه. واندمج تيار في الحزب الشيوعي تماما في النظام الجديد. ورغم التأييد الجماهيري الواسع للنظام الجديد الا انه بدأ يطل بوجه الحقيقي منذ ايامه الأولي. فقد منع الامر الجمهوري الرابع الاضرابات، وحدد عقوبتها بالإعدام.
كان الوجه العسكري الدكتاتوري للنظام يزداد وضوحا كل يوم. ودخل النظام في صدامات دموية عنيفة مع كل القوى السياسية السودانية. ومنذ ما سمي باستفتاء رئاسة الجمهورية في 1971، تركزت السلطة في يد شخص واحد. وبمرور الزمن وبالتعديلات المتعددة، التي أدخلت على دستور 1973، صار نميري هو الحاكم الفرد، مطلق الصلاحيات، ويسود على كل اجهزة الدولة الأخرى: التنفيذية والقضائية والتشريعية.
خلال النصف الثاني من حكم مايو، وتحديدا بعد عقد صفقة المصالحة في 1977، صار نميري حاكما مستبدا استبدادا مطلقا، لا تحجم هوجاته وتبدلاته وتناقضاته اي جهة داخل المليون ميل مربع. والأخطر أن هناك تقارير تسربت من مكتب جهاز المخابرات الأمريكية بالخرطوم تتحدث عن تردي حالته العقلية، مما انعكس في تناقض قراراته وتصرفاته في سنواته الاخيرة. وهنا نصل الي قمة المأساة: حاكم فرد يعاني من اضطرابات عقلية يتحكم في مصير شعب كامل، ولا توجد مؤسسة من مؤسسات الدولة تملك سلطة ايقافه عند حده أو عزله.
انقلاب الجبهة الاسلامية في 1989 كرر نفس المأساة. تبخرت ادعاءات اقامة دولة العدل وتم انشاء دكتاتورية عسكرية على رأسها فرد واحد يملك كل السلطات. فرغم الحديث عن حاكمية الحركة الاسلامية بهياكلها المختلفة، ورغم وصف الترابي بالأب الروحي للنظام، الا ان قرارات فردية من البشير اطاحت بكل ذلك. كما اطاحت، وفي لقاء للصلاة، باتفاق عقار – نافع. والأدهى ان خطب المخلوع كانت تشكل اساءة كبيرة وتدهور فظيع في كل الممارسة السياسية السودانية. لنصل اخيرا لان يصبح السودان كله مرهونا لخوف البشير على نفسه من المحكمة الجنائية الدولية. ويصل التدهور بمؤسسات الدولة السودانية ان تنظر بأم عينيها تدهور البلاد نحو الهاوية، ولا تملك سلطة لإيقاف ذلك. ولولا ثورة ديسمبر المجيدة لما تجرأ كل مؤسسات دولة الاسلامويين على تحريك شعرة.
الآن، نواجه التحدي الاخطر في تاريخ بلادنا، تحدي انجاز تحول ديمقراطي حقيقي، ينهي والى الابد كل اشكال التسلط والدكتاتورية ويحقق دولة المواطنة وحكم القانون. وندق ناقوس الخطر عاليا، ونحذر بأوضح الكلمات من محاولات اعادة العسكر لحكم بلادنا. كما ننبه من عودة العسكر تحت دعاوي انهم الافضل استقرار البلد، وحسم الفوضى الامنية. فهذه المهام الامنية يقوم بها اي جيش في العالم كجزء اصيل من مهامه ولا تستدعي ان يكون حاكما. فالقوات المسلحة هي إحدى مؤسسات الدولة وليست مؤسسة فوق كل مؤسسات الدولة الأخرى. وهي المؤسسة، في كل العالم، التي يجب ان تكون تحت ادارة الدولة المدنية، وحتى في بلدنا وفي الديمقراطية الثانية كان الدكتور آدم مادبو وزيرا للدفاع.
هناك فوارق اساسية بين اسس تدريب وتأهيل الكوادر العسكرية التي تعتمد على الضبط والربط والطاعة العمياء للقائد. أما مؤسسات الدولة المدنية فهي تعتمد على حكم المؤسسات وتبادل الرأي والانتخاب للقيادات الحاكمة، والتبديل الدوري لها، وامكانية عزلها عن مناصبها. كما توجد مؤسسات وهيئات اخري مستقلة تراقب السلطة التنفيذية وتحدد حركتها، وتتكامل معها في اداء المهام المحددة لأيا منها.
تجارب العالم اثبتت ان السلطة مفسدة والسلطة المطلقة افساد مطلق.
siddigelzailaee@gmail.com
تمر علينا ذكري انتفاضة أبريل المجيدة، وبلادنا تعاني من حرب مدمرة. خطورة الحرب انها أدت لأوضاع كارثية، ومآسي غير مسبوقة. وأرى ضرورة التعلم من دروس الانتفاضة، خاصة ونحن نواجه الدمار المستمر في حالة استمرار الحرب مما سيؤدي لخراب نهائي لبلادنا. وإننا إذا لم نوحد قوانا المدنية ستنتهي الحرب باتفاق الجنرالات، مما سيعيد بلادنا للحكم العسكري مرة أخري. هذه مقالات نشرتها في ذكرى الانتفاضة، وأعيد نشرها للنبيه لمخاطر العودة للحكم العسكري، إذا لم نسع بجد لإيقاف الحرب، وابعاد طرفي الحرب بشكل نهائي عن السلطة والاقتصاد.
هذا هو المقال الأول:
احتفاءا بذكرى انتفاضة مارس أبريل 1985، سأحاول أن استعرض بعض الدروس الذي تعلمناها من تلك الملحمة الجماهيرية العظيمة. ليس في إطار النظر النوستالجي للماضي، وانما في إطار النظر للماضي لتشكيل المستقبل. لذلك سأناقش تباعا بعض أهم دروس انتفاضة مارس أبريل، قصدا لمواجهة قضايا وتعقيدات وتحديات المرحلة الانتقالية الراهنة. وهي أخطر مراحل التحول الديمقراطي، التي مرت على بلادتا، لأنها ذات معادلة صفرية: اما تحقيق تحول مدني، أو السقوط في قاع هاوية الحروب الاهلية والتشطيء والدكتاتورية. الدرس الأول الذي تعلمناه من حكم مايو هو ان الحكم العسكري، مهما رفع من شعارات براقة، سينتهي عاجلا أو آجلا، الي دكتاتورية فردية مطلقة السلطات.
قام تنظيم الضباط الاحرار، تحت تأثير التجربة الناصرية في مصر، بانقلاب على النظام الديمقراطي في السودان. وتوهم القوميون العرب في الجيش وخارجه انهم سيكررون التجربة الناصرية بكل زخمها المعروف. وطرحوا برنامجا يساريا كان معدا كبرنامج انتخابي لبابكر عوض في انتخابات رئاسة الجمهورية، التي أعلن عن قيامها آنذاك. وأدي الموقف من الانقلاب لصراع حاد داخل الحزب الشيوعي ادي لانقسامه. واندمج تيار في الحزب الشيوعي تماما في النظام الجديد. ورغم التأييد الجماهيري الواسع للنظام الجديد الا انه بدأ يطل بوجه الحقيقي منذ ايامه الأولي. فقد منع الامر الجمهوري الرابع الاضرابات، وحدد عقوبتها بالإعدام.
كان الوجه العسكري الدكتاتوري للنظام يزداد وضوحا كل يوم. ودخل النظام في صدامات دموية عنيفة مع كل القوى السياسية السودانية. ومنذ ما سمي باستفتاء رئاسة الجمهورية في 1971، تركزت السلطة في يد شخص واحد. وبمرور الزمن وبالتعديلات المتعددة، التي أدخلت على دستور 1973، صار نميري هو الحاكم الفرد، مطلق الصلاحيات، ويسود على كل اجهزة الدولة الأخرى: التنفيذية والقضائية والتشريعية.
خلال النصف الثاني من حكم مايو، وتحديدا بعد عقد صفقة المصالحة في 1977، صار نميري حاكما مستبدا استبدادا مطلقا، لا تحجم هوجاته وتبدلاته وتناقضاته اي جهة داخل المليون ميل مربع. والأخطر أن هناك تقارير تسربت من مكتب جهاز المخابرات الأمريكية بالخرطوم تتحدث عن تردي حالته العقلية، مما انعكس في تناقض قراراته وتصرفاته في سنواته الاخيرة. وهنا نصل الي قمة المأساة: حاكم فرد يعاني من اضطرابات عقلية يتحكم في مصير شعب كامل، ولا توجد مؤسسة من مؤسسات الدولة تملك سلطة ايقافه عند حده أو عزله.
انقلاب الجبهة الاسلامية في 1989 كرر نفس المأساة. تبخرت ادعاءات اقامة دولة العدل وتم انشاء دكتاتورية عسكرية على رأسها فرد واحد يملك كل السلطات. فرغم الحديث عن حاكمية الحركة الاسلامية بهياكلها المختلفة، ورغم وصف الترابي بالأب الروحي للنظام، الا ان قرارات فردية من البشير اطاحت بكل ذلك. كما اطاحت، وفي لقاء للصلاة، باتفاق عقار – نافع. والأدهى ان خطب المخلوع كانت تشكل اساءة كبيرة وتدهور فظيع في كل الممارسة السياسية السودانية. لنصل اخيرا لان يصبح السودان كله مرهونا لخوف البشير على نفسه من المحكمة الجنائية الدولية. ويصل التدهور بمؤسسات الدولة السودانية ان تنظر بأم عينيها تدهور البلاد نحو الهاوية، ولا تملك سلطة لإيقاف ذلك. ولولا ثورة ديسمبر المجيدة لما تجرأ كل مؤسسات دولة الاسلامويين على تحريك شعرة.
الآن، نواجه التحدي الاخطر في تاريخ بلادنا، تحدي انجاز تحول ديمقراطي حقيقي، ينهي والى الابد كل اشكال التسلط والدكتاتورية ويحقق دولة المواطنة وحكم القانون. وندق ناقوس الخطر عاليا، ونحذر بأوضح الكلمات من محاولات اعادة العسكر لحكم بلادنا. كما ننبه من عودة العسكر تحت دعاوي انهم الافضل استقرار البلد، وحسم الفوضى الامنية. فهذه المهام الامنية يقوم بها اي جيش في العالم كجزء اصيل من مهامه ولا تستدعي ان يكون حاكما. فالقوات المسلحة هي إحدى مؤسسات الدولة وليست مؤسسة فوق كل مؤسسات الدولة الأخرى. وهي المؤسسة، في كل العالم، التي يجب ان تكون تحت ادارة الدولة المدنية، وحتى في بلدنا وفي الديمقراطية الثانية كان الدكتور آدم مادبو وزيرا للدفاع.
هناك فوارق اساسية بين اسس تدريب وتأهيل الكوادر العسكرية التي تعتمد على الضبط والربط والطاعة العمياء للقائد. أما مؤسسات الدولة المدنية فهي تعتمد على حكم المؤسسات وتبادل الرأي والانتخاب للقيادات الحاكمة، والتبديل الدوري لها، وامكانية عزلها عن مناصبها. كما توجد مؤسسات وهيئات اخري مستقلة تراقب السلطة التنفيذية وتحدد حركتها، وتتكامل معها في اداء المهام المحددة لأيا منها.
تجارب العالم اثبتت ان السلطة مفسدة والسلطة المطلقة افساد مطلق.
siddigelzailaee@gmail.com