من مظاهر التراث الروحي والاجتماعي للشيخ مختار الكنتي في سودان وادي النيل
د. خالد محمد فرح
28 June, 2024
28 June, 2024
بسم الله الرحمن الرحيم
السفير د. خالد محمد فرح
Khaldoon90@hotmail.com
Abstract:
This article endeavours to give an account of the arrival and the sojourn in the town Berber of the Nile state of Northern Sudan in the 1840s during the Turkiyya era, of a mysterious and a hitherto not a very well-known or a sufficiently researched figure. His name is Shaykh Zein Al-Abdin al-Kunti, who is believed to have been the grandson of Shaykh Mukhtar Al-Kunti 1730 - 1811, the renowned scholar and spiritual leader of a large area of the grand African Sahara, in the region around the bend of the Niger River and beyond during the 18th century. The article approaches the topic within the context of the historical phenomenon of the roaming scholars and Sufis in Muslim Africa, who used to travel extensively around, for the sake of spreading their scholarship and teachings, with the possible eventuality of ending up as residents in certain lands that could be far away from their own ones. It similarly points out to the Maghreb and West African contributions to the Islamic learning in the Eastern Sudan. The article also underlines the importance of the Nilotic Sudan as a cross roads for centuries of many trans- Saharan caravan routes that headed eastwards for trade and mainly for pilgrimage, while it particularly draws the attention to the role played then by the town of Berber as an important hub in this respect. And lastly, the article gives a comprehensive account of shaykh Zein Al-Abdin al-Kunti, by giving some significant glimpses of the estimated history of his arrival and stay in Berber, including some of his possible social connections, as well as some of his surviving correspondences with his family in his original home land of Azwad in Northern Mali, besides his death and burial under a dome in the cemetery of Berber. A brief account of the Kunta tribe and of the biography of the famous shaykh Mukhtar Al-Kunti and his relationship with the Sudan in particular, has also been provided as a prelude to the article.
Key words: Mukhtar Al-Kunti, Zein al-Abdin Al-Kunti, Muslim West Africa, Eastern Sudan, Berber.
مستخلص:
يسعى هذا المقال لتقديم إضاءة حول واقعة وصول شيخ ديني غامض، وشخصيته غير معروفة تماما، وغير مدروسة حتى الان على نحو كاف، إلى مدينة بربر بولاية نهر النيل بشمال السودان، وإقامته بها في ستينيات القرن التاسع عشر ، اي في عهد الحكم التركي المصري بالسودان. إسم ذلك الشيخ هو:" زين العابدين الكُنتي "، وهو حفيد الشيخ مختار الكنتي ١٧٣٠- ١٨١١م، ذلك العالم والزعيم الروحي الكبير وذائع الصيت في جزء واسع من بلاد صحراء غرب أفريقيا ، في المنطقة الواقعة حوالي منحنى نهر النيجر وما وراءها.
يتناول المقال هذا الموضوع من خلال مقاربته لتلك الظاهرة التاريخية المتمثلة في العلماء والمتصوفة الحوالين، الذين اعتادوا على التنقل والسفر بكثافة، من اجل نشر علومهم وتعاليمهم، بما قد يقتضيه ذلك احيانا، من احتمال ان ينتهي ببعضهم السفر والتطواف ، للاقامة في مناطق بعيدة عن مواطنهم الأصلية.
كذلك يشير المقال إلى إسهام منطقتي المغرب العربي وبلاد السودان الغربي على التوالي، في مجال التصوف والتعليم الديني في بلاد سودان وادي النيل.
ويشدد المقال على اهمية سودان وادي النيل ودوره، كملتقى طرق للقوافل التي ظلت تعبر ارضه لقرون ، قادمة من بلاد المغرب الغربي وبلاد وسط وغرب افريقيا، متجهة نحو الشرق وخصوصاً، نحو الأراضي المقدسة بالحجاز لاداء فريضة الحج، وبين اهمية دور مدينة بربر كمحطة تجمع وتوقف واستجمام، في طريق قوافل الحجيج الأفريقي.
واخيرًا يعرض المقال لجوانب مهمة وأساسية تتعلق بتاريخ وصول الشيخ زين العابدين لمدينة بربر، واقامته بها ، وملامح لبعض علاقاته الاجتماعية المفترضة ونشاطه الدعوي والتعليمي، كما تنم عليه بعض البينات الظرفية، كما يثبت المقال الإشارة إلى بعض المصادر الخطية والوثائق التي خلفها الشيخ زين العابدين الكنتي ببربر، ممثلة في بعض الرسائل التي تبادلها مع بعض أقاربه ب " أزواد " منطقته الأصلية بصحراء شمال مالي. كما يثبت المقال وفاة الشيخ زين العابدين الكنتي بمدينة بربر، ومواراته الثرى في احد جباناتها ، تحت قبة كانت معروفة هناك.
وعلى سبيل التوطئة والتمهيد، استهلّ الباحث هذا المقال بإعطاء نبذة عن قبيلة كنتة وأدوارها في صحراء غرب أفريقيا، بالتركيز على شخصية الشيخ مختار الكنتي ومكانته السامية في سائر إفريقيا المسلمة خلال القرن الثامن عشر، مع الاشارة بصفة خاصة إلى بعض ملامح صلته الروحية بسودان وادي النيل على وجه التحديد.
كلمات مفتاحية: مختار الكتتي، زين العابدين الكنتي، غرب أفريقيا المسلمة، السودان الشرقي، مدينة بربر.
توطئة:
سودان وادي النيل بوصفه نقطة جذب وبؤرة إشعاع للهجرات
البشرية والرحلات العلمية ومعبراً مهما نحو مناسك الحج
ظل سودان وادي النيل كما هو معروف، وخصوصا بحكم موقعه الجغرافي، وطبيعة طبوغرافية حدوده المنبسطة، مع جواره الإقليمي المباشر وما وراءه، تلك الحدود السهلة العبور والاجتياز من دون عقبات أو حواجز طبيعية تحول دون ذلك، يمثل بؤرة جذب ومقصد هجرات، وفي ذات الوقت منطلق هجرات ورحلات عكسية إلى البلدان المجاورة، بل إلى ما أبعد منها، وذلك لأسباب ودوافع وأغراض مختلفة، منها البيئي، والأمني، والسياسي، والاقتصادي، والمعيشي، فضلا عن الرحلة من أجل طلب العلم والمعرفة واكتسابها، أو نشرها كذلك.
وقد اشتهر سودان النيل بصفة خاصة ولبضعة قرون، بان أرضه قد مثلت معبراً محبذا لقوافل وأفواج الحجاج القادمين من بلاد وسط وغرب وشمال إفريقيا المسلمة، الذين ظلوا يعبرونها، قاصدين الأراضي المقدسة بالحجاز، عن طريق الموانئ السودانية على البحر الأحمر مثل مينائي عيذاب وسواكن، وخصوصا على إثر تعرض بلاد الشام وما جاورها من بلاد شمال غربي الجزيرة العربية وشبه جزيرة سيناء، من مخاطر وجود الصليبيين بالقدس، والمنطقة المحيطة بها من بلاد الشام في القرون الوسطى. وقد ظهر صدى ذلك التطور في جملة من الوقائع التاريخية الموثقة، مثل رحلة ابن جبير الأندلسي 1145 – 1217م إلى الحجاز عن طريق عيذاب وديار البجة بشرق السودان في القرن الثالث عشر الميلادي، ورحلة حج الشيخ الصوفي الشهير أبي الحسن علي بن عبد الله الشاذلي 1196 – 1258م عن طريق ميناء عيذاب أيضا في ذات القرن، ثم زيارة الرحالة المغربي ذائع الصيت ابن بطوطة 1304 – 1369م إلى مدينة سواكن في القرن الرابع عشر الميلادي، فضلا عن قدوم أعلام آخرين إلى بلاد السودان الشرقي في القرون اللاحقة، مثل الشيخ غلام الله بن عايد الزيلعي العقيلي اليمني في القرن الرابع عشر الميلادي، والشيخ عيسى بن بشارة الأنصاري الخزرجي المدني في أول القرن السادس عشر الميلادي، وذلك على سبيل المثال فقط.
وفي ذات الإطار كتب الدكتور معتصم الحاج عوض الكريم ما نصه؛
" يعد السودان الشرقي قديماً، المعبر البري الآمن والأقرب والآهل بالسكان بالنسبة لقوافل الحجيج القادمة من العمق الأفريقي، وهو ما كان يعرف بطريق الحج القديم ( سواكن /تمبكتو ) ، الأمر الذي أعطى أهل البلاد فرصة التواصل مع أهل العلم والمعرفة من قبائل تلك البلاد التي تعبر بقوافلها وأحمالها براً لأداء فريضة الحج، حيث أدى موسم الحج إلى التواصل الفكري بين أطراف البلاد العربية والإسلامية " 1
وبخلاف الأثر الروحي والعلمي والثقافي الذي خلفه أولئك العلماء والفقهاء والمتصوفة الوافدون على أرض السودان، فقد تركوا أثراً اجتماعياً وبشرياً معتبراً أيضا، إذ أن جلهم قد آثر البقاء في السودان، فإما أن يتزوج الشيخ النازح فيه هو نفسه مثلاً، أو أن أبناءه وأحفاده يقيمون ويتزوجون فيه، ويخلفون ذراري ممتدة، ما تلبث أن تصير هب نفسها، جزءاً لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي في البلاد، والأمثلة على ذلك كثيرة.
وفي المقابل، اشتهرت أسماء لبضعة أعلام ذوي أصول سودانية، ممن ازدهر نشاطهم العلمي وإشعاعهم المعرفي والروحي خارج سودان وادي النيل، وذلك في إطار ما يعرف بالرحلات العلمية. ومما يذكر من هؤلاء على سبيل المثال: التابعي الجليل يزيد بن أبي حبيب النوبي ت سنة 128ه/ 745م ، وذو النون ثوبان بن إبراهيم الصوفي ت 248ه من المتقدمين، ومن المتأخرين على سبيل المثال فقط: الشيخ أبو العباس أحمد بن محمد اليمني السناري المالكي القادري، المولود بحلفاية الملوك في عام 1630م، والمتوفى والمدفون بمدينة فاس المغربية في حوالي عام 1712م. وهذا الشيخ السوداني، الذي هو في نظرنا، نموذج مثالي للعالم الرحالة من أجل طلب العلم وبثه معاً، هو تلميذ كل من الشيخين سليم راجل السيال الحلاوي 2، ودفع الله بن أبي إدريس العركي ت 1664م 3.
والملاحظ أن ود ضيف الله قد غفل عن الترجمة لهذا الشيخ الجوال، غالباً بسبب اختفائه لسنوات متطاولة عن المشهد في السودان، ووفاته ومواراته الثرى خارج أرضه، في الوقت الذي ترجمت فيه له ولشيخه الشيخ دفع الله بن أبي إدريس، بعض المصادر المغربية المعاصرة، مثل كتاب: نشر المثاني في علماء القرن الحادي والثاني للطيب القادري المغربي، وسلوة الأنفاس فيمن قُبر من العلماء والصالحين بمدينة فاس لمحمد بن جعفر الكتاني المتوفى 1345ه. 4
تبادل التأثير الروحي والعلمي والاجتماعي بين السودان وبلاد المغرب الكبير وبلادي السودان الأوسط والغربي
تعد بلاد المغرب العربي الكبير، وكذلك بلاد وسط وغرب أفريقيا، مصادر أساسية رفدت معطيات واقع الثقافة والاجتماع والتصوف والتعليم الديني والفقهي بصورة كبيرة في سودان وادي النيل.
فعلى سبيل المثال، ارتبط دخول أول طريقة صوفية إلى السودان تقليدياً، بشخصية مغاربية، هي من تطلق عليه الروايات الشفهية في البلاد اسم " الشريف حمد أبو دنّانة "، الذي وصل إلى السودان كما ورد في إحدى تلك الروايات الشفهية، في حوالي عام 1445م، وأقام بمنطقة " سقادي " بولاية نهر النيل بالقرب من بلدة المحمية، فطفق يعلم فيها الناس العلم الشرعي والفقه والقرآن، ويسلكهم في الطريقة الشاذلية. 5
وقد مضت ذات الرواية فضلاً عن ذلك في الواقع، إلى تأكيد أن ذلك الشيخ أبا دنانة ، قد كان صهر الصوفي المغربي الشهير الشيخ " محمد بن سليمان الجزولي " مؤلف كتيب الأدعية ومجموعة الصيغ المختلفة للصلاة على النبي الكريم الموسوم ب " دلائل الخيرات " ، بل راج بين السودانيين في سياق ذات الرواية السماعية، أن ذلك الشيخ أبا دنانة، قد أنجب سبع بنات تزوجن كلهن برجال سودانيين كانوا أعلاما ، فأنجبت كل واحدة منهن ولياً صوفياً كبيراً ونابه الذكر في البلاد، فصار أولئك الأولياء الصالحين أبناء خالات كما يزعمون. على أن من المستغرب حقاً أن الشيخ محمد النور بن ضيف الله 1727 – 1810م، لم يشر مطلقاً إلى هذه الجزئية من تلك الرواية الشفاهية المتواترة، في كتابه: الطبقات في خصوص الأولياء والصالحين والعلماء والشعراء في السودان، ولم ينص ولا في مرة واحدة، على صلة قرابة عن طريق الأمهات، بين أولئك الأولياء الذين اشتهر في الثقافة الشعبية، أنهم كانوا أبناء خالات.
وفي ذات السياق أيضا، يوقفنا الشيخ ولد ضيف الله ، على أن شيخا مغاربياً غامضاً اسمه الشيخ " عبد الكافي "، قد قدم على الشيخ السوداني إدريس بن محمد الارباب 1507 - 1651م، من المغرب بالخطوة، اي بسرعة خارقة للعادة على سبيل الكرامة، فسلكه في الطريقة القادرية. كما روى لنا ود ضيف الله أيضا، أن شيخاً مغاربياً آخر هو " الشيخ التلمساني المغربي " قد قدم على الشيخ السوداني " محمد ولد عيسى " الملقب بسوار الذهب ، فعلمه أحكام التجويد والقراءات القرآنية. وبالطبع فان النسبة " التلمساني " هذه، تحيل مباشرة إلى مدينة " تلمسان " ببلاد المغرب الأوسط، اي الجزائر الحالية. 6
وكذلك أشار ود ضيف الله في ذات السياق، إلى أن جد الشيخ الصوفي السوداني الشهير " حسن ولد حسونة " واسمه الحاج موسى، كان قدم إلى سلطنة الفونج بالسودان من الجزيرة الخضراء بالأندلس. 7
وتستمر مظاهر التأثير المغاربي والغرب افريقي على سودان وادي النيل حتى إلى القرن التاسع عشر الميلادي. ففي هذا القرن يظهر تأثير مدرسة شخصية صوفية مغاربية ذائعة الصيت هو السيد احمد بن ادريس الفاسي 1750 - 1837م، وذلك من خلال تعاليمه وأوراده وصلواته التي نقلها إلى السودان تلميذه السيد محمد عثمان الميرغني الختم 1793 - 1853م، إلى جانب بضعة عشر تلميذا سودانياً آخرين، تتلمذوا جميعهم مباشرة على يد السيد ابن ادريس، على نحو ما أورد أسماءهم، وترجم لهم باختصار، الدكتور يحي محمد إبراهيم في كتابه الموسوم: " تاريخ التعليم الديني في السودان "، وكذلك كتابه الاخر: " مدرسة أحمد بن إدريس المغربي وأثرها في السودان" 8
وقبل ورود الطريقة الإدريسية إلى السودان، كمظهر من مظاهر التأثير الصوفي المغاربي على سودان وادي النيل، عادت الطريقة الشاذلية مرة أخرى في طور ثان، بصورة أكثر وضوحاً إلى البلاد، وعلى نحو أمكن التحقق منه والتوثيق له، حيث برز تأثير هذه الطريقة على يد المدرسة الناصرية الدرعية المغربية، وروادها مثل الشيخ محمد بن محمد بن ناصر الدرعي ت 1676م، وابنه الشيخ احمد بن محمد بن ناصر الدرعي ت 1717م ، حيث انخرط في سندهما نفر من أعلام السودانيين، منهم كل من الشيخين خوجلي بن عبد الرحمن ابو الجاز 1645 - 1743م، و حمد المجذوب 1696 - 1776م ، وغيرهما. 9
على أن أكبر أثر روحي مغاربي المصدر مباشر على السودان الشرقي، يظل هو انتقال الطريقة التيجانية لمؤسسها الشيخ أبي العباس أحمد بن محمد المختار التجاني 1737 - 1815م اليه، وانتشارها على نطاق واسع بين ربوعه، وخصوصا في غرب البلاد، وذلك عن طريق بعض مشايخ هذه الطريقة وأعلامها مثل: محمد مولود فال الدغيبي الشنقيطي المتوفى في عام 1851م ، ومحمد المختار بن عبد الرحمن الشنقيطي الشهير بان العالية المتوفى في عام 1882م، وعمر قمبو الفلاتي المتوفى في عام 1918 وغيرهم. 10
ومما يذكر في هذا السياق أيضاً، أن أحد أبناء الشيخ المجاهد الحاج عمر تال الفوتي 1797 - 1864م ، يسمى " مُبشّر "، قد دخل إلى السودان في تاريخ غير معروف في عهد الحكم التركي " تصويب بعد النشر: أفادني البروفيسور الأمين أبو منقة بأنه يعتقد أن مبشر الفوتي قد وصل إلى السودان في حوالي عام 1905م "، وأقام فيه دهراً في قرية تسمى " دار السلام " تقع بالقرب من مدينة سنار على النيل الأزرق ، وأنه توفي ودفن في تلك القرية نفسها. وقد ذكره الشاعر الاستاذ إبراهيم الدلال الشنقيطي التيجاني وهو صديق للباحث، في منظومة شعرية له عن أعلام الطريقة التيجانية في السودان حيث قال:
صارَ بها في رفعةِ الأقمارِ
مُبشّرُ الفوتيُ في سنارِ 11
ولكن الشخص الأكثر شهرة حقيقةً، المنتمي إلى أسرة " الحاج عمر الفوتي" الذي ارتبط بالسودان، وزاره واتصل بعلمائه، هو الشيخ ألفا هاشم بن أحمد بن سعيد الفوتي، وهو ابن أخي الحاج عمر بن سعيد الفوتي، مؤسس الدولة التيجانية بغرب افريقيا.
هذا، ومع تسليمنا بقوة وسعة انتشار الاثر المغاربي، وأثر بلاد السودان الأوسط والغربي في الثقافة الدينية في سودان وادي النيل عموماً، إلا أننا نرى - مع ذلك - ميلاً عند بعض الباحثين، إلى الشطط والمغالاة في تقدير مدى تأثير ذلك الأثر في بعض الجوانب.
فمن ذلك مثلاً، الزعم بصورة مطلقة، ومن دون إبراز بينة أو دليل، بأن المذهب المالكي في الفقه، قد ورد إلى السودان لأول عهده به على الإطلاق، من بلاد شمال افريقيا ووسطها وغربيها، وهو زعم يعوزه الدليل المادي الملموس في تقديرنا.
وكذلك القول بأن الامام محمد احمد المهدي 1843 - 1885م ، قد استقى فكرة المهدية، من جراء تأثير كتابات وتعاليم الشيخ عثمان دان فوديو 1754 - 1817م ، وأعجب من ذلك الزعم ولو تلميحاً، بأن الخليفة عبد الله التعايشي، هو الذي زين للمهدي فكرة المهدية وشجعه على تبنيها، وإعلان نفسه المهدي، استناداً إلى التراث المهدوي الذي كان رائجا في بلاد السودان الأوسط. ، وفقاً لتلك الفرضية ذاتها.
ففيما يتعلق بانتشار مذهب الامام مالك بن أنس في السودان، فإننا نعتقد أنه ليس هنالك ما يمنع عقلاً، من أن يكون هذا المذهب قد قدم إلى أرض السودان ابتداءً وبصورة مستقلة، إما من مصدره بالحجاز مباشرة، الذي لم يكن بعيداً أو معزولاً حقاً عن بلاد السودان الشرقي، أو من مصر المجاورة، التي ازدهر فيها هذا المذهب بقوة في أول أيامه، وانتشر انتشارا واسعا، وخصوصا في الصعيد المجاور للسودان. كما أن أرض مصر قد شهدت في الواقع، بروز وازدهار أبرز أعلام المالكية المقدمين من أمثال: عثمان بن الحكم الجذامي ت 163ه، وعبد الرحيم بن خالد بن يزيد الجُمحي ت 153ه، وعبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن الخليفة أبي بكر الصديق ت 191ه، وقد كان من أقرب تلاميذ الإمام مالك إليه، وأكثرهم ملازمة له ، وبالتالي ربما لم يكن السودان النيلي – بحكم جواره الجغرافي الملاصق لمصر - محتاجاً لأن ينتظر، حتى يأتيه مذهب مالك من المغرب البعيد، وإن كنا نقر بأن مؤثرات مالكية مغربية لاحقة، من المؤكد انها قد وردت إلى السودان الشرقي، وعززت ما نفترض أنه قد كان يوجد فيه سلفاً من تراث مالكي تليد.
وعطفاً على ذلك، فإننا نميل في الواقع، إلى الاعتقاد فيما ظل يرجحه البروفيسور يوسف فضل حسن، من أن انتشار المذهب المالكي في السودان، قد تكرس حقيقةً، وتعزز علمياً ومعرفيا في المقام الاول، بفعل تأثير علماء المالكية في مصر، الذين تتلمذ على أيديهم نفر معتبر من فقهاء سودان وادي النيل إما مباشرة، أو وصلتهم مؤلفاتهم فاطّلعوا عليها. ومن أشهر اولئك علماء أعلام من أمثال: اللقاني، والبنوفري، وسالم السنهوري، والزرقاني، وعلي الأجهوري، والخراشي، والشبراخيتي، نزولا إلى عهد المتأخرين نوعاً ما مثل: أحمد الدردير، ومحمد الأمير، والصعيدي، والبليدي وغيرهم. 12
بينما في المقابل لا يكاد المرء يجد في سودان وادي النيل، أثراً واضحاً ومستفيضاً لتراث علماء مغاربة كبار معاصرين تقريبا لأولئك العلماء المصريين مثل الشيخ محمد عبد الكريم المغيلي التلمساني ت 1503م، ومن بعده كالونشريسي ت 914ه، والمعداني ت 1040ه، ومحمد بن الحسن بناني ت 1194ه، نزولاً إلى عهد الشيخ مختار الكنتي 1730 - 1811م، مع أن الجميع مالكية، وذلك إذا ما قورن بتأثير هؤلاء الأخيرين مثلاً، على المشهد العلمي والصوفي لبلادي السودان الأوسط والغربي على التوالي.
ولا يسعنا بالطبع، أن ننكر الحضور المؤثر في الساحة العلمية والمعرفية السودانية لطائفة من كتب الفقه المالكي، التي يرجع تأليفها لعلماء وفقهاء كبار من بلاد المغرب العربي مثل المدونة لسحنون،، وكتب السنوسي في العقائد، والسلم للأخضري وغيرها، على انه ليس هنالك دليل بانها قد وصلت إلى السودان مباشرة من المغرب، وليس عن طريق مصر المجاورة ، ووسطها المعرفي المالكي الأزهري مثلا.
اما الزعم بان الامام المهدي قد استقى فكرة المهدية من كتابات وأقوال الشيخ عثمان بن فودة ، او بإيحاء من قبل الخليفة عبد الله، فيُرد عليه بأن فكرة المهدية، قد كانت وما تزال في الواقع، مبذولة منذ قرون في كتب التراث الحديثي والصوفي الإسلامي مشرقاً ومغربا، ولم يكن المهدي بالتالي ، وخصوصاً بما عرف عنه من سعة الاطلاع والذكاء المتوقد وغزارة العلم، محتاجاً لأحد من غرب إفريقيا او شرقها، ليطلعه على فكرة المهدية، خصوصا وانه هو نفسه كان شيخاً مقدماً في الطريقة السمانية، وهي طريقة تهتم بالعلم والاطلاع وتحض عليهما، وخصوصاً النظر في مؤلفات بعض كبار المتصوفة التي فيها ذكر المهدي مثل كتابي " الفتوحات المكية " و " عنقاء مغرب " للشيخ محي الدين بن عربي 1165 - 1240 م، علماً بأن المهدي نفسه قد كان طالباً نجيباً للعلم من قبل ذلك، في عدد من مراكز العلم المرموقة في البلاد آنئذٍ، مثل مسيد ود عيسى وغيره. 13
وثمة بينة أخرى تدل على أن الإمام المهدي، قد راودته فكرة المهدية منذ زمان بعيد في الواقع، وقبل ان يلتقي بالخليفة عبد الله لأول مرة بالمسلمية في حوالي عام 1880م بنحو سنتين على الأقل كما سنرى، في مناسبة بناء قبة الشيخ القرشي ود الزين. وتلك البينة هي قول شيخه الأسبق الاستاذ محمد شريف ود نور الدائم في قصيدته الرائية، مشيراً إلى تاريخ إفضاء المهدي اليه ببلوغه رتبة المهدوية عن طريق ما يسمى بحساب الجُمّل:
لقد جاءني في عام زعٍّ بموضعٍ
على جبل السلطان في شاطئ البحرِ
والشاهد من تلك المنظومة هو قول الناظم الشيخ محمد شريف:
إلى الخمس والتسعين أدركه القضا
بما مضى في سابق العلم بالنشر
فقالَ أنا المهديُ فقلتُ له استقمْ
فهذا مقامٌ في الطريقِ لمن يدرِي .. الخ
فعام " زع " هو رمز للعام 1277هج، وهو يوافق العام 1861م، وذلك هو العام الذي التحق فيه المهدي لسلوك الطريق السماني على يد الشيخ محمد شريف نور الدائم . ذلك بأن حرف الزاي يقابله العدد 7 وحرف العين يقابله العدد 70، وبالتالي يكون التاريخ المقصود هو عام 1277هج وهو يوافق سنة 1861 ميلادية. ثم إنه صرح بأن تاريخ إفضاء تلميذه محمد أحمد له بمهديته، قد كان في عام 1295ه، الموافق لسنة 1878م. وهو كما نرى، تاريخ يسبق تاريخ مقابلته الاولى للخليفة عبد الله بعامين على الأقل، لأن اقتناع محمد أحمد نفسه بأنه قد صار المهدي، لا بد أنه سابق حكماً ومنطقاً لتاريخ إفضائه بهذا السر لشيخه السابق محمد شريف.
ولكن جميع ذلك لا ينفي البتة، إقرارنا بالدور الكبير الذي لعبته حركة الشيخ عثمان دان فوديو في تهيئة المناخ الفكري والعقدي، وخصوصاً الترويج الفكري، والاستنفار الشعبي لنصرة المهدي الذي تنبأ بظهوره في أرض النيل، وحث اتباعه على الهجرة اليها من أجل الجهاد تحت رايته، والوقوف إلى جانبه.
التعريف بقبيلة كنته وأصلها ومواطن انتشارها الجغرافي في الغرب الأفريقي
قبيلة " كنتة " هي قبيلة عربية مغاربية صحراوية، تنتشر في نطاق جغرافي واسع داخل الصحراء الأفريقية الكبرى، شاملة أجزاء من موريتانيا، والنيجر، وشمال مالي وجنوب الجزائر. بل توغلت منها بضعة جيوب بعيدا، فوصلت حتى إلى السنغال وغامبيا.
ويتمسك أفراد هذه القبيلة بالقول بالانتماء إلى الصحابي عقبة بن نافع الفهري، الفاتح المسلم العظيم الذي نشر لواء الدعوة الإسلامية في أراض واسعة من بلاد الشمال الإفريقي والمغرب العربي، وما جاورهما من بلدان في الصحراء الأفريقية.
ويبدو أن وجود قبيلة كنتة البشري، وإشعاعها الثقافي والروحي على الاقل، قد تجاوز مواطن سكنى أفرادها التقليدية، إلى مناطق اخرى نائية عنها إلى الجنوب والجنوب الغربي. وآية ذلك أن بطل رواية " الجذور " للكاتب الأمريكي من أصول إفريقية " أليكس هيلي "، اسمه " كونتا كونتي "، وإذ ذاك، فليس بمستبعد ان يكون ذلك الاسم، يعكس صدى لذلك الصيت الطائر الذي كان لقبيلة " كنتة "، وأدوارها المشهودة في نشر الإسلام وتعاليمه وعلومه في تلك الأصقاع.
ذلك بأن السياق التاريخي الذي تدور فيه أحداث تلك الرواية، هو سياق القرن الثامن عشر الميلادي، وهو عصر اشتداد وطأة حملات النخاسين الأوروبيين لاصطياد الزنوج الأفارقة، وشحنهم عنوة كرقيق على متن السفن العابرة للمحيط الأطلسي، لبيعهم في دول وأقاليم الأمريكتين المختلفة. وهو لعمري ذات القرن الذي ازدهر فيه نشاط الشيخ مختار الكنتي. أما البلاد التي أتى منها كوننا كونتي المذكور، وهو الجد الأعلى للمؤلف أليكس هيلي نفسه في الواقع، فهي جمهورية غامبيا الحالية التي تحيط بها السنغال من جميع الجهات، ولها ساحل ضيق للغاية، وإطلالة صغيرة فقط على المحيط الأطلسي.
وتشير المصادر إلى أن الموطن الأصلي لقبيلة كنتة هو منطقة " توات " بجنوب الجزائر، ومنها انداحت هذه القبيلة مهاجرة، فانتشرت في البلدان التي ذكرت آنفاً، واتخذتها مواطن لها من بعد.
وفي كل البلاد التي حلت بها قبيلة كنتة واستوطنتها، تبوأت هذه القبيلة موضع الصدارة والريادة اجتماعياً واقتصادياً وسياسيا وثقافيا وعلمياً، حيث خرج منها القادة، ومسيرو القوافل التجارية، والدعاة، والعلماء، والمتصوفة، ولعل من أشهرهم على الإطلاق الشيخ مختار الكنتي 1730 - 1811م، أبرز شيوخ الطريقة القادرية في غموم وسط وغرب افريقيا في القرن الثامن عشر الميلادي.
ورث الشيخ مختار الكنتي إرثاً علميا وروحياً باذخاً، ومكانة اجتماعية مرموقة داخل عامة بلاد السودان الغربي والصحراء الأفريقية، عن سلسلة من أسلاف أماجد له من قبيلة كنتة، كان من أبرزهم الشيخ عمر بن احمد البكاي الذي عاش في بحر القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين. وفي معرض التعريف بهذا الشيخ كتب الدكتور معتصم الحاج عوض الكريم ما يلي:
" أبرز زعيم للقبيلة الشيخ عمر بن أحمد البكاي الكنتي المولود في 1460م بالصحراء، وقد خلف والده في الزعامة الروحية لقبيلة كنتة، والتقى بالشيخ المغيلي التلمساني، شيخ الطريقة القادرية وناشرها بين أفراد القبائل الإفريقية الصحراوية والسودانية ( السودانية بالمعنى الواسع والشرح من الباحث )، وسافر معه إلى المشرق، حيث أدّى فريضة الحج، قبل أن يرجع الشيخ عمر ت 960 هج / 1553م بعد ذلك إلى الصحراء وبلاد السودان، صار الشيخ عمر أحمد البكاي مقدم الطريقة القادرية في المنطقة بعد وفاة شيخه المغيلي سنة 1553م ". 14
وهنا نود أن نلفت الانتباه إلى هفوة قد وقع فيها هذا الباحث ربما سهواً، وهي أنه قد نص على ان تاريخ وفاة الشيخ محمد بن عبد الكريم المغيلي التلمساني قد كانت في عام 1553م، في الوقت الذي تجمع سائر المصادر ذات الصلة إلى أنها قد حدثت في عام 1503م.
نبذة عن الشيخ مختار الكنتي وتأثيره الاجتماعي والروحي والسياسي عموما:
جاء في نسبه، أنه هو المختار بن أحمد بن أبي بكر بن محمد بن حبيب الله بن الوافي بن الشيخ سيدي عمر بن الشيخ سيدي احمد البكاي بن سيدي محمد الكنتي الذي يتصل نسبه بالصحابي عقبة بن نافع الفهري. واما والدته فهي للاّ مباركة بنت سيدي عبد القادر المدعو باد بن بدو اللمتوني الصنهاجي.
ولد الشيخ المختار الكنتي سنة 1142 هج / 1730م بإحدى قرى واحة أزواد " كثيب أغال " بصحراء شرق موريتانيا أو شمال غربي مالي، وتوفي سنة 1226 هج / 1811م.
وكانت منطقة أزواد، مركز رباط صوفي قديم، عرفت فيه الطريقة القادرية نشاطاً مكثفاً منذ القرن التاسع الهجري، بقيادة الشيخ احمد البكاي تلميذ الشيخ محمد بن عبد الكريم المغيلي التلمساني المتوفى عام 1503م. والشيخ احمد البكاي هو جد الشيخ مختار الكنتي، وجد قبيلة كنتة بفرعيها كنتة الحجر وكنتة أزواد. وهذا دليل على امتداد توارث هذا البيت للزعامة الروحية تالداً عن تالد.
وقد جاء أيضاً في معرض الحديث عن جذور الشيخ مختار الكنتي بمقال مبذول بالشبكة العنكبوتية، أن جده الشيخ أبا بكر هو مؤسس قصر المبروك بأزواد بشمال مالي، وأنه كان قد خرج أصلاً من " قصر الجديد " بتوات الحزائر حيث موطنهم الأصلي، في حوالي سنة 1718م، هو وأبناء أخيه الشيخ سيدي المختار بن محمد بن عمر بن الوافي، متجهاً إلى إقليم أزواد لنشر الدعوة الإسلامية. 15
كما جاء في سياق التعريف بالشيخ مختار الكنتي، وطرف من سيرته وتراثه، وحضوره المرموق في بلاد شنقيط وما اتصل بها من البلدان المجاورة، في مقال بعنوان: " الشيخ سيدي المختار الكنتي شيخ مشايخ موريتانيا وتمبكتو " نشر الكترونياً بموقع " بوابة أفريقيا الإخبارية " بتاريخ 14 اكتوبر 2014م، ما نصه مختصرا:
" شمل إشعاع الشيخ سيدي المختار الكنتي جميع بلاد الصحراء والسودان الغربي، وجذب الكثير من العلماء والفقهاء، ولعب دور المصلح الاجتماعي والداعية والمستشار والحكم في النزاعات، خاصة بين الطوارق الملثمين وبين السكان والقوافل التجارية الصحراوية المارة بالمنطقة. ويعطي كتاب " كنتة الشرقيون " لبول مارتي، 17 نماذج كثيرة من تلك الأدوار والنزاعات التي فضها الشيخ سيدي المختار … كما كانت له مراسلات مع القبائل الموريتانية التي كانت تنتجع إلى الغرب من تمبكتو، وراسل زعماء الطوارق، وأولاد علوش، وأولاد امبارك، وأولاد محمد أزناكي وايدوعيش.. كما راسل السلطان محمد بن مولاي عبد الله بن مولاي إسماعيل، إلى جانب صلاته القوية بإمارة " بورنو " الإسلامية و " إمارة هوسا وماسينا "…. وكان محمد البكر امير بورنو والمقاطعات المجاورة، يتراسل مع الشيخ ويبعث له الهدايا، وقد وضع نفسه تحت ادارته الروحية، وكذلك وضع أمراء الفلاّن وزعماؤهم لا سيما عثمان دان فوديو وأخاه الوزير عبد الله وابنه الوزير محمد بلو .. "16
حفظ المختار الكنتي القرآن الكريم في طفولته، ودرس سائر العلوم النقلية والعقلية ومهر فيها وتبحّر، على يد أستاذه الشيخ علي ولد النجيب، الذي سلكه في سلك الطريقة القادرية أيضاً، عبر سلسلة إسناد توصله بالشيخ محمد عيد الكريم المغيلي التلمساني ( ت 1503م )، الذي هو نفسه شيخ جده الأعلى الشيخ أحمد البكاي كما تقدم آنفا. وبعد ذلك أسس الشيخ المختار الكنتي زاوية " قصر الحِلّة "في حوالي عام 1754م للعبادة والذكر، وتدريس العلم والفقه، وتلقين الأحزاب والأوراد الصوفية. وذاع صيته، وشاع ذكره، فأمّهُ الطلاب والمريدون والعلماء من مختلف الأصقاع من بلدان شمال إفريقيا، وبلاد السودان الأوسط وخصوصاً الغربي، بل وصلت أخبار علمه وفضله وكراماته حتى إلى مصر وبلاد السودان الشرقي.
ومن آيات الشهرة والصيت الحسن الذي كان يتمتع به الشيخ المختار الكنتي في زمانه، حتى داخل بعض البلدان في المشرق الإسلامي مثل مصر على سبيل المثال، بما عرفت بها من مكانة مرموقة كمركز إشعاع علمي وثقافي ومعرفي ، وازدهار حضاري وعمراني وتجاري معتبر، ما توصل اليه هذا الباحث حدساً وبقرائن الاحوال ايضاً، ان العلامة الشريف محمد مرتضى الزبيدي الفقيه والمحدث واللغوي الشهير مؤلف معجم " تاج العروس من جواهر القاموس "، الذي ولد ببلدة بلغرام بالهند في عام 1732م، وتوفي ودفن بالقاهرة في عام 1791م، بعد حياة علمية عامرة وخصبة، من المرجح أنه قد كان يعرف الشيخ مختار الكنتي ويراسله، ومن المؤكد أن بينهما تلاميذ مشتركين أخذوا عن كليهما.
أما علاقة المختار الكنتي بمحمد مرتضى الزبيدي، فتحسب أنه يدل عليها ضمناً قول الزبيدي نفسه في معرض ترجمته التالي نصها، لتلميذه " محمد بن عبد الله الكُنتاوي المغربي":
" عبد الله بن محمد الكنتاوي المغربي، الشيخ الصالح المتعبّد. أخذ ببلاده عن المختار بن أبي بكر نزيل أدوات ولازمه واعتنى به وانتفع به. ورد إلينا حاجّاً في سنة 1194 هج مع الركب التواتي، وتوجه إلى الحرمين، وحضر على الشيخ صالح الفوتي شيئاً من دروسه، وعاد مع الركب المصري، فسمع مني في 26 صفر 1195 هج من لفظي الاولية والشعر، وحديث إنما الأعمال بالنيات.. ثم صار يلازمني في أكثر الأوقات، وذكر لي عن شيخه صاحب أزوات أخباراً عجيبة، سنذكر بعضها في ترجمته، وأخذ له مني كتاباً بعد أن بلّغ سلامه لي، وكتبت له إجازة حافلة، وأجازني في بعض الفوائد، وتوجّه إلى بلاده بارك الله فيه ". 18
من مظاهر الحضور الروحي للشيخ مختار الكنتي في السودان الشرقي
لم يكن أهل سودان وادي النيل عموماً، بمعزل عن أخبار صلاح الشيخ مختار الكنتي وورعه وعلمه وتقواه، وسعيه الدؤوب في الدعوة إلى الله، وعمله المخلص من أجل تسوية الخصومات والإصلاح بين الناس. هذا، على الرغم من ندرة وجود سلاسل إسناد فقهيه أو صوفية صريحة داخل السودان، تمر عبر هذا الشيخ الصوفي قادري الطريقة، ذائع الصيت في عصره، علما بأن الطريقة القادرية تعد من أقدم الطرق الصوفية، وأوسعها انتشارا في السودان.
ولعل ما جاء في الفقرة التي تتحدث عن الإشعاع الروحي والسياسي والاجتماعي للشيخ مختار الكنتي في بلاد شنقيط وما جاورها من ديار وممالك بالصحراء الأفريقية، وجنوباً منها في حزام الساحل الأفريقي، والتي استشهدنا بها اقتباساً من ذلك المقال المذكور آنفاً بعنوان: " الشيخ سيدي مختار الكنتي شيخ مشايخ موريتانيا وتمبكتو "، يفسر ضعف، أو على الاقل عدم بروز الحضور الإسنادي للشيخ الكنتي في السودان الشرقي على نحو مشهور. ذلك بأن تلك الفقرة لم تشر إلى أية دولة من دول سودان وادي النيل الإسلامية القديمة، ولا حتى سلطنة دارفور الملاصقة جغرافياً لسلطنات بلاد السودان الأوسط، فتثبت فيها مثلاً، أنه قد كان للشيخ الكنتي تواصل أو مراسلات مع سلاطينها.
بيد أننا نعتقد أن السند المختاري الكنتي، لا بد انه قد وصل إلى ارض السودان وانتشر فيه حكما، وخصوصا بعد هجرة طوائف من أحفاد واتباع ومريدي الشيخ عثمان دان فوديو 1754 - 1817م إلى سودان وادي النيل، استجابة لدعوته لهم قبل وفاته بوجوب الهجرة إلى ارض النيل من اجل نصرة المهدي الذي تنبأ بظهوره هناك، تلك الهجرة التي تحققت بالفعل في مطلع القرن العشرين على اثر قضاء قوات الاحتلال البريطاني على الخلافة الصكتية التي كان قد أسسها الشيخ المجاهد عثمان دان فوديو في عام 1804م والمعروف هو أن الشيخ مختار الكنتي ، قد كان أحد شيوخ سلسلة سند الشيخ عثمان دان فوديو في الطريق القادري.
وتأسيساً على ذلك، فانه يغدو من المتصور عقلاً، أن يكون من بين اولئك المهاجرين من سلطنة صوكتو إلى السودان، من كانوا محتفظين بسلاسل إسناد توصلهم بالشيخ المختار الكنتي وان غابت عنا أسماؤهم وسيرهم.
على أن من مظاهر أثر الإشعاع الروحي للشيخ مختار الكنتي في أرض السودان على سبيل المثال، ما أورده الدكتور يحي محمد إبراهيم في كتابه " مدرسة احمد بن ادريس المغربي في السودان "، نقلاً عن كتاب " الوسيلة إلى المطلوب " للشيخ محمد الطاهر المجذوب، في مناقب الشيخ محمد المجذوب بن قمر الدين 1796 - 1832م، وهو ما نصه:
" ومن هؤلاء أحمد بن ادريس الذي قال فيما روى إبراهيم الرشيد : " لو يعلم الناس ما في المجذوب لتركوا جميع الصالحين، وأتوا إلى بابه لما له من الكرامة والمنزلة عند الله "… وقال عنه الشيخ مختار الكنتي: إن الله جمع في المجذوب خصائص لم يجمعها في غيره من الأولياء، وأنه أوتي من الهبات ما بلغ به من الكمال منتهاه. وأضاف أنه " ما زاغ عن الشريعة في حياته كلها، ولا جرّه الباطل إلى أن يفعل أو يقول في حال غيبته ما يخالف ظاهر الشرع ".19
وسواء ثبت هذا القول المنسوب إلى المختار الكنتي في حق محمد المجذوب بن قمر الدين وصحّ، أو لم يثبت ويصح تاريخياً، خصوصا نظراً لأنه لما توفي الشيخ المختار الكنتي في عام 1811م، كان الشيخ المجذوب صبياً في نحو الخامسة عشرة سنة فقط من عمره. ومع ذلك فإن دلالة هذا الشاهد، تكمن في قيمته المعنوية والرمزية في حد ذاتها، حيث انها تدل ضمناً على تأكيد التواصل الروحي الثابت قطعاً، ولو على مستوى الخواطر والأشواق والكرامات الصوفية عابرة الحدود، بين المسلمين في سودان وادي النيل، وإخوانهم في سائر الفضاء الإسلامي، الممتد من لدن سواحل البحر الأحمر شرقاً، وصولاً إلى سواحل المحيط الأطلسي غرباً، عبر الصحراء الكبرى، وبلادي السودان الأوسط والغربي على التوالي.
الشيخ زين العابدين الكنتي: أبرز مظاهر الحضور الكنتي الملموس في السودان
قدم إلى سودان وادي النيل، منذ حوالي أربعينيات القرن التاسع عشر على أقل تقدير، أي في بحر النصف الاول من عهد الحكم التركي للبلاد، حفيدٌ مباشر للشيخ مختار الكنتي، يسمى الشيخ زين العابدين بن الشيخ حبيب الله بن الشيخ مختار الكنتي.
أما افتراضنا أن الشيخ زين العابدين الكنتي قد وصل إلى أرض السودان، وحل بمدينة بربر في أربعينيات القرن التاسع عشر تخميناً، لأن هنالك رسالة وصلت إليه من بعض أقاربه ببلاده الأصلية بمنطقة أزواد بالصحراء الأفريقية. والشاهد هو أن تلك الرسالة مؤرخة بسنة 1265 ه، التي توافق سنة 1848م.20
حل الشيخ زين العابدين الكنتي بمدينة بربر، غالباً عند قفوله من أداء مناسك الحاج في طريق عودته لبلاده، وأقام بها بقية حياته، إلى أن وافته المنية بها في عام 1283ه/1866م، ووري جثمانه الثرى بإحدى مقابرها، وضربت على قبره قبة ظاهرة، كانت ما تزال قائمة حتى إلى بضعة عقود خلت، إلا أن بناءها قد تضعضع وتهدم، حتى اندثرت في نهاية المطاف، غالبا بسبب الظروف المناخية والفيضانات، وربما بسبب الإهمال أيضا.
وقد شاهد تلك القبة في حوالي عام 1909م، رحالة فارسي زار السودان وساح فيه في ذلك التاريخ، اسمه: محمد مهري كركوكي، وأثبت ذلك في كتاب له بعنوان: " رحلة مصر والسودان " ، جاء فيه فيما يتعلق بالشيخ زين العابدين الكنتي ما نصه هذا:
" وفي بربر قبة تُزار للشيخ زين العابدين المنتسب إلى بني أمية. قيل إنه جاءها من شنقيط ببلاد المغرب، وتوفي سنة 1283 هجرية، وكان على الطريقة الجيلانية الكنتية ". 21
لا تسعفنا ما بين أيدنا من مصادر - مع الأسف - بشيء فيما يتعلق بظروف وملابسات وصول الشيخ زين العابدين الكنتي إلى السودان، كما لا توقفنا على تاريخ وصوله إلى مدينة بربر على وجه الدقة والتحديد، فضلا عن أية معلومات محددة، حول تفاصيل نشاطه الدعوي والتعليمي والصوفي والاجتماعي بتلك المدينة والمنطقة المجاورة لها، ولا عن حياته الاجتماعية والأسرية، وعما إذا كان قد قدم بزوجته ، ام أنه تزوج ببربر وخلف بها ذرية من صلبه أم لا، كما لا توجد نصوص خطية تشير صراحة إلى أشهر تلاميذه ومريديه، ولا إلى اشخاص بأعيانهم في منطقة بربر أو غيرها بالسودان، يندرجون في سلسلة سند هذا الشيخ في الطريقة القادرية ، عن طريق جده الشيخ المختار الكنتي الكبير، وذلك مثلاً على غرار التوثيق الجيد، المتواتر شفاهة والمكتوب أيضاً، الذي حظي به أبناء وتلاميذ علم صوفي شنقيطي آخر معاصر له تقريباً، هو الشريف محمد المختار بن عبد الرحمن الشنقيطي الشهير بولد العالية 1820 – 1882م، دفين جزيرة " أم حراحر " بالقرب من شندي.
على أنه في سياق بعض المداخلات والردود اللافتة للانتباه حقاً، على بضعة استفسارات وجهها كاتب هذه السطور إلى صديق له من أبناء بربر، عما عسى أن يكون متوفراً لديه من معلومات حول شخصية الشيخ زين العابدين الكنتي دفين بربر، وخصوصاً حياته الأسرية، وعما إذا كان قد خلّف ذرية في بربر أم لا، ومن هم تلاميذه وحواريوه الذين درسوا عليه العلم، أو سلكوا على يده الطريقة القادرية المختارية الكنتية؟ ، وقام ذلك الصديق بدوره بإحالة تلك التساؤلات عبر تطبيق واتساب إلى بعض " قروبات " أبناء مدينة بربر، استوقفت الباحث في الواقع، هذه المداخلة المتينة والمثيرة للانتباه حقا، بغض النظر من حظها من الصحة والدقة في جميع تفاصيلها:
" الشيخ زين العابدين مشهور. نشر الطريقة الكنتية للشيخ مختار الكنتي بالمغرب، وأخذها منه أهل الدِكّة تحديدا. وخلف ذرية، اعتقد الوهاهيب بالدكة، والمباركاب بالقدواب .. وجزء من الشوافعة من آل البكّاي. ومن تلاميذه كذلك آل الشكلي " أ.ه 22
من الواضح ان صاحب المداخلة المقتبسة أعلاه للتو، على دراية حسنة بسيرة الشيخ زين العابدين الكنتي وببعض ملابسات إقامته في بربر، وبالمجموعات التي اتصل بها وارتبطت به في تلك المدينة. ومن المحتمل أن يكون " آل البكاي " المذكورون ببربر، إما من ذرية الشيخ زين العابدين الكنتي من صلبه، أو أن يكونوا على الأقل من بين أقرب مريديه اليه، بدليل أن أحد أسلافهم، قد سُمي أحمد البكاي تيمناً بالشيخ البكاي الكنتي غالباً، وذلك بقرينة لقبهم " البكاي "، وهو لعمري لقب نادر في السودان، بينما هو لقب الجد الأعلى لعشيرة الشيخ مختار الكنتي.
وعلى ذكر الأسماء والكنى والألقاب، وهي بكل تأكيد معطيات لها دلالاتها التاريخية والثقافية والاجتماعية غير المنكورة، فان من الملاحظ بالفعل وجود الاسم " زين العابدين " نفسه بصورة ملحوظة داخل مدينة بربر، واذ ذاك، فإننا لا نستبعد أن تمثل هذه التسمية، صدى لإرث الشيخ زين العابدين الكنتي الذي خلفه في تلك المدينة.
ومن آيات سداد هذه المداخلة أيضا، نص صاحبها على أن آل الشكلي كانوا من تلاميذ الشيخ زين العابدين الكنتي أيضا. ومما يعضد ذلك استناداً إلى المصادر الخطية ذات الصلة، أن أحد نساخ بعض الوثائق التي خلفها الشيخ زين العابدين الكنتي في بربر، كان يحمل لقب الشكلي بالفعل.
فقد علق ناسخ القطعة رقم (10) من مجموعة الرسائل الأثرية المتبادلة بين الشيخ زين العابدين الكنتي، وبعض أقاربه بإقليم أزواد بصحراء موريتانيا ومالي، التي جمعها واعتنى بتحقيقها ودراستها وثائقيا، الدكتور معتصم الحاج عوض الكريم، وهو مخطوط جواب من الشيخ أحمد البكاي إلى الشيخ زين العابدين، علق ذلك الناسخ في أسفل ذلك النص الذي نسخه من الأصل في عام 1327 ه / 1908م بما يلي بخط يده: " أ ه وبالله التوفيق على يد كاتبه أحمد البكاي بن محمد الوقيع أحمد محمد الشكلي " 23
واستناداً إلى ذلك، يغدو من الراجح بل شبه المؤكد، أن أسرة الشكلي البربراوية، قد كانت تربطها علاقة خاصة بالشيخ زين العابدين الكنتي، وأنها ربما كانت المشرفة والقيمة على تراثه الروحي والمعرفي والعلمي بعد وفاته. وقد تجلت الصلة الحميمة بينهم وبين التراث المختاري الكنتي عموماً، في أن أحد أسلافهم كان يسمى " أحمد البكاي " كما رأينا آنفا.
خاتمة
مما تقدم، تتضح لنا أهمية مدينة بربر ودورها التاريخي، كملتقى طرق قوافل كثيرة كانت تحط بها، قادمة إليها من مختلف المناطق من داخل السودان وخارجه، أو منطلقة منها إلى مختلف البلدان والمناطق بالداخل والخارج كذلك. وقد كانت أبرز تلك القوافل وأجدرها بالملاحظة والتنويه، هي قوافل الحجاج الأفارقة الذي كانوا يعبرون أرض سودان وادي النيل، مروراً بعدد من أبرز مدنها ومراكزها الحضرية الشهيرة آنئذ مثل: بربر، وكوبى، والفاشر، والأبيض، والمسلمية، والحلفاية، وسنار، وشندي، ودنقلا، وسواكن وغيرها.
والراجح وفقا لذلك السياق، أن الشيخ زين العابدين الكنتي، قد كان على المرجح أحد أولئك المسافرين الذين سلكوا طريق الحج عبر أرض السودان، ولسبب ما، طاب له المقام في ربوعه، واتخذه موطنا له، حتى وافته المنية، ودفن في ثراه بمدينة بربر.
ولا شك أن قصة الشيخ زين العابدين الكنتي وإقامته بمدينة بربر لنحو عقدين من الزمان، ثم وفاته بها ، تمثل في حد ذاتها فصلاً باذخ الثراء، في سفر ضخم، يعكس دور السودان الشرقي بوصفه مقصدا للرحلة العلمية، ومهاجراً محبذاً لنشر العلوم الدينية والفقه والتصوف بصفة عامة، على غرار زيارة السيد محمد عثمان الميرغني الختم الكبير 1793 -1853م من الحجاز إلى السودان في حوالي عام 1816م ، وما تركته من آثار كبيرة في السودان على مختلف الأصعدة، على سبيل المثال.
كما تجسد زيارة الشيخ زين العابدين الكنتي إلى السودان وإقامته فيه بكل تأكيد، قوة العلاقة الروحية والاجتماعية بين السودان والفضاء الأفريقي الصحراوي والمغاربي بصفة عامة، بل تمثل انعكاسا ملموسا لحضور تراث الشيخ مختار الكنتي بالتحديد، ممثلا في دور حفيده المباشر الشيخ زين العابدين بن الشيخ حبيب الله بن الشيخ مختار الكنتي خاصة.
إن هذه الواقعة التي وجدت حظها من الالتفات إليها مؤخرا لحسن الحظ، من قبل نفر من الباحثين الوطنيين، مثل الدكتور عوض الكريم وأضرابه، وخصوصا بعض الباحثين بجامعة وادي النيل، تمثل في الواقع، غيضاً من فيض فقط ،من قدر هائل من القصص والوقائع المماثلة التي كان مسرحها مختلف حواضر السودان كما يجوز لنا أن نفترض ، والتي لم تتجاوز حتى الآن نطاق الروايات الشفاهية، وهي وقائع ذات صلة وثيقة بجوانب مضيئة وجديرة بالدراسة والتوثيق والنشر، في سياق تاريخ السودان الثقافي والاجتماعي، وخصوصاً في إطار تاريخ التواصل الثقافي والروحي والاجتماعي بين السودان ومحيطه العربي والإفريقي والإسلامي بصفة عامة، ولم يجتهد الباحثون المعنيون الاجتهاد اللازم والكافي بعد في تقديرنا، في العكوف على التنقيب فيها ودراستها، وقد آن لهم أفراداً ومؤسسات، أن يفعلوا ذلك بكل تأكيد.
• لأغراض الاقتباس والتوثيق، نُشر هذا المقال بالعدد رقم 31 من مجلة القُلزُم للدراسات التاريخية والحضارية، إصدار مركز بحوث ودراسات حوض البحر الأحمر، مايو 2024م ص 47 – 62.
هوامش وإحالات مرجعية:
1- معتصم الحاج عوض الكريم، "مدينة بربر السودانية والروابط الثقافية للرحلة الحجازية: دراسة وثائقية لرسائل السادة الكنتية"، مقال، مجلة رفوف، مخبر المخطوطات الجزائرية في إفريقيا، جامعة أدرار، الجزائر، العدد الحادي عشر، مارس 2017م، ص 167.
2- انظر ترجمته في كتاب الطبقات في خصوص الأولياء والصالحين والعلماء والشعراء في السودان تأليف محمد النور ولد ضيف الله، تحقيق يوسف فضل حسن، دار جامعة الخرطوم للطباعة والنشر، الطبعة الثالثة، 1985م، ص 205.
3- كتاب الطبقات لود ضيف الله، المصدر أعلاه، ص 222.
4- يوسف فضل حسن، ملامح من العلاقات الثقافية بين المغرب والسودان، منشورات معهد الدراسات الإفريقية، جامعة محمد الخامس، الرباط، المغرب، 2005م، ص 56 – 58. وأفادني صديقي الخليفة مجاهد أحمد النور الزاكي، عن ترجمتيْ الشيخ أحمد اليمني وشيخه دفع الله بن محمد أبي إدريس معاً، في كتاب سلوة الأنفاس المذكور للكتاني.
5- يوسف فضل حسن، مقدمة في تاريخ الممالك الإسلامية في السودان الشرقي 1450 – 1821م، دار سوداتك المحدودة للنشر، الخرطوم، الطبعة الخامسة، 2012م، ص 139.
6- كتاب الطبقات لمحمد النور بن ضيف الله، مرجع سبق ذكره، ص 41.
7- الطبقات، المرجع أعلاه، ص 133.
8- يحي محمد إبراهيم، مدرسة أحمد بن إدريس المغربي وأثرها في السودان، دار الجيل، بيروت، ص 344 – 375.
9- عن سند الشيخ حمد المجذوب في الطريقة الشاذلية الناصرية الدرعية، انظر ترجمة هذا الشيخ في الطبقات، الطبعة المشار اليها أعلاه ص 188، وانظر أيضا كتاب: أحمد الدردير الحضيري: المسك والريحان فيما احتواه من بعض أعلام فزان، الشركة العامة للورق والطباعة، الخُمس، ليبيا، 1996م، ص 61.
10- خالد محمد فرح، تاريخ التواصل والرحلات والإجازات العلمية في سودان وادي النيل في القرن 12ه/18م: الشريف مرتضى الزبيدي وتلاميذه أنموذجا، رسالة ماجستير، جامعة الزعيم الأزهري، السودان، 2020م، ص 104.
11- من إفادة شفهية مباشرة من صديقي الأستاذ إبراهيم الدلال الشنقيطي قبل بضعة أعوام.
12- خالد محمد فرح، تاريخ التواصل، مرجع سبقت الإشارة إليه، ص 76.
13- حول فكرة المهدية عند الامام محمد أحمد المهدي، وما قيل عن تأثره بأفكار الشيخ عثمان دان فوديو، يمكن الرجوع الى مصنفات مثل: الحركة الفكرية في المهدية لمحمد إبراهيم أبو سليم، والصراع بين المهدي والعلماء لعبد الله علي إبراهيم، ثم كتابات البروفيسور يوسف فضل حسن، وخصوصاً كتابات الدكتور فتحي حسن المصري، والبروفيسور محمد أحمد الحاج، والبروفيسور الأمين أبو منقة وغيرهم، فيما يتعلق بصلة المهدي بأفكار الشيخ عثمان بن فودة.
14- معتصم الحاج عوض الكريم، " مدينة بربر السودانية والروابط الثقافية للرحلة الحجازية " مرجع سبقت الإشارة إليه، ص 169.
15- من مقال عن سيرة الشيخ مختار الكنتي بموسوعة ويكبيديا الالكترونية www.wikipedia.org ، مستخدم أبو عامر الكنتي – ويكبيديا.
16- من مقال بعنوان: " الشيخ سيدي المختار الكنتي شيخ مشايخ موريتانيا وتمبكتو "، نشر بموقع " بوابة افريقيا الإخبارية " الالكتروني، بتاريخ 17/10/2014م.
17- بول مارتي Paul Marty 1882 – 1938م، فرنسي الجنسية، ضابط ومترجم وموظف كبير بالإدارة الاستعمارية الفرنسية في إفريقيا، كان مسؤولاً عن الشؤون الإسلامية، وعن الإدارة الأهلية وشؤون القبائل والأعراق بمستعمرات غرب إفريقيا الفرنسية. كان مجيداً للغة العربية، وله عدة مؤلفات عن الإسلام في غرب افريقيا، ومن أشهرها كتاب " كنتة الشرقيون " المذكور الذي صدر في عام 1920م.
18- خالد محمد فرح، " تاريخ التواصل والرحلات والإجازات العلمية "، بحث ماجستير، سبقت الإشارة إليه، ص 291.
19- يحي محمد إبراهيم، مدرسة أحمد بن إدريس المغربي وأثرها في السودان، مرجع سبق الإشارة إليه، ص 362.
20- معتصم عوض الكريم، مدينة بربر السودانية، مرجع سابق، ص 193.
21- محمد مهري كركوكي، رحلة مصر والسودان، مطبعة الهلال بالفجالة، مصر، 1914م، ص 313.
22- إفادة وصلت للباحث عن طريق زميله وصديقه السفير عبد الباسط بدوي السنوسي، وهو ينتمي إلى واحدة من الأسر العريقة بمدينة بربر.
23- معتصم الحاج عوض الكريم، مرجع سابق، ص 197 – 198.
////////////////////////////////////
مطالعة في دفاتر الاتحاد الأوروبي
زين العابدين صالح عبد الرحمن
أعلن مجلس الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات على ستة شخصيات سودانية منهم قيادات في الجيش و أخرى من ميليشيا الدعم و سياسيين و هذه تعد المرة الثانية التي يفرض فيها الاتحاد الأوروبي عقوبات، حيث كان قد فرض عقوبات في الأولى في يناير 2024م، و قال الاتحاد معللا فرض عقوباته أن هؤلاء يعيقون عملية التحول الديمقراطي في البلاد و استقرارها. و إذا نظرنا إلي ممارسات الاتحاد الأوروبي قبل و بعد ثورة ديسمبر 2018م، نجد أن أنشطة الاتحاد الأوروبي ليس معوقة للعمل السياسية بل هي ساهمت في وصل البلاد إلي هذه الحرب..
قدم الاتحاد الأوروبي العديد من الإسهامات المادية، و التمويل المالي قبل الثورة إلي قيام ورش لعدد من المنظمات المدنية يهدف إلي التدريب في عدة مجالات تتعلق بعملية التحول الديمقراطي، خاصة التعريف بموجبات الديمقراطية و ثقافتها إلي جانب إدارة الإزمات، و فتح حوارات في المجتمع، إلي جانب تأسيس عدد من منظمات المجتمع المدني في نشاطات متنوعة و مختلفة و خاصة بالجندر، و جميعها تحت شعار إنتاج ثقافة ديمقراطية و نشرها في المجتمع على أن تساعد الأجيال الجديدة في مسعاها الداعي لتحول ديمقراطي في البلاد.. و أيضا قدمت الدولتان اللتان تعتبران العمود الفقرى للإتحاد الأوروبي" فرنسا و المانيا" دعوات لعدد من القوى السياسية و الحركات لقيام ورش في بلديهما تساعدان على عملية التحول الديمقراطي خاصة لمجموعة "نداء السودان" المكونة تحالفيا من عدد من الأحزاب و الحركات المسلحة بقيادة الإمام الصادق المهدي.. و كل ذلك كان مفهوما الهدف منه هو التحول الديمقراطي في السودان.. و قدم الاتحاد الأوروبي و عدد من دوله مساعدات مالية إلي عدد من المنظمات و المركز الإعلامية لقيام ورش و نشاطات الإعلامية..
بعد الثورة بدأ نشاط الاتحاد الأوروبي في السياسة يزداد و أغرب شيء...! أن الاتحاد الأوروبي قدم ميزانية مالية لرئيس الوزراء عبد الله حمدوك عبارة عن مرتبات للعاملين في مكتبه و ليس للحكومة السودانية.. و نسأل الاتحاد الأوروبي و وفقا للمعايير الديمقراطية التي تؤسس على القوانين إليس كان الأفضل أن تقدم المساعدة للحكومة السودانية عبر مؤسساتها.. و وفقا لتلك المعايير أيضا يجب أن يحدثنا أي مسؤول في الاتحاد الأوروبي أو مسؤول في أي دولة من دول الاتحاد هل يمكن أن تقبل أن تدفع مرتبات حكومتها من دولة أو اتحاد خارجي.. و إذا كانت الإجابة لا لماذا لم يلفت الاتحاد نظر رئيس الحكومة أن هذا الدعم المقدم يجب أن يظهر في ميزانية الدولة.. الغريب أن رئيس الوزراء لم يصرح به بهل هي معلومات مسربة من المكتب..
أن قبول حمدوك دعما مغطى من الاتحاد الأوروبي دون أن يجعل الدعم يمر عبر وزارة المالية أصبح مثله مثل الجنرال فيليب بيتان مؤسس دولة فيشي في فرنسا، و الذي تعاون مع النازيين الذين احتلوا بلاده و نصبوه رئيسا عليها، الغريب في الأمر كل الأحزاب السياسية و الحاضنة السياسية لم تعلق على ذلك مطلقا، كأنهم كانوا موافقين على ذلك بالسكوت. هل كانوا يتنبأون أن الحرب قادمة و سوف تشرد القيادات السياسية؟ .. الملاحظ أن العديد من القيادات السياسية كانت تذهب و تشارك في الورش و الندوات و المحاضرات التي يقيمها الاتحاد الأوروبي و الدول التابعة له، و يعلمون أن الاتحاد الأوروبي لا يقدم ذلك لسواد اعين السودانيين، و دلالة على ذلك لم يتم التنبيه لرئيس الوزراء أن من أهم القواعد الجوهرية التي تؤسس عليها الديمقراطية احترام القوانين و الشفافية و النزاهة..
أن الاتحاد الأوروبي و كل أجهزة مخابرات دوله و سفارات دوله كانوا على علم أن هناك عملية انقلابية جاري الإعداد لها، و أن هناك قوى سياسية مشاركة و ضالعة في ذلك، حتى البعث الأممية بقيادة فوكلر كانت جزء من العملية... لذلك سارعت دول الأوروبية و أمريكا بالموافقة على سحب البعثة على شرط أن لا يتم مناقشة بنود الصرف المالي الذي قامت به البعثة الأممية.. أن الاتحاد الأوروبي كان على علم بكل مجريات التخطيط للعملية الانقلابية في ذلك الوقت لم يكن يعلم الاتحاد الأوروبي أن الانقلاب سوف لن يقود إلي الديمقراطية، و أنه سوف يقوض عملية الاستقرار في البلاد و ربما يؤدي إلي حرب.. هل كان الاتحاد الأوروبي متيقن أن الانقلاب كان سوف ينجز بنجاح و لا داع للتساؤلات..
هل الاتحاد الأوروبي الذي يفرض عقوبات على قيادات في البلاد بسبب الحرب التي يعتقد أنها تؤذى المواطنين و تقوض الاستقرار لا يعلم أن وراء الحرب دول داعمة للميليشيا و خاصة دولة الأمارات و عدد من دول جوار السودان التي فتحت حدودها لتمرير المرتزقة و الدعم العسكري و التشوين.. أن الاستقرار السياسي في البلاد يتم بإتفاق أبناء الوطن، و أي دعم لمجموعة من قبل الاتحاد الأوروبي أو أمريكا و حلفائهم لن يخلق استقرارا في البلاد، و أي حوار خارج البلاد لن يؤدي إلي الحل.. على المسؤولين في الاتحاد الأوروبي أن يفيقوا أن زمن فرض الحلول على الشعوب انتهى... نسأل الله حسن البصير’
zainsalih@hotmail.com
////////////////////////////
دعونا نضع حداً لحرب الضعفاء هذه: الجزء الثالث
بروفيسور إبراهيم أحمد البدوى عبد الساتر
وزير المالية والتخطيط الاقتصادي السابق
يونيو، 2024
بسم الله الرحمن الرحيم
نواصل في هذا الجزء الثالث والأخير من المقال استدعاء الدروس والعِبَر من تراثنا العربي-الأفريقي المزدوج عن نِعَم ومِنَن السلام وعظمة من قيضهم الله سبحانه وتعالى لبنائه، لما لهذه العِبَر والدروس من دلالاتٍ عظيمة لحالنا ومآلنا في ظل هذه الحرب المأساوية.
الرسالة الأولي لمعلقة شاعرنا الحكيم زهير بن أبي سلمي والتي استعرضناها في الجزء الثاني كانت عن ويلات ومآس ي الحروب الأهلية، بينما الرسالة الثانية مثار هذا الجزء لهذه المعلقة التي تنضح بالحكمة تتمثل في احتفاء الشاعر
ببناء السلام وإصلاح ذات البين والبذل والعطاء في سبيل ذلك، حيث أبدع في مدح الحارث بن عوف وهرم بن سنان، صانعي السلام. وكان هذان السيّدان من أشراف بني ذبيان قد أديا من مالهما الخاص دِيّات القتلى من الفريقين، وقد بلغت بتقدير بعضهم ثلاثة آلاف بعير:
سَعى ساعِيا غَيظِ بنِ مُرَّةَ بَعدَما تَبَزَّلَ ما بَينَ العَشيرَةِ بِالدَمِ
فَأَقسَمتُ بِالبَيتِ الَّذي طافَ حَولَهُ رِجالٌ بَنَوهُ مِن قُرَيشٍ وَجُرهُمِ
يَميناً لَنِعمَ السَيِّدانِ وُجِدتُما عَلى كُلِّ حالٍ مِن سَحيلٍ وَمُبرَمِ
تَدارَكتُما عَبساً وَذُبيانَ بَعدَما تَفانوا وَدَقّوا بَينَهُم عِطرَ مَنشِمِ
وَقَد قُلتُما إِن نُدرِكِ السِلمَ واسِعاً بِمالٍ وَمَعروفٍ مِنَ الأمَرِ نَسلَم
فَأَصبَحتُما مِنها عَلى خَيرِ مَوطِنٍ بَعيدَينِ فيها مِن عُقوقٍ وَمَأثَمِ
عَظيمَينِ في عُليا مَعَدٍّ وَغَيرِها وَمَن يَستَبِح كَنزاً مِنَ المَجدِ يَعظُمِ
فَأَصبَحَ يَجري فيهُمُ مِن تِلادِكُم مَغانِمُ شَتّ ى مِن إِفالِ المزَُنَّمِ
وكما ورد في تحليل الباحث في اللغة العربية وآدابها، الأستاذ مؤيد الشرعة، فقد امتدح الشاعر في اللوحة أعلاه من الملعقة هرم بن سنان، والحارث بن عوف اللذين كان "لهما الفضل في انتهاء حرب داحس والغبراء، إذ دفعا دية قتلاها جميعهم، فنجد أنّ الشاعر يقسم برب البيت الحرام، بأنّ هذين الرجلين لم يأتِ على العرب مثلهما، فهما قد تداركا فناء قبيلتين، وأنهيا حربا عظيمة. وهنا يشير الشاعر إلى عظم دورهما، فصحيح أنهما دفعا مبالغ مالية كبيرة، إلا أنهما خلّدا اسميهما في التاريخ، فلا زالت قصتهما تُحكى إلى اليوم، فالمال يزول لكن السمعة والسيط الطيب يبقيان لآخر العمر، فقد كانت تجارتهما رابحة" . ما قام به هذان الرجلان العظيمان كان ،بمقاييس زماننا هذا، بمثابة مشاريع بناء السلام الكبرى عندما يحزم أهل البلاد المأزومة وقواها الحية أمرهم في بذل كل مرتخصٍ وغالٍ لتحقيق هذه الغاية النبيلة ويتسنى لهم الدعم والمساندة من مؤسسات الشرعية الدولية والإقليمية .
وهناك أيضاً موروثنا الأفريقي العظيم والذي كان وتراثنا الإسلامي الصوفي المتسامح حافظاً لبيضة السودان وجامعاً للُحمَته القومية رغم تعثر مشروع البناء الوطني، خاصة بعد تسيد ثقافة الإقصاء والتغلب التي أتى بها نظام الإنقاذ البائد وحاضنته "الإسلاموية". في معرض تحليله للنجاحات النسبية للتجارب الديمقراطية في بعض الدول الأفريقية، قطع البروفيسور جيمس روبنسون، أستاذ الاقتصاد السياس ي بجامعة شيكاغو الأمريكية وصاحب الكتاب الشهير "لماذا تفشل الأمم" ، قطع روبنسون بأن هذه النجاحات ربما تعود إلى أن اتخاذ القرارات في التراث الأفريقي التقليدي عادة ما يتم با لإجماع وليس بالأغلبية، حيث تولى التقاليد الأفريقية الكثير من الأهمية للمؤسسات التي ترسخ هذه الثقافة ولهذا تتناسب اللامركزية والديمقراطية التوافقية مع طبيعة المجتمعات الأفريقية المتنوعة، بينما أدت الدولة المركزية القابضة التي أنشأها الاستعمار إلى فشل المشروع الوطني في كثير من هذه البلاد.
فهل لنا أيضاً أن نتدبر في حكمة شاعرٍ عاش في زمان قريب ونحزم أمرنا ونصلح ذات بيننا وننهى هذه الحرب اللعينة:
إذا التفَ حولَ الحقِ قومٌ فإنه يُصرِم أحداثَ الزمانِ ويُبرِم
السفير د. خالد محمد فرح
Khaldoon90@hotmail.com
Abstract:
This article endeavours to give an account of the arrival and the sojourn in the town Berber of the Nile state of Northern Sudan in the 1840s during the Turkiyya era, of a mysterious and a hitherto not a very well-known or a sufficiently researched figure. His name is Shaykh Zein Al-Abdin al-Kunti, who is believed to have been the grandson of Shaykh Mukhtar Al-Kunti 1730 - 1811, the renowned scholar and spiritual leader of a large area of the grand African Sahara, in the region around the bend of the Niger River and beyond during the 18th century. The article approaches the topic within the context of the historical phenomenon of the roaming scholars and Sufis in Muslim Africa, who used to travel extensively around, for the sake of spreading their scholarship and teachings, with the possible eventuality of ending up as residents in certain lands that could be far away from their own ones. It similarly points out to the Maghreb and West African contributions to the Islamic learning in the Eastern Sudan. The article also underlines the importance of the Nilotic Sudan as a cross roads for centuries of many trans- Saharan caravan routes that headed eastwards for trade and mainly for pilgrimage, while it particularly draws the attention to the role played then by the town of Berber as an important hub in this respect. And lastly, the article gives a comprehensive account of shaykh Zein Al-Abdin al-Kunti, by giving some significant glimpses of the estimated history of his arrival and stay in Berber, including some of his possible social connections, as well as some of his surviving correspondences with his family in his original home land of Azwad in Northern Mali, besides his death and burial under a dome in the cemetery of Berber. A brief account of the Kunta tribe and of the biography of the famous shaykh Mukhtar Al-Kunti and his relationship with the Sudan in particular, has also been provided as a prelude to the article.
Key words: Mukhtar Al-Kunti, Zein al-Abdin Al-Kunti, Muslim West Africa, Eastern Sudan, Berber.
مستخلص:
يسعى هذا المقال لتقديم إضاءة حول واقعة وصول شيخ ديني غامض، وشخصيته غير معروفة تماما، وغير مدروسة حتى الان على نحو كاف، إلى مدينة بربر بولاية نهر النيل بشمال السودان، وإقامته بها في ستينيات القرن التاسع عشر ، اي في عهد الحكم التركي المصري بالسودان. إسم ذلك الشيخ هو:" زين العابدين الكُنتي "، وهو حفيد الشيخ مختار الكنتي ١٧٣٠- ١٨١١م، ذلك العالم والزعيم الروحي الكبير وذائع الصيت في جزء واسع من بلاد صحراء غرب أفريقيا ، في المنطقة الواقعة حوالي منحنى نهر النيجر وما وراءها.
يتناول المقال هذا الموضوع من خلال مقاربته لتلك الظاهرة التاريخية المتمثلة في العلماء والمتصوفة الحوالين، الذين اعتادوا على التنقل والسفر بكثافة، من اجل نشر علومهم وتعاليمهم، بما قد يقتضيه ذلك احيانا، من احتمال ان ينتهي ببعضهم السفر والتطواف ، للاقامة في مناطق بعيدة عن مواطنهم الأصلية.
كذلك يشير المقال إلى إسهام منطقتي المغرب العربي وبلاد السودان الغربي على التوالي، في مجال التصوف والتعليم الديني في بلاد سودان وادي النيل.
ويشدد المقال على اهمية سودان وادي النيل ودوره، كملتقى طرق للقوافل التي ظلت تعبر ارضه لقرون ، قادمة من بلاد المغرب الغربي وبلاد وسط وغرب افريقيا، متجهة نحو الشرق وخصوصاً، نحو الأراضي المقدسة بالحجاز لاداء فريضة الحج، وبين اهمية دور مدينة بربر كمحطة تجمع وتوقف واستجمام، في طريق قوافل الحجيج الأفريقي.
واخيرًا يعرض المقال لجوانب مهمة وأساسية تتعلق بتاريخ وصول الشيخ زين العابدين لمدينة بربر، واقامته بها ، وملامح لبعض علاقاته الاجتماعية المفترضة ونشاطه الدعوي والتعليمي، كما تنم عليه بعض البينات الظرفية، كما يثبت المقال الإشارة إلى بعض المصادر الخطية والوثائق التي خلفها الشيخ زين العابدين الكنتي ببربر، ممثلة في بعض الرسائل التي تبادلها مع بعض أقاربه ب " أزواد " منطقته الأصلية بصحراء شمال مالي. كما يثبت المقال وفاة الشيخ زين العابدين الكنتي بمدينة بربر، ومواراته الثرى في احد جباناتها ، تحت قبة كانت معروفة هناك.
وعلى سبيل التوطئة والتمهيد، استهلّ الباحث هذا المقال بإعطاء نبذة عن قبيلة كنتة وأدوارها في صحراء غرب أفريقيا، بالتركيز على شخصية الشيخ مختار الكنتي ومكانته السامية في سائر إفريقيا المسلمة خلال القرن الثامن عشر، مع الاشارة بصفة خاصة إلى بعض ملامح صلته الروحية بسودان وادي النيل على وجه التحديد.
كلمات مفتاحية: مختار الكتتي، زين العابدين الكنتي، غرب أفريقيا المسلمة، السودان الشرقي، مدينة بربر.
توطئة:
سودان وادي النيل بوصفه نقطة جذب وبؤرة إشعاع للهجرات
البشرية والرحلات العلمية ومعبراً مهما نحو مناسك الحج
ظل سودان وادي النيل كما هو معروف، وخصوصا بحكم موقعه الجغرافي، وطبيعة طبوغرافية حدوده المنبسطة، مع جواره الإقليمي المباشر وما وراءه، تلك الحدود السهلة العبور والاجتياز من دون عقبات أو حواجز طبيعية تحول دون ذلك، يمثل بؤرة جذب ومقصد هجرات، وفي ذات الوقت منطلق هجرات ورحلات عكسية إلى البلدان المجاورة، بل إلى ما أبعد منها، وذلك لأسباب ودوافع وأغراض مختلفة، منها البيئي، والأمني، والسياسي، والاقتصادي، والمعيشي، فضلا عن الرحلة من أجل طلب العلم والمعرفة واكتسابها، أو نشرها كذلك.
وقد اشتهر سودان النيل بصفة خاصة ولبضعة قرون، بان أرضه قد مثلت معبراً محبذا لقوافل وأفواج الحجاج القادمين من بلاد وسط وغرب وشمال إفريقيا المسلمة، الذين ظلوا يعبرونها، قاصدين الأراضي المقدسة بالحجاز، عن طريق الموانئ السودانية على البحر الأحمر مثل مينائي عيذاب وسواكن، وخصوصا على إثر تعرض بلاد الشام وما جاورها من بلاد شمال غربي الجزيرة العربية وشبه جزيرة سيناء، من مخاطر وجود الصليبيين بالقدس، والمنطقة المحيطة بها من بلاد الشام في القرون الوسطى. وقد ظهر صدى ذلك التطور في جملة من الوقائع التاريخية الموثقة، مثل رحلة ابن جبير الأندلسي 1145 – 1217م إلى الحجاز عن طريق عيذاب وديار البجة بشرق السودان في القرن الثالث عشر الميلادي، ورحلة حج الشيخ الصوفي الشهير أبي الحسن علي بن عبد الله الشاذلي 1196 – 1258م عن طريق ميناء عيذاب أيضا في ذات القرن، ثم زيارة الرحالة المغربي ذائع الصيت ابن بطوطة 1304 – 1369م إلى مدينة سواكن في القرن الرابع عشر الميلادي، فضلا عن قدوم أعلام آخرين إلى بلاد السودان الشرقي في القرون اللاحقة، مثل الشيخ غلام الله بن عايد الزيلعي العقيلي اليمني في القرن الرابع عشر الميلادي، والشيخ عيسى بن بشارة الأنصاري الخزرجي المدني في أول القرن السادس عشر الميلادي، وذلك على سبيل المثال فقط.
وفي ذات الإطار كتب الدكتور معتصم الحاج عوض الكريم ما نصه؛
" يعد السودان الشرقي قديماً، المعبر البري الآمن والأقرب والآهل بالسكان بالنسبة لقوافل الحجيج القادمة من العمق الأفريقي، وهو ما كان يعرف بطريق الحج القديم ( سواكن /تمبكتو ) ، الأمر الذي أعطى أهل البلاد فرصة التواصل مع أهل العلم والمعرفة من قبائل تلك البلاد التي تعبر بقوافلها وأحمالها براً لأداء فريضة الحج، حيث أدى موسم الحج إلى التواصل الفكري بين أطراف البلاد العربية والإسلامية " 1
وبخلاف الأثر الروحي والعلمي والثقافي الذي خلفه أولئك العلماء والفقهاء والمتصوفة الوافدون على أرض السودان، فقد تركوا أثراً اجتماعياً وبشرياً معتبراً أيضا، إذ أن جلهم قد آثر البقاء في السودان، فإما أن يتزوج الشيخ النازح فيه هو نفسه مثلاً، أو أن أبناءه وأحفاده يقيمون ويتزوجون فيه، ويخلفون ذراري ممتدة، ما تلبث أن تصير هب نفسها، جزءاً لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي في البلاد، والأمثلة على ذلك كثيرة.
وفي المقابل، اشتهرت أسماء لبضعة أعلام ذوي أصول سودانية، ممن ازدهر نشاطهم العلمي وإشعاعهم المعرفي والروحي خارج سودان وادي النيل، وذلك في إطار ما يعرف بالرحلات العلمية. ومما يذكر من هؤلاء على سبيل المثال: التابعي الجليل يزيد بن أبي حبيب النوبي ت سنة 128ه/ 745م ، وذو النون ثوبان بن إبراهيم الصوفي ت 248ه من المتقدمين، ومن المتأخرين على سبيل المثال فقط: الشيخ أبو العباس أحمد بن محمد اليمني السناري المالكي القادري، المولود بحلفاية الملوك في عام 1630م، والمتوفى والمدفون بمدينة فاس المغربية في حوالي عام 1712م. وهذا الشيخ السوداني، الذي هو في نظرنا، نموذج مثالي للعالم الرحالة من أجل طلب العلم وبثه معاً، هو تلميذ كل من الشيخين سليم راجل السيال الحلاوي 2، ودفع الله بن أبي إدريس العركي ت 1664م 3.
والملاحظ أن ود ضيف الله قد غفل عن الترجمة لهذا الشيخ الجوال، غالباً بسبب اختفائه لسنوات متطاولة عن المشهد في السودان، ووفاته ومواراته الثرى خارج أرضه، في الوقت الذي ترجمت فيه له ولشيخه الشيخ دفع الله بن أبي إدريس، بعض المصادر المغربية المعاصرة، مثل كتاب: نشر المثاني في علماء القرن الحادي والثاني للطيب القادري المغربي، وسلوة الأنفاس فيمن قُبر من العلماء والصالحين بمدينة فاس لمحمد بن جعفر الكتاني المتوفى 1345ه. 4
تبادل التأثير الروحي والعلمي والاجتماعي بين السودان وبلاد المغرب الكبير وبلادي السودان الأوسط والغربي
تعد بلاد المغرب العربي الكبير، وكذلك بلاد وسط وغرب أفريقيا، مصادر أساسية رفدت معطيات واقع الثقافة والاجتماع والتصوف والتعليم الديني والفقهي بصورة كبيرة في سودان وادي النيل.
فعلى سبيل المثال، ارتبط دخول أول طريقة صوفية إلى السودان تقليدياً، بشخصية مغاربية، هي من تطلق عليه الروايات الشفهية في البلاد اسم " الشريف حمد أبو دنّانة "، الذي وصل إلى السودان كما ورد في إحدى تلك الروايات الشفهية، في حوالي عام 1445م، وأقام بمنطقة " سقادي " بولاية نهر النيل بالقرب من بلدة المحمية، فطفق يعلم فيها الناس العلم الشرعي والفقه والقرآن، ويسلكهم في الطريقة الشاذلية. 5
وقد مضت ذات الرواية فضلاً عن ذلك في الواقع، إلى تأكيد أن ذلك الشيخ أبا دنانة ، قد كان صهر الصوفي المغربي الشهير الشيخ " محمد بن سليمان الجزولي " مؤلف كتيب الأدعية ومجموعة الصيغ المختلفة للصلاة على النبي الكريم الموسوم ب " دلائل الخيرات " ، بل راج بين السودانيين في سياق ذات الرواية السماعية، أن ذلك الشيخ أبا دنانة، قد أنجب سبع بنات تزوجن كلهن برجال سودانيين كانوا أعلاما ، فأنجبت كل واحدة منهن ولياً صوفياً كبيراً ونابه الذكر في البلاد، فصار أولئك الأولياء الصالحين أبناء خالات كما يزعمون. على أن من المستغرب حقاً أن الشيخ محمد النور بن ضيف الله 1727 – 1810م، لم يشر مطلقاً إلى هذه الجزئية من تلك الرواية الشفاهية المتواترة، في كتابه: الطبقات في خصوص الأولياء والصالحين والعلماء والشعراء في السودان، ولم ينص ولا في مرة واحدة، على صلة قرابة عن طريق الأمهات، بين أولئك الأولياء الذين اشتهر في الثقافة الشعبية، أنهم كانوا أبناء خالات.
وفي ذات السياق أيضا، يوقفنا الشيخ ولد ضيف الله ، على أن شيخا مغاربياً غامضاً اسمه الشيخ " عبد الكافي "، قد قدم على الشيخ السوداني إدريس بن محمد الارباب 1507 - 1651م، من المغرب بالخطوة، اي بسرعة خارقة للعادة على سبيل الكرامة، فسلكه في الطريقة القادرية. كما روى لنا ود ضيف الله أيضا، أن شيخاً مغاربياً آخر هو " الشيخ التلمساني المغربي " قد قدم على الشيخ السوداني " محمد ولد عيسى " الملقب بسوار الذهب ، فعلمه أحكام التجويد والقراءات القرآنية. وبالطبع فان النسبة " التلمساني " هذه، تحيل مباشرة إلى مدينة " تلمسان " ببلاد المغرب الأوسط، اي الجزائر الحالية. 6
وكذلك أشار ود ضيف الله في ذات السياق، إلى أن جد الشيخ الصوفي السوداني الشهير " حسن ولد حسونة " واسمه الحاج موسى، كان قدم إلى سلطنة الفونج بالسودان من الجزيرة الخضراء بالأندلس. 7
وتستمر مظاهر التأثير المغاربي والغرب افريقي على سودان وادي النيل حتى إلى القرن التاسع عشر الميلادي. ففي هذا القرن يظهر تأثير مدرسة شخصية صوفية مغاربية ذائعة الصيت هو السيد احمد بن ادريس الفاسي 1750 - 1837م، وذلك من خلال تعاليمه وأوراده وصلواته التي نقلها إلى السودان تلميذه السيد محمد عثمان الميرغني الختم 1793 - 1853م، إلى جانب بضعة عشر تلميذا سودانياً آخرين، تتلمذوا جميعهم مباشرة على يد السيد ابن ادريس، على نحو ما أورد أسماءهم، وترجم لهم باختصار، الدكتور يحي محمد إبراهيم في كتابه الموسوم: " تاريخ التعليم الديني في السودان "، وكذلك كتابه الاخر: " مدرسة أحمد بن إدريس المغربي وأثرها في السودان" 8
وقبل ورود الطريقة الإدريسية إلى السودان، كمظهر من مظاهر التأثير الصوفي المغاربي على سودان وادي النيل، عادت الطريقة الشاذلية مرة أخرى في طور ثان، بصورة أكثر وضوحاً إلى البلاد، وعلى نحو أمكن التحقق منه والتوثيق له، حيث برز تأثير هذه الطريقة على يد المدرسة الناصرية الدرعية المغربية، وروادها مثل الشيخ محمد بن محمد بن ناصر الدرعي ت 1676م، وابنه الشيخ احمد بن محمد بن ناصر الدرعي ت 1717م ، حيث انخرط في سندهما نفر من أعلام السودانيين، منهم كل من الشيخين خوجلي بن عبد الرحمن ابو الجاز 1645 - 1743م، و حمد المجذوب 1696 - 1776م ، وغيرهما. 9
على أن أكبر أثر روحي مغاربي المصدر مباشر على السودان الشرقي، يظل هو انتقال الطريقة التيجانية لمؤسسها الشيخ أبي العباس أحمد بن محمد المختار التجاني 1737 - 1815م اليه، وانتشارها على نطاق واسع بين ربوعه، وخصوصا في غرب البلاد، وذلك عن طريق بعض مشايخ هذه الطريقة وأعلامها مثل: محمد مولود فال الدغيبي الشنقيطي المتوفى في عام 1851م ، ومحمد المختار بن عبد الرحمن الشنقيطي الشهير بان العالية المتوفى في عام 1882م، وعمر قمبو الفلاتي المتوفى في عام 1918 وغيرهم. 10
ومما يذكر في هذا السياق أيضاً، أن أحد أبناء الشيخ المجاهد الحاج عمر تال الفوتي 1797 - 1864م ، يسمى " مُبشّر "، قد دخل إلى السودان في تاريخ غير معروف في عهد الحكم التركي " تصويب بعد النشر: أفادني البروفيسور الأمين أبو منقة بأنه يعتقد أن مبشر الفوتي قد وصل إلى السودان في حوالي عام 1905م "، وأقام فيه دهراً في قرية تسمى " دار السلام " تقع بالقرب من مدينة سنار على النيل الأزرق ، وأنه توفي ودفن في تلك القرية نفسها. وقد ذكره الشاعر الاستاذ إبراهيم الدلال الشنقيطي التيجاني وهو صديق للباحث، في منظومة شعرية له عن أعلام الطريقة التيجانية في السودان حيث قال:
صارَ بها في رفعةِ الأقمارِ
مُبشّرُ الفوتيُ في سنارِ 11
ولكن الشخص الأكثر شهرة حقيقةً، المنتمي إلى أسرة " الحاج عمر الفوتي" الذي ارتبط بالسودان، وزاره واتصل بعلمائه، هو الشيخ ألفا هاشم بن أحمد بن سعيد الفوتي، وهو ابن أخي الحاج عمر بن سعيد الفوتي، مؤسس الدولة التيجانية بغرب افريقيا.
هذا، ومع تسليمنا بقوة وسعة انتشار الاثر المغاربي، وأثر بلاد السودان الأوسط والغربي في الثقافة الدينية في سودان وادي النيل عموماً، إلا أننا نرى - مع ذلك - ميلاً عند بعض الباحثين، إلى الشطط والمغالاة في تقدير مدى تأثير ذلك الأثر في بعض الجوانب.
فمن ذلك مثلاً، الزعم بصورة مطلقة، ومن دون إبراز بينة أو دليل، بأن المذهب المالكي في الفقه، قد ورد إلى السودان لأول عهده به على الإطلاق، من بلاد شمال افريقيا ووسطها وغربيها، وهو زعم يعوزه الدليل المادي الملموس في تقديرنا.
وكذلك القول بأن الامام محمد احمد المهدي 1843 - 1885م ، قد استقى فكرة المهدية، من جراء تأثير كتابات وتعاليم الشيخ عثمان دان فوديو 1754 - 1817م ، وأعجب من ذلك الزعم ولو تلميحاً، بأن الخليفة عبد الله التعايشي، هو الذي زين للمهدي فكرة المهدية وشجعه على تبنيها، وإعلان نفسه المهدي، استناداً إلى التراث المهدوي الذي كان رائجا في بلاد السودان الأوسط. ، وفقاً لتلك الفرضية ذاتها.
ففيما يتعلق بانتشار مذهب الامام مالك بن أنس في السودان، فإننا نعتقد أنه ليس هنالك ما يمنع عقلاً، من أن يكون هذا المذهب قد قدم إلى أرض السودان ابتداءً وبصورة مستقلة، إما من مصدره بالحجاز مباشرة، الذي لم يكن بعيداً أو معزولاً حقاً عن بلاد السودان الشرقي، أو من مصر المجاورة، التي ازدهر فيها هذا المذهب بقوة في أول أيامه، وانتشر انتشارا واسعا، وخصوصا في الصعيد المجاور للسودان. كما أن أرض مصر قد شهدت في الواقع، بروز وازدهار أبرز أعلام المالكية المقدمين من أمثال: عثمان بن الحكم الجذامي ت 163ه، وعبد الرحيم بن خالد بن يزيد الجُمحي ت 153ه، وعبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن الخليفة أبي بكر الصديق ت 191ه، وقد كان من أقرب تلاميذ الإمام مالك إليه، وأكثرهم ملازمة له ، وبالتالي ربما لم يكن السودان النيلي – بحكم جواره الجغرافي الملاصق لمصر - محتاجاً لأن ينتظر، حتى يأتيه مذهب مالك من المغرب البعيد، وإن كنا نقر بأن مؤثرات مالكية مغربية لاحقة، من المؤكد انها قد وردت إلى السودان الشرقي، وعززت ما نفترض أنه قد كان يوجد فيه سلفاً من تراث مالكي تليد.
وعطفاً على ذلك، فإننا نميل في الواقع، إلى الاعتقاد فيما ظل يرجحه البروفيسور يوسف فضل حسن، من أن انتشار المذهب المالكي في السودان، قد تكرس حقيقةً، وتعزز علمياً ومعرفيا في المقام الاول، بفعل تأثير علماء المالكية في مصر، الذين تتلمذ على أيديهم نفر معتبر من فقهاء سودان وادي النيل إما مباشرة، أو وصلتهم مؤلفاتهم فاطّلعوا عليها. ومن أشهر اولئك علماء أعلام من أمثال: اللقاني، والبنوفري، وسالم السنهوري، والزرقاني، وعلي الأجهوري، والخراشي، والشبراخيتي، نزولا إلى عهد المتأخرين نوعاً ما مثل: أحمد الدردير، ومحمد الأمير، والصعيدي، والبليدي وغيرهم. 12
بينما في المقابل لا يكاد المرء يجد في سودان وادي النيل، أثراً واضحاً ومستفيضاً لتراث علماء مغاربة كبار معاصرين تقريبا لأولئك العلماء المصريين مثل الشيخ محمد عبد الكريم المغيلي التلمساني ت 1503م، ومن بعده كالونشريسي ت 914ه، والمعداني ت 1040ه، ومحمد بن الحسن بناني ت 1194ه، نزولاً إلى عهد الشيخ مختار الكنتي 1730 - 1811م، مع أن الجميع مالكية، وذلك إذا ما قورن بتأثير هؤلاء الأخيرين مثلاً، على المشهد العلمي والصوفي لبلادي السودان الأوسط والغربي على التوالي.
ولا يسعنا بالطبع، أن ننكر الحضور المؤثر في الساحة العلمية والمعرفية السودانية لطائفة من كتب الفقه المالكي، التي يرجع تأليفها لعلماء وفقهاء كبار من بلاد المغرب العربي مثل المدونة لسحنون،، وكتب السنوسي في العقائد، والسلم للأخضري وغيرها، على انه ليس هنالك دليل بانها قد وصلت إلى السودان مباشرة من المغرب، وليس عن طريق مصر المجاورة ، ووسطها المعرفي المالكي الأزهري مثلا.
اما الزعم بان الامام المهدي قد استقى فكرة المهدية من كتابات وأقوال الشيخ عثمان بن فودة ، او بإيحاء من قبل الخليفة عبد الله، فيُرد عليه بأن فكرة المهدية، قد كانت وما تزال في الواقع، مبذولة منذ قرون في كتب التراث الحديثي والصوفي الإسلامي مشرقاً ومغربا، ولم يكن المهدي بالتالي ، وخصوصاً بما عرف عنه من سعة الاطلاع والذكاء المتوقد وغزارة العلم، محتاجاً لأحد من غرب إفريقيا او شرقها، ليطلعه على فكرة المهدية، خصوصا وانه هو نفسه كان شيخاً مقدماً في الطريقة السمانية، وهي طريقة تهتم بالعلم والاطلاع وتحض عليهما، وخصوصاً النظر في مؤلفات بعض كبار المتصوفة التي فيها ذكر المهدي مثل كتابي " الفتوحات المكية " و " عنقاء مغرب " للشيخ محي الدين بن عربي 1165 - 1240 م، علماً بأن المهدي نفسه قد كان طالباً نجيباً للعلم من قبل ذلك، في عدد من مراكز العلم المرموقة في البلاد آنئذٍ، مثل مسيد ود عيسى وغيره. 13
وثمة بينة أخرى تدل على أن الإمام المهدي، قد راودته فكرة المهدية منذ زمان بعيد في الواقع، وقبل ان يلتقي بالخليفة عبد الله لأول مرة بالمسلمية في حوالي عام 1880م بنحو سنتين على الأقل كما سنرى، في مناسبة بناء قبة الشيخ القرشي ود الزين. وتلك البينة هي قول شيخه الأسبق الاستاذ محمد شريف ود نور الدائم في قصيدته الرائية، مشيراً إلى تاريخ إفضاء المهدي اليه ببلوغه رتبة المهدوية عن طريق ما يسمى بحساب الجُمّل:
لقد جاءني في عام زعٍّ بموضعٍ
على جبل السلطان في شاطئ البحرِ
والشاهد من تلك المنظومة هو قول الناظم الشيخ محمد شريف:
إلى الخمس والتسعين أدركه القضا
بما مضى في سابق العلم بالنشر
فقالَ أنا المهديُ فقلتُ له استقمْ
فهذا مقامٌ في الطريقِ لمن يدرِي .. الخ
فعام " زع " هو رمز للعام 1277هج، وهو يوافق العام 1861م، وذلك هو العام الذي التحق فيه المهدي لسلوك الطريق السماني على يد الشيخ محمد شريف نور الدائم . ذلك بأن حرف الزاي يقابله العدد 7 وحرف العين يقابله العدد 70، وبالتالي يكون التاريخ المقصود هو عام 1277هج وهو يوافق سنة 1861 ميلادية. ثم إنه صرح بأن تاريخ إفضاء تلميذه محمد أحمد له بمهديته، قد كان في عام 1295ه، الموافق لسنة 1878م. وهو كما نرى، تاريخ يسبق تاريخ مقابلته الاولى للخليفة عبد الله بعامين على الأقل، لأن اقتناع محمد أحمد نفسه بأنه قد صار المهدي، لا بد أنه سابق حكماً ومنطقاً لتاريخ إفضائه بهذا السر لشيخه السابق محمد شريف.
ولكن جميع ذلك لا ينفي البتة، إقرارنا بالدور الكبير الذي لعبته حركة الشيخ عثمان دان فوديو في تهيئة المناخ الفكري والعقدي، وخصوصاً الترويج الفكري، والاستنفار الشعبي لنصرة المهدي الذي تنبأ بظهوره في أرض النيل، وحث اتباعه على الهجرة اليها من أجل الجهاد تحت رايته، والوقوف إلى جانبه.
التعريف بقبيلة كنته وأصلها ومواطن انتشارها الجغرافي في الغرب الأفريقي
قبيلة " كنتة " هي قبيلة عربية مغاربية صحراوية، تنتشر في نطاق جغرافي واسع داخل الصحراء الأفريقية الكبرى، شاملة أجزاء من موريتانيا، والنيجر، وشمال مالي وجنوب الجزائر. بل توغلت منها بضعة جيوب بعيدا، فوصلت حتى إلى السنغال وغامبيا.
ويتمسك أفراد هذه القبيلة بالقول بالانتماء إلى الصحابي عقبة بن نافع الفهري، الفاتح المسلم العظيم الذي نشر لواء الدعوة الإسلامية في أراض واسعة من بلاد الشمال الإفريقي والمغرب العربي، وما جاورهما من بلدان في الصحراء الأفريقية.
ويبدو أن وجود قبيلة كنتة البشري، وإشعاعها الثقافي والروحي على الاقل، قد تجاوز مواطن سكنى أفرادها التقليدية، إلى مناطق اخرى نائية عنها إلى الجنوب والجنوب الغربي. وآية ذلك أن بطل رواية " الجذور " للكاتب الأمريكي من أصول إفريقية " أليكس هيلي "، اسمه " كونتا كونتي "، وإذ ذاك، فليس بمستبعد ان يكون ذلك الاسم، يعكس صدى لذلك الصيت الطائر الذي كان لقبيلة " كنتة "، وأدوارها المشهودة في نشر الإسلام وتعاليمه وعلومه في تلك الأصقاع.
ذلك بأن السياق التاريخي الذي تدور فيه أحداث تلك الرواية، هو سياق القرن الثامن عشر الميلادي، وهو عصر اشتداد وطأة حملات النخاسين الأوروبيين لاصطياد الزنوج الأفارقة، وشحنهم عنوة كرقيق على متن السفن العابرة للمحيط الأطلسي، لبيعهم في دول وأقاليم الأمريكتين المختلفة. وهو لعمري ذات القرن الذي ازدهر فيه نشاط الشيخ مختار الكنتي. أما البلاد التي أتى منها كوننا كونتي المذكور، وهو الجد الأعلى للمؤلف أليكس هيلي نفسه في الواقع، فهي جمهورية غامبيا الحالية التي تحيط بها السنغال من جميع الجهات، ولها ساحل ضيق للغاية، وإطلالة صغيرة فقط على المحيط الأطلسي.
وتشير المصادر إلى أن الموطن الأصلي لقبيلة كنتة هو منطقة " توات " بجنوب الجزائر، ومنها انداحت هذه القبيلة مهاجرة، فانتشرت في البلدان التي ذكرت آنفاً، واتخذتها مواطن لها من بعد.
وفي كل البلاد التي حلت بها قبيلة كنتة واستوطنتها، تبوأت هذه القبيلة موضع الصدارة والريادة اجتماعياً واقتصادياً وسياسيا وثقافيا وعلمياً، حيث خرج منها القادة، ومسيرو القوافل التجارية، والدعاة، والعلماء، والمتصوفة، ولعل من أشهرهم على الإطلاق الشيخ مختار الكنتي 1730 - 1811م، أبرز شيوخ الطريقة القادرية في غموم وسط وغرب افريقيا في القرن الثامن عشر الميلادي.
ورث الشيخ مختار الكنتي إرثاً علميا وروحياً باذخاً، ومكانة اجتماعية مرموقة داخل عامة بلاد السودان الغربي والصحراء الأفريقية، عن سلسلة من أسلاف أماجد له من قبيلة كنتة، كان من أبرزهم الشيخ عمر بن احمد البكاي الذي عاش في بحر القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين. وفي معرض التعريف بهذا الشيخ كتب الدكتور معتصم الحاج عوض الكريم ما يلي:
" أبرز زعيم للقبيلة الشيخ عمر بن أحمد البكاي الكنتي المولود في 1460م بالصحراء، وقد خلف والده في الزعامة الروحية لقبيلة كنتة، والتقى بالشيخ المغيلي التلمساني، شيخ الطريقة القادرية وناشرها بين أفراد القبائل الإفريقية الصحراوية والسودانية ( السودانية بالمعنى الواسع والشرح من الباحث )، وسافر معه إلى المشرق، حيث أدّى فريضة الحج، قبل أن يرجع الشيخ عمر ت 960 هج / 1553م بعد ذلك إلى الصحراء وبلاد السودان، صار الشيخ عمر أحمد البكاي مقدم الطريقة القادرية في المنطقة بعد وفاة شيخه المغيلي سنة 1553م ". 14
وهنا نود أن نلفت الانتباه إلى هفوة قد وقع فيها هذا الباحث ربما سهواً، وهي أنه قد نص على ان تاريخ وفاة الشيخ محمد بن عبد الكريم المغيلي التلمساني قد كانت في عام 1553م، في الوقت الذي تجمع سائر المصادر ذات الصلة إلى أنها قد حدثت في عام 1503م.
نبذة عن الشيخ مختار الكنتي وتأثيره الاجتماعي والروحي والسياسي عموما:
جاء في نسبه، أنه هو المختار بن أحمد بن أبي بكر بن محمد بن حبيب الله بن الوافي بن الشيخ سيدي عمر بن الشيخ سيدي احمد البكاي بن سيدي محمد الكنتي الذي يتصل نسبه بالصحابي عقبة بن نافع الفهري. واما والدته فهي للاّ مباركة بنت سيدي عبد القادر المدعو باد بن بدو اللمتوني الصنهاجي.
ولد الشيخ المختار الكنتي سنة 1142 هج / 1730م بإحدى قرى واحة أزواد " كثيب أغال " بصحراء شرق موريتانيا أو شمال غربي مالي، وتوفي سنة 1226 هج / 1811م.
وكانت منطقة أزواد، مركز رباط صوفي قديم، عرفت فيه الطريقة القادرية نشاطاً مكثفاً منذ القرن التاسع الهجري، بقيادة الشيخ احمد البكاي تلميذ الشيخ محمد بن عبد الكريم المغيلي التلمساني المتوفى عام 1503م. والشيخ احمد البكاي هو جد الشيخ مختار الكنتي، وجد قبيلة كنتة بفرعيها كنتة الحجر وكنتة أزواد. وهذا دليل على امتداد توارث هذا البيت للزعامة الروحية تالداً عن تالد.
وقد جاء أيضاً في معرض الحديث عن جذور الشيخ مختار الكنتي بمقال مبذول بالشبكة العنكبوتية، أن جده الشيخ أبا بكر هو مؤسس قصر المبروك بأزواد بشمال مالي، وأنه كان قد خرج أصلاً من " قصر الجديد " بتوات الحزائر حيث موطنهم الأصلي، في حوالي سنة 1718م، هو وأبناء أخيه الشيخ سيدي المختار بن محمد بن عمر بن الوافي، متجهاً إلى إقليم أزواد لنشر الدعوة الإسلامية. 15
كما جاء في سياق التعريف بالشيخ مختار الكنتي، وطرف من سيرته وتراثه، وحضوره المرموق في بلاد شنقيط وما اتصل بها من البلدان المجاورة، في مقال بعنوان: " الشيخ سيدي المختار الكنتي شيخ مشايخ موريتانيا وتمبكتو " نشر الكترونياً بموقع " بوابة أفريقيا الإخبارية " بتاريخ 14 اكتوبر 2014م، ما نصه مختصرا:
" شمل إشعاع الشيخ سيدي المختار الكنتي جميع بلاد الصحراء والسودان الغربي، وجذب الكثير من العلماء والفقهاء، ولعب دور المصلح الاجتماعي والداعية والمستشار والحكم في النزاعات، خاصة بين الطوارق الملثمين وبين السكان والقوافل التجارية الصحراوية المارة بالمنطقة. ويعطي كتاب " كنتة الشرقيون " لبول مارتي، 17 نماذج كثيرة من تلك الأدوار والنزاعات التي فضها الشيخ سيدي المختار … كما كانت له مراسلات مع القبائل الموريتانية التي كانت تنتجع إلى الغرب من تمبكتو، وراسل زعماء الطوارق، وأولاد علوش، وأولاد امبارك، وأولاد محمد أزناكي وايدوعيش.. كما راسل السلطان محمد بن مولاي عبد الله بن مولاي إسماعيل، إلى جانب صلاته القوية بإمارة " بورنو " الإسلامية و " إمارة هوسا وماسينا "…. وكان محمد البكر امير بورنو والمقاطعات المجاورة، يتراسل مع الشيخ ويبعث له الهدايا، وقد وضع نفسه تحت ادارته الروحية، وكذلك وضع أمراء الفلاّن وزعماؤهم لا سيما عثمان دان فوديو وأخاه الوزير عبد الله وابنه الوزير محمد بلو .. "16
حفظ المختار الكنتي القرآن الكريم في طفولته، ودرس سائر العلوم النقلية والعقلية ومهر فيها وتبحّر، على يد أستاذه الشيخ علي ولد النجيب، الذي سلكه في سلك الطريقة القادرية أيضاً، عبر سلسلة إسناد توصله بالشيخ محمد عيد الكريم المغيلي التلمساني ( ت 1503م )، الذي هو نفسه شيخ جده الأعلى الشيخ أحمد البكاي كما تقدم آنفا. وبعد ذلك أسس الشيخ المختار الكنتي زاوية " قصر الحِلّة "في حوالي عام 1754م للعبادة والذكر، وتدريس العلم والفقه، وتلقين الأحزاب والأوراد الصوفية. وذاع صيته، وشاع ذكره، فأمّهُ الطلاب والمريدون والعلماء من مختلف الأصقاع من بلدان شمال إفريقيا، وبلاد السودان الأوسط وخصوصاً الغربي، بل وصلت أخبار علمه وفضله وكراماته حتى إلى مصر وبلاد السودان الشرقي.
ومن آيات الشهرة والصيت الحسن الذي كان يتمتع به الشيخ المختار الكنتي في زمانه، حتى داخل بعض البلدان في المشرق الإسلامي مثل مصر على سبيل المثال، بما عرفت بها من مكانة مرموقة كمركز إشعاع علمي وثقافي ومعرفي ، وازدهار حضاري وعمراني وتجاري معتبر، ما توصل اليه هذا الباحث حدساً وبقرائن الاحوال ايضاً، ان العلامة الشريف محمد مرتضى الزبيدي الفقيه والمحدث واللغوي الشهير مؤلف معجم " تاج العروس من جواهر القاموس "، الذي ولد ببلدة بلغرام بالهند في عام 1732م، وتوفي ودفن بالقاهرة في عام 1791م، بعد حياة علمية عامرة وخصبة، من المرجح أنه قد كان يعرف الشيخ مختار الكنتي ويراسله، ومن المؤكد أن بينهما تلاميذ مشتركين أخذوا عن كليهما.
أما علاقة المختار الكنتي بمحمد مرتضى الزبيدي، فتحسب أنه يدل عليها ضمناً قول الزبيدي نفسه في معرض ترجمته التالي نصها، لتلميذه " محمد بن عبد الله الكُنتاوي المغربي":
" عبد الله بن محمد الكنتاوي المغربي، الشيخ الصالح المتعبّد. أخذ ببلاده عن المختار بن أبي بكر نزيل أدوات ولازمه واعتنى به وانتفع به. ورد إلينا حاجّاً في سنة 1194 هج مع الركب التواتي، وتوجه إلى الحرمين، وحضر على الشيخ صالح الفوتي شيئاً من دروسه، وعاد مع الركب المصري، فسمع مني في 26 صفر 1195 هج من لفظي الاولية والشعر، وحديث إنما الأعمال بالنيات.. ثم صار يلازمني في أكثر الأوقات، وذكر لي عن شيخه صاحب أزوات أخباراً عجيبة، سنذكر بعضها في ترجمته، وأخذ له مني كتاباً بعد أن بلّغ سلامه لي، وكتبت له إجازة حافلة، وأجازني في بعض الفوائد، وتوجّه إلى بلاده بارك الله فيه ". 18
من مظاهر الحضور الروحي للشيخ مختار الكنتي في السودان الشرقي
لم يكن أهل سودان وادي النيل عموماً، بمعزل عن أخبار صلاح الشيخ مختار الكنتي وورعه وعلمه وتقواه، وسعيه الدؤوب في الدعوة إلى الله، وعمله المخلص من أجل تسوية الخصومات والإصلاح بين الناس. هذا، على الرغم من ندرة وجود سلاسل إسناد فقهيه أو صوفية صريحة داخل السودان، تمر عبر هذا الشيخ الصوفي قادري الطريقة، ذائع الصيت في عصره، علما بأن الطريقة القادرية تعد من أقدم الطرق الصوفية، وأوسعها انتشارا في السودان.
ولعل ما جاء في الفقرة التي تتحدث عن الإشعاع الروحي والسياسي والاجتماعي للشيخ مختار الكنتي في بلاد شنقيط وما جاورها من ديار وممالك بالصحراء الأفريقية، وجنوباً منها في حزام الساحل الأفريقي، والتي استشهدنا بها اقتباساً من ذلك المقال المذكور آنفاً بعنوان: " الشيخ سيدي مختار الكنتي شيخ مشايخ موريتانيا وتمبكتو "، يفسر ضعف، أو على الاقل عدم بروز الحضور الإسنادي للشيخ الكنتي في السودان الشرقي على نحو مشهور. ذلك بأن تلك الفقرة لم تشر إلى أية دولة من دول سودان وادي النيل الإسلامية القديمة، ولا حتى سلطنة دارفور الملاصقة جغرافياً لسلطنات بلاد السودان الأوسط، فتثبت فيها مثلاً، أنه قد كان للشيخ الكنتي تواصل أو مراسلات مع سلاطينها.
بيد أننا نعتقد أن السند المختاري الكنتي، لا بد انه قد وصل إلى ارض السودان وانتشر فيه حكما، وخصوصا بعد هجرة طوائف من أحفاد واتباع ومريدي الشيخ عثمان دان فوديو 1754 - 1817م إلى سودان وادي النيل، استجابة لدعوته لهم قبل وفاته بوجوب الهجرة إلى ارض النيل من اجل نصرة المهدي الذي تنبأ بظهوره هناك، تلك الهجرة التي تحققت بالفعل في مطلع القرن العشرين على اثر قضاء قوات الاحتلال البريطاني على الخلافة الصكتية التي كان قد أسسها الشيخ المجاهد عثمان دان فوديو في عام 1804م والمعروف هو أن الشيخ مختار الكنتي ، قد كان أحد شيوخ سلسلة سند الشيخ عثمان دان فوديو في الطريق القادري.
وتأسيساً على ذلك، فانه يغدو من المتصور عقلاً، أن يكون من بين اولئك المهاجرين من سلطنة صوكتو إلى السودان، من كانوا محتفظين بسلاسل إسناد توصلهم بالشيخ المختار الكنتي وان غابت عنا أسماؤهم وسيرهم.
على أن من مظاهر أثر الإشعاع الروحي للشيخ مختار الكنتي في أرض السودان على سبيل المثال، ما أورده الدكتور يحي محمد إبراهيم في كتابه " مدرسة احمد بن ادريس المغربي في السودان "، نقلاً عن كتاب " الوسيلة إلى المطلوب " للشيخ محمد الطاهر المجذوب، في مناقب الشيخ محمد المجذوب بن قمر الدين 1796 - 1832م، وهو ما نصه:
" ومن هؤلاء أحمد بن ادريس الذي قال فيما روى إبراهيم الرشيد : " لو يعلم الناس ما في المجذوب لتركوا جميع الصالحين، وأتوا إلى بابه لما له من الكرامة والمنزلة عند الله "… وقال عنه الشيخ مختار الكنتي: إن الله جمع في المجذوب خصائص لم يجمعها في غيره من الأولياء، وأنه أوتي من الهبات ما بلغ به من الكمال منتهاه. وأضاف أنه " ما زاغ عن الشريعة في حياته كلها، ولا جرّه الباطل إلى أن يفعل أو يقول في حال غيبته ما يخالف ظاهر الشرع ".19
وسواء ثبت هذا القول المنسوب إلى المختار الكنتي في حق محمد المجذوب بن قمر الدين وصحّ، أو لم يثبت ويصح تاريخياً، خصوصا نظراً لأنه لما توفي الشيخ المختار الكنتي في عام 1811م، كان الشيخ المجذوب صبياً في نحو الخامسة عشرة سنة فقط من عمره. ومع ذلك فإن دلالة هذا الشاهد، تكمن في قيمته المعنوية والرمزية في حد ذاتها، حيث انها تدل ضمناً على تأكيد التواصل الروحي الثابت قطعاً، ولو على مستوى الخواطر والأشواق والكرامات الصوفية عابرة الحدود، بين المسلمين في سودان وادي النيل، وإخوانهم في سائر الفضاء الإسلامي، الممتد من لدن سواحل البحر الأحمر شرقاً، وصولاً إلى سواحل المحيط الأطلسي غرباً، عبر الصحراء الكبرى، وبلادي السودان الأوسط والغربي على التوالي.
الشيخ زين العابدين الكنتي: أبرز مظاهر الحضور الكنتي الملموس في السودان
قدم إلى سودان وادي النيل، منذ حوالي أربعينيات القرن التاسع عشر على أقل تقدير، أي في بحر النصف الاول من عهد الحكم التركي للبلاد، حفيدٌ مباشر للشيخ مختار الكنتي، يسمى الشيخ زين العابدين بن الشيخ حبيب الله بن الشيخ مختار الكنتي.
أما افتراضنا أن الشيخ زين العابدين الكنتي قد وصل إلى أرض السودان، وحل بمدينة بربر في أربعينيات القرن التاسع عشر تخميناً، لأن هنالك رسالة وصلت إليه من بعض أقاربه ببلاده الأصلية بمنطقة أزواد بالصحراء الأفريقية. والشاهد هو أن تلك الرسالة مؤرخة بسنة 1265 ه، التي توافق سنة 1848م.20
حل الشيخ زين العابدين الكنتي بمدينة بربر، غالباً عند قفوله من أداء مناسك الحاج في طريق عودته لبلاده، وأقام بها بقية حياته، إلى أن وافته المنية بها في عام 1283ه/1866م، ووري جثمانه الثرى بإحدى مقابرها، وضربت على قبره قبة ظاهرة، كانت ما تزال قائمة حتى إلى بضعة عقود خلت، إلا أن بناءها قد تضعضع وتهدم، حتى اندثرت في نهاية المطاف، غالبا بسبب الظروف المناخية والفيضانات، وربما بسبب الإهمال أيضا.
وقد شاهد تلك القبة في حوالي عام 1909م، رحالة فارسي زار السودان وساح فيه في ذلك التاريخ، اسمه: محمد مهري كركوكي، وأثبت ذلك في كتاب له بعنوان: " رحلة مصر والسودان " ، جاء فيه فيما يتعلق بالشيخ زين العابدين الكنتي ما نصه هذا:
" وفي بربر قبة تُزار للشيخ زين العابدين المنتسب إلى بني أمية. قيل إنه جاءها من شنقيط ببلاد المغرب، وتوفي سنة 1283 هجرية، وكان على الطريقة الجيلانية الكنتية ". 21
لا تسعفنا ما بين أيدنا من مصادر - مع الأسف - بشيء فيما يتعلق بظروف وملابسات وصول الشيخ زين العابدين الكنتي إلى السودان، كما لا توقفنا على تاريخ وصوله إلى مدينة بربر على وجه الدقة والتحديد، فضلا عن أية معلومات محددة، حول تفاصيل نشاطه الدعوي والتعليمي والصوفي والاجتماعي بتلك المدينة والمنطقة المجاورة لها، ولا عن حياته الاجتماعية والأسرية، وعما إذا كان قد قدم بزوجته ، ام أنه تزوج ببربر وخلف بها ذرية من صلبه أم لا، كما لا توجد نصوص خطية تشير صراحة إلى أشهر تلاميذه ومريديه، ولا إلى اشخاص بأعيانهم في منطقة بربر أو غيرها بالسودان، يندرجون في سلسلة سند هذا الشيخ في الطريقة القادرية ، عن طريق جده الشيخ المختار الكنتي الكبير، وذلك مثلاً على غرار التوثيق الجيد، المتواتر شفاهة والمكتوب أيضاً، الذي حظي به أبناء وتلاميذ علم صوفي شنقيطي آخر معاصر له تقريباً، هو الشريف محمد المختار بن عبد الرحمن الشنقيطي الشهير بولد العالية 1820 – 1882م، دفين جزيرة " أم حراحر " بالقرب من شندي.
على أنه في سياق بعض المداخلات والردود اللافتة للانتباه حقاً، على بضعة استفسارات وجهها كاتب هذه السطور إلى صديق له من أبناء بربر، عما عسى أن يكون متوفراً لديه من معلومات حول شخصية الشيخ زين العابدين الكنتي دفين بربر، وخصوصاً حياته الأسرية، وعما إذا كان قد خلّف ذرية في بربر أم لا، ومن هم تلاميذه وحواريوه الذين درسوا عليه العلم، أو سلكوا على يده الطريقة القادرية المختارية الكنتية؟ ، وقام ذلك الصديق بدوره بإحالة تلك التساؤلات عبر تطبيق واتساب إلى بعض " قروبات " أبناء مدينة بربر، استوقفت الباحث في الواقع، هذه المداخلة المتينة والمثيرة للانتباه حقا، بغض النظر من حظها من الصحة والدقة في جميع تفاصيلها:
" الشيخ زين العابدين مشهور. نشر الطريقة الكنتية للشيخ مختار الكنتي بالمغرب، وأخذها منه أهل الدِكّة تحديدا. وخلف ذرية، اعتقد الوهاهيب بالدكة، والمباركاب بالقدواب .. وجزء من الشوافعة من آل البكّاي. ومن تلاميذه كذلك آل الشكلي " أ.ه 22
من الواضح ان صاحب المداخلة المقتبسة أعلاه للتو، على دراية حسنة بسيرة الشيخ زين العابدين الكنتي وببعض ملابسات إقامته في بربر، وبالمجموعات التي اتصل بها وارتبطت به في تلك المدينة. ومن المحتمل أن يكون " آل البكاي " المذكورون ببربر، إما من ذرية الشيخ زين العابدين الكنتي من صلبه، أو أن يكونوا على الأقل من بين أقرب مريديه اليه، بدليل أن أحد أسلافهم، قد سُمي أحمد البكاي تيمناً بالشيخ البكاي الكنتي غالباً، وذلك بقرينة لقبهم " البكاي "، وهو لعمري لقب نادر في السودان، بينما هو لقب الجد الأعلى لعشيرة الشيخ مختار الكنتي.
وعلى ذكر الأسماء والكنى والألقاب، وهي بكل تأكيد معطيات لها دلالاتها التاريخية والثقافية والاجتماعية غير المنكورة، فان من الملاحظ بالفعل وجود الاسم " زين العابدين " نفسه بصورة ملحوظة داخل مدينة بربر، واذ ذاك، فإننا لا نستبعد أن تمثل هذه التسمية، صدى لإرث الشيخ زين العابدين الكنتي الذي خلفه في تلك المدينة.
ومن آيات سداد هذه المداخلة أيضا، نص صاحبها على أن آل الشكلي كانوا من تلاميذ الشيخ زين العابدين الكنتي أيضا. ومما يعضد ذلك استناداً إلى المصادر الخطية ذات الصلة، أن أحد نساخ بعض الوثائق التي خلفها الشيخ زين العابدين الكنتي في بربر، كان يحمل لقب الشكلي بالفعل.
فقد علق ناسخ القطعة رقم (10) من مجموعة الرسائل الأثرية المتبادلة بين الشيخ زين العابدين الكنتي، وبعض أقاربه بإقليم أزواد بصحراء موريتانيا ومالي، التي جمعها واعتنى بتحقيقها ودراستها وثائقيا، الدكتور معتصم الحاج عوض الكريم، وهو مخطوط جواب من الشيخ أحمد البكاي إلى الشيخ زين العابدين، علق ذلك الناسخ في أسفل ذلك النص الذي نسخه من الأصل في عام 1327 ه / 1908م بما يلي بخط يده: " أ ه وبالله التوفيق على يد كاتبه أحمد البكاي بن محمد الوقيع أحمد محمد الشكلي " 23
واستناداً إلى ذلك، يغدو من الراجح بل شبه المؤكد، أن أسرة الشكلي البربراوية، قد كانت تربطها علاقة خاصة بالشيخ زين العابدين الكنتي، وأنها ربما كانت المشرفة والقيمة على تراثه الروحي والمعرفي والعلمي بعد وفاته. وقد تجلت الصلة الحميمة بينهم وبين التراث المختاري الكنتي عموماً، في أن أحد أسلافهم كان يسمى " أحمد البكاي " كما رأينا آنفا.
خاتمة
مما تقدم، تتضح لنا أهمية مدينة بربر ودورها التاريخي، كملتقى طرق قوافل كثيرة كانت تحط بها، قادمة إليها من مختلف المناطق من داخل السودان وخارجه، أو منطلقة منها إلى مختلف البلدان والمناطق بالداخل والخارج كذلك. وقد كانت أبرز تلك القوافل وأجدرها بالملاحظة والتنويه، هي قوافل الحجاج الأفارقة الذي كانوا يعبرون أرض سودان وادي النيل، مروراً بعدد من أبرز مدنها ومراكزها الحضرية الشهيرة آنئذ مثل: بربر، وكوبى، والفاشر، والأبيض، والمسلمية، والحلفاية، وسنار، وشندي، ودنقلا، وسواكن وغيرها.
والراجح وفقا لذلك السياق، أن الشيخ زين العابدين الكنتي، قد كان على المرجح أحد أولئك المسافرين الذين سلكوا طريق الحج عبر أرض السودان، ولسبب ما، طاب له المقام في ربوعه، واتخذه موطنا له، حتى وافته المنية، ودفن في ثراه بمدينة بربر.
ولا شك أن قصة الشيخ زين العابدين الكنتي وإقامته بمدينة بربر لنحو عقدين من الزمان، ثم وفاته بها ، تمثل في حد ذاتها فصلاً باذخ الثراء، في سفر ضخم، يعكس دور السودان الشرقي بوصفه مقصدا للرحلة العلمية، ومهاجراً محبذاً لنشر العلوم الدينية والفقه والتصوف بصفة عامة، على غرار زيارة السيد محمد عثمان الميرغني الختم الكبير 1793 -1853م من الحجاز إلى السودان في حوالي عام 1816م ، وما تركته من آثار كبيرة في السودان على مختلف الأصعدة، على سبيل المثال.
كما تجسد زيارة الشيخ زين العابدين الكنتي إلى السودان وإقامته فيه بكل تأكيد، قوة العلاقة الروحية والاجتماعية بين السودان والفضاء الأفريقي الصحراوي والمغاربي بصفة عامة، بل تمثل انعكاسا ملموسا لحضور تراث الشيخ مختار الكنتي بالتحديد، ممثلا في دور حفيده المباشر الشيخ زين العابدين بن الشيخ حبيب الله بن الشيخ مختار الكنتي خاصة.
إن هذه الواقعة التي وجدت حظها من الالتفات إليها مؤخرا لحسن الحظ، من قبل نفر من الباحثين الوطنيين، مثل الدكتور عوض الكريم وأضرابه، وخصوصا بعض الباحثين بجامعة وادي النيل، تمثل في الواقع، غيضاً من فيض فقط ،من قدر هائل من القصص والوقائع المماثلة التي كان مسرحها مختلف حواضر السودان كما يجوز لنا أن نفترض ، والتي لم تتجاوز حتى الآن نطاق الروايات الشفاهية، وهي وقائع ذات صلة وثيقة بجوانب مضيئة وجديرة بالدراسة والتوثيق والنشر، في سياق تاريخ السودان الثقافي والاجتماعي، وخصوصاً في إطار تاريخ التواصل الثقافي والروحي والاجتماعي بين السودان ومحيطه العربي والإفريقي والإسلامي بصفة عامة، ولم يجتهد الباحثون المعنيون الاجتهاد اللازم والكافي بعد في تقديرنا، في العكوف على التنقيب فيها ودراستها، وقد آن لهم أفراداً ومؤسسات، أن يفعلوا ذلك بكل تأكيد.
• لأغراض الاقتباس والتوثيق، نُشر هذا المقال بالعدد رقم 31 من مجلة القُلزُم للدراسات التاريخية والحضارية، إصدار مركز بحوث ودراسات حوض البحر الأحمر، مايو 2024م ص 47 – 62.
هوامش وإحالات مرجعية:
1- معتصم الحاج عوض الكريم، "مدينة بربر السودانية والروابط الثقافية للرحلة الحجازية: دراسة وثائقية لرسائل السادة الكنتية"، مقال، مجلة رفوف، مخبر المخطوطات الجزائرية في إفريقيا، جامعة أدرار، الجزائر، العدد الحادي عشر، مارس 2017م، ص 167.
2- انظر ترجمته في كتاب الطبقات في خصوص الأولياء والصالحين والعلماء والشعراء في السودان تأليف محمد النور ولد ضيف الله، تحقيق يوسف فضل حسن، دار جامعة الخرطوم للطباعة والنشر، الطبعة الثالثة، 1985م، ص 205.
3- كتاب الطبقات لود ضيف الله، المصدر أعلاه، ص 222.
4- يوسف فضل حسن، ملامح من العلاقات الثقافية بين المغرب والسودان، منشورات معهد الدراسات الإفريقية، جامعة محمد الخامس، الرباط، المغرب، 2005م، ص 56 – 58. وأفادني صديقي الخليفة مجاهد أحمد النور الزاكي، عن ترجمتيْ الشيخ أحمد اليمني وشيخه دفع الله بن محمد أبي إدريس معاً، في كتاب سلوة الأنفاس المذكور للكتاني.
5- يوسف فضل حسن، مقدمة في تاريخ الممالك الإسلامية في السودان الشرقي 1450 – 1821م، دار سوداتك المحدودة للنشر، الخرطوم، الطبعة الخامسة، 2012م، ص 139.
6- كتاب الطبقات لمحمد النور بن ضيف الله، مرجع سبق ذكره، ص 41.
7- الطبقات، المرجع أعلاه، ص 133.
8- يحي محمد إبراهيم، مدرسة أحمد بن إدريس المغربي وأثرها في السودان، دار الجيل، بيروت، ص 344 – 375.
9- عن سند الشيخ حمد المجذوب في الطريقة الشاذلية الناصرية الدرعية، انظر ترجمة هذا الشيخ في الطبقات، الطبعة المشار اليها أعلاه ص 188، وانظر أيضا كتاب: أحمد الدردير الحضيري: المسك والريحان فيما احتواه من بعض أعلام فزان، الشركة العامة للورق والطباعة، الخُمس، ليبيا، 1996م، ص 61.
10- خالد محمد فرح، تاريخ التواصل والرحلات والإجازات العلمية في سودان وادي النيل في القرن 12ه/18م: الشريف مرتضى الزبيدي وتلاميذه أنموذجا، رسالة ماجستير، جامعة الزعيم الأزهري، السودان، 2020م، ص 104.
11- من إفادة شفهية مباشرة من صديقي الأستاذ إبراهيم الدلال الشنقيطي قبل بضعة أعوام.
12- خالد محمد فرح، تاريخ التواصل، مرجع سبقت الإشارة إليه، ص 76.
13- حول فكرة المهدية عند الامام محمد أحمد المهدي، وما قيل عن تأثره بأفكار الشيخ عثمان دان فوديو، يمكن الرجوع الى مصنفات مثل: الحركة الفكرية في المهدية لمحمد إبراهيم أبو سليم، والصراع بين المهدي والعلماء لعبد الله علي إبراهيم، ثم كتابات البروفيسور يوسف فضل حسن، وخصوصاً كتابات الدكتور فتحي حسن المصري، والبروفيسور محمد أحمد الحاج، والبروفيسور الأمين أبو منقة وغيرهم، فيما يتعلق بصلة المهدي بأفكار الشيخ عثمان بن فودة.
14- معتصم الحاج عوض الكريم، " مدينة بربر السودانية والروابط الثقافية للرحلة الحجازية " مرجع سبقت الإشارة إليه، ص 169.
15- من مقال عن سيرة الشيخ مختار الكنتي بموسوعة ويكبيديا الالكترونية www.wikipedia.org ، مستخدم أبو عامر الكنتي – ويكبيديا.
16- من مقال بعنوان: " الشيخ سيدي المختار الكنتي شيخ مشايخ موريتانيا وتمبكتو "، نشر بموقع " بوابة افريقيا الإخبارية " الالكتروني، بتاريخ 17/10/2014م.
17- بول مارتي Paul Marty 1882 – 1938م، فرنسي الجنسية، ضابط ومترجم وموظف كبير بالإدارة الاستعمارية الفرنسية في إفريقيا، كان مسؤولاً عن الشؤون الإسلامية، وعن الإدارة الأهلية وشؤون القبائل والأعراق بمستعمرات غرب إفريقيا الفرنسية. كان مجيداً للغة العربية، وله عدة مؤلفات عن الإسلام في غرب افريقيا، ومن أشهرها كتاب " كنتة الشرقيون " المذكور الذي صدر في عام 1920م.
18- خالد محمد فرح، " تاريخ التواصل والرحلات والإجازات العلمية "، بحث ماجستير، سبقت الإشارة إليه، ص 291.
19- يحي محمد إبراهيم، مدرسة أحمد بن إدريس المغربي وأثرها في السودان، مرجع سبق الإشارة إليه، ص 362.
20- معتصم عوض الكريم، مدينة بربر السودانية، مرجع سابق، ص 193.
21- محمد مهري كركوكي، رحلة مصر والسودان، مطبعة الهلال بالفجالة، مصر، 1914م، ص 313.
22- إفادة وصلت للباحث عن طريق زميله وصديقه السفير عبد الباسط بدوي السنوسي، وهو ينتمي إلى واحدة من الأسر العريقة بمدينة بربر.
23- معتصم الحاج عوض الكريم، مرجع سابق، ص 197 – 198.
////////////////////////////////////
مطالعة في دفاتر الاتحاد الأوروبي
زين العابدين صالح عبد الرحمن
أعلن مجلس الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات على ستة شخصيات سودانية منهم قيادات في الجيش و أخرى من ميليشيا الدعم و سياسيين و هذه تعد المرة الثانية التي يفرض فيها الاتحاد الأوروبي عقوبات، حيث كان قد فرض عقوبات في الأولى في يناير 2024م، و قال الاتحاد معللا فرض عقوباته أن هؤلاء يعيقون عملية التحول الديمقراطي في البلاد و استقرارها. و إذا نظرنا إلي ممارسات الاتحاد الأوروبي قبل و بعد ثورة ديسمبر 2018م، نجد أن أنشطة الاتحاد الأوروبي ليس معوقة للعمل السياسية بل هي ساهمت في وصل البلاد إلي هذه الحرب..
قدم الاتحاد الأوروبي العديد من الإسهامات المادية، و التمويل المالي قبل الثورة إلي قيام ورش لعدد من المنظمات المدنية يهدف إلي التدريب في عدة مجالات تتعلق بعملية التحول الديمقراطي، خاصة التعريف بموجبات الديمقراطية و ثقافتها إلي جانب إدارة الإزمات، و فتح حوارات في المجتمع، إلي جانب تأسيس عدد من منظمات المجتمع المدني في نشاطات متنوعة و مختلفة و خاصة بالجندر، و جميعها تحت شعار إنتاج ثقافة ديمقراطية و نشرها في المجتمع على أن تساعد الأجيال الجديدة في مسعاها الداعي لتحول ديمقراطي في البلاد.. و أيضا قدمت الدولتان اللتان تعتبران العمود الفقرى للإتحاد الأوروبي" فرنسا و المانيا" دعوات لعدد من القوى السياسية و الحركات لقيام ورش في بلديهما تساعدان على عملية التحول الديمقراطي خاصة لمجموعة "نداء السودان" المكونة تحالفيا من عدد من الأحزاب و الحركات المسلحة بقيادة الإمام الصادق المهدي.. و كل ذلك كان مفهوما الهدف منه هو التحول الديمقراطي في السودان.. و قدم الاتحاد الأوروبي و عدد من دوله مساعدات مالية إلي عدد من المنظمات و المركز الإعلامية لقيام ورش و نشاطات الإعلامية..
بعد الثورة بدأ نشاط الاتحاد الأوروبي في السياسة يزداد و أغرب شيء...! أن الاتحاد الأوروبي قدم ميزانية مالية لرئيس الوزراء عبد الله حمدوك عبارة عن مرتبات للعاملين في مكتبه و ليس للحكومة السودانية.. و نسأل الاتحاد الأوروبي و وفقا للمعايير الديمقراطية التي تؤسس على القوانين إليس كان الأفضل أن تقدم المساعدة للحكومة السودانية عبر مؤسساتها.. و وفقا لتلك المعايير أيضا يجب أن يحدثنا أي مسؤول في الاتحاد الأوروبي أو مسؤول في أي دولة من دول الاتحاد هل يمكن أن تقبل أن تدفع مرتبات حكومتها من دولة أو اتحاد خارجي.. و إذا كانت الإجابة لا لماذا لم يلفت الاتحاد نظر رئيس الحكومة أن هذا الدعم المقدم يجب أن يظهر في ميزانية الدولة.. الغريب أن رئيس الوزراء لم يصرح به بهل هي معلومات مسربة من المكتب..
أن قبول حمدوك دعما مغطى من الاتحاد الأوروبي دون أن يجعل الدعم يمر عبر وزارة المالية أصبح مثله مثل الجنرال فيليب بيتان مؤسس دولة فيشي في فرنسا، و الذي تعاون مع النازيين الذين احتلوا بلاده و نصبوه رئيسا عليها، الغريب في الأمر كل الأحزاب السياسية و الحاضنة السياسية لم تعلق على ذلك مطلقا، كأنهم كانوا موافقين على ذلك بالسكوت. هل كانوا يتنبأون أن الحرب قادمة و سوف تشرد القيادات السياسية؟ .. الملاحظ أن العديد من القيادات السياسية كانت تذهب و تشارك في الورش و الندوات و المحاضرات التي يقيمها الاتحاد الأوروبي و الدول التابعة له، و يعلمون أن الاتحاد الأوروبي لا يقدم ذلك لسواد اعين السودانيين، و دلالة على ذلك لم يتم التنبيه لرئيس الوزراء أن من أهم القواعد الجوهرية التي تؤسس عليها الديمقراطية احترام القوانين و الشفافية و النزاهة..
أن الاتحاد الأوروبي و كل أجهزة مخابرات دوله و سفارات دوله كانوا على علم أن هناك عملية انقلابية جاري الإعداد لها، و أن هناك قوى سياسية مشاركة و ضالعة في ذلك، حتى البعث الأممية بقيادة فوكلر كانت جزء من العملية... لذلك سارعت دول الأوروبية و أمريكا بالموافقة على سحب البعثة على شرط أن لا يتم مناقشة بنود الصرف المالي الذي قامت به البعثة الأممية.. أن الاتحاد الأوروبي كان على علم بكل مجريات التخطيط للعملية الانقلابية في ذلك الوقت لم يكن يعلم الاتحاد الأوروبي أن الانقلاب سوف لن يقود إلي الديمقراطية، و أنه سوف يقوض عملية الاستقرار في البلاد و ربما يؤدي إلي حرب.. هل كان الاتحاد الأوروبي متيقن أن الانقلاب كان سوف ينجز بنجاح و لا داع للتساؤلات..
هل الاتحاد الأوروبي الذي يفرض عقوبات على قيادات في البلاد بسبب الحرب التي يعتقد أنها تؤذى المواطنين و تقوض الاستقرار لا يعلم أن وراء الحرب دول داعمة للميليشيا و خاصة دولة الأمارات و عدد من دول جوار السودان التي فتحت حدودها لتمرير المرتزقة و الدعم العسكري و التشوين.. أن الاستقرار السياسي في البلاد يتم بإتفاق أبناء الوطن، و أي دعم لمجموعة من قبل الاتحاد الأوروبي أو أمريكا و حلفائهم لن يخلق استقرارا في البلاد، و أي حوار خارج البلاد لن يؤدي إلي الحل.. على المسؤولين في الاتحاد الأوروبي أن يفيقوا أن زمن فرض الحلول على الشعوب انتهى... نسأل الله حسن البصير’
zainsalih@hotmail.com
////////////////////////////
دعونا نضع حداً لحرب الضعفاء هذه: الجزء الثالث
بروفيسور إبراهيم أحمد البدوى عبد الساتر
وزير المالية والتخطيط الاقتصادي السابق
يونيو، 2024
بسم الله الرحمن الرحيم
نواصل في هذا الجزء الثالث والأخير من المقال استدعاء الدروس والعِبَر من تراثنا العربي-الأفريقي المزدوج عن نِعَم ومِنَن السلام وعظمة من قيضهم الله سبحانه وتعالى لبنائه، لما لهذه العِبَر والدروس من دلالاتٍ عظيمة لحالنا ومآلنا في ظل هذه الحرب المأساوية.
الرسالة الأولي لمعلقة شاعرنا الحكيم زهير بن أبي سلمي والتي استعرضناها في الجزء الثاني كانت عن ويلات ومآس ي الحروب الأهلية، بينما الرسالة الثانية مثار هذا الجزء لهذه المعلقة التي تنضح بالحكمة تتمثل في احتفاء الشاعر
ببناء السلام وإصلاح ذات البين والبذل والعطاء في سبيل ذلك، حيث أبدع في مدح الحارث بن عوف وهرم بن سنان، صانعي السلام. وكان هذان السيّدان من أشراف بني ذبيان قد أديا من مالهما الخاص دِيّات القتلى من الفريقين، وقد بلغت بتقدير بعضهم ثلاثة آلاف بعير:
سَعى ساعِيا غَيظِ بنِ مُرَّةَ بَعدَما تَبَزَّلَ ما بَينَ العَشيرَةِ بِالدَمِ
فَأَقسَمتُ بِالبَيتِ الَّذي طافَ حَولَهُ رِجالٌ بَنَوهُ مِن قُرَيشٍ وَجُرهُمِ
يَميناً لَنِعمَ السَيِّدانِ وُجِدتُما عَلى كُلِّ حالٍ مِن سَحيلٍ وَمُبرَمِ
تَدارَكتُما عَبساً وَذُبيانَ بَعدَما تَفانوا وَدَقّوا بَينَهُم عِطرَ مَنشِمِ
وَقَد قُلتُما إِن نُدرِكِ السِلمَ واسِعاً بِمالٍ وَمَعروفٍ مِنَ الأمَرِ نَسلَم
فَأَصبَحتُما مِنها عَلى خَيرِ مَوطِنٍ بَعيدَينِ فيها مِن عُقوقٍ وَمَأثَمِ
عَظيمَينِ في عُليا مَعَدٍّ وَغَيرِها وَمَن يَستَبِح كَنزاً مِنَ المَجدِ يَعظُمِ
فَأَصبَحَ يَجري فيهُمُ مِن تِلادِكُم مَغانِمُ شَتّ ى مِن إِفالِ المزَُنَّمِ
وكما ورد في تحليل الباحث في اللغة العربية وآدابها، الأستاذ مؤيد الشرعة، فقد امتدح الشاعر في اللوحة أعلاه من الملعقة هرم بن سنان، والحارث بن عوف اللذين كان "لهما الفضل في انتهاء حرب داحس والغبراء، إذ دفعا دية قتلاها جميعهم، فنجد أنّ الشاعر يقسم برب البيت الحرام، بأنّ هذين الرجلين لم يأتِ على العرب مثلهما، فهما قد تداركا فناء قبيلتين، وأنهيا حربا عظيمة. وهنا يشير الشاعر إلى عظم دورهما، فصحيح أنهما دفعا مبالغ مالية كبيرة، إلا أنهما خلّدا اسميهما في التاريخ، فلا زالت قصتهما تُحكى إلى اليوم، فالمال يزول لكن السمعة والسيط الطيب يبقيان لآخر العمر، فقد كانت تجارتهما رابحة" . ما قام به هذان الرجلان العظيمان كان ،بمقاييس زماننا هذا، بمثابة مشاريع بناء السلام الكبرى عندما يحزم أهل البلاد المأزومة وقواها الحية أمرهم في بذل كل مرتخصٍ وغالٍ لتحقيق هذه الغاية النبيلة ويتسنى لهم الدعم والمساندة من مؤسسات الشرعية الدولية والإقليمية .
وهناك أيضاً موروثنا الأفريقي العظيم والذي كان وتراثنا الإسلامي الصوفي المتسامح حافظاً لبيضة السودان وجامعاً للُحمَته القومية رغم تعثر مشروع البناء الوطني، خاصة بعد تسيد ثقافة الإقصاء والتغلب التي أتى بها نظام الإنقاذ البائد وحاضنته "الإسلاموية". في معرض تحليله للنجاحات النسبية للتجارب الديمقراطية في بعض الدول الأفريقية، قطع البروفيسور جيمس روبنسون، أستاذ الاقتصاد السياس ي بجامعة شيكاغو الأمريكية وصاحب الكتاب الشهير "لماذا تفشل الأمم" ، قطع روبنسون بأن هذه النجاحات ربما تعود إلى أن اتخاذ القرارات في التراث الأفريقي التقليدي عادة ما يتم با لإجماع وليس بالأغلبية، حيث تولى التقاليد الأفريقية الكثير من الأهمية للمؤسسات التي ترسخ هذه الثقافة ولهذا تتناسب اللامركزية والديمقراطية التوافقية مع طبيعة المجتمعات الأفريقية المتنوعة، بينما أدت الدولة المركزية القابضة التي أنشأها الاستعمار إلى فشل المشروع الوطني في كثير من هذه البلاد.
فهل لنا أيضاً أن نتدبر في حكمة شاعرٍ عاش في زمان قريب ونحزم أمرنا ونصلح ذات بيننا وننهى هذه الحرب اللعينة:
إذا التفَ حولَ الحقِ قومٌ فإنه يُصرِم أحداثَ الزمانِ ويُبرِم