مواجهة صدمة الانفصال

 


 

 



بعد تفكك المعسكر الاشتراكي نهاية ثمانينات وبداية تسعينات القرن الماضي أتي البولنديون بما عرف ب(العلاج بالصدمة، Shock therapy). كانوا يقصدون بذلك العلاج المفاجئ  للانتقال من النظام الاشتراكي الي النظام الرأسمالي. كان لذلك العلاج ضحايا (بالجملة)، انتشرت معدلات الفقر التي لم تكن معهودة، كما ارتفعت الأسعار بشكل كبير وفقد عدد كبير من المواطنين أعمالهم والكثير من الامتيازات والحقوق الخاصة بالتقاعد والرعاية الاجتماعية. استطاع البولنديون تحقيق الكثير من أهدافهم ويسجل اقتصادهم اليوم واحدا من أفضل مؤشرات الأداء الأوربية. إلا أن ما نجح في بولندا لم ينفع في دول أخري حاولت تقليدهم ومن تلك الدول روسيا الاتحادية في عهد الرئيس السابق بوريس يلتسن.
في ظروف الانتقال التي يمر بها الاقتصاد السوداني تم تداول شيء مشابه في المنهج مع الاختلاف الكبير في المقومات والظروف التي تحكم الحالة السودانية. في السودان توجد معدلات مرتفعة من الفقر والبطالة مع انخفاض مستويات الدخل، أما البنيات التحتية الأساسية خاصة في الزراعة والصناعة فهي علي درجة من التدني وانعدام الكفاءة والبدائية، بشكل لا يحتمل الصدمات التي ستكون حتما مميتة.
في هذه الظروف التي شهدت انفصال الجنوب، دون ان تكون البلاد مستعدة لذلك، يجب البحث عن أهم معوقات التنمية وأفضل السبل التي تمكن من تجاوزها بشكل يحقق اكبر قدر ممكن من الاستقرار ويجنب البلاد الانزلاق الي ما يشبه الانهيار الاقتصادي التام والشاهد ان تكاليف المعيشة أصبحت فوق طاقة احتمال أي إنسان عادي مهما كانت مهنته ومصدر رزقه. المقصود بالإنسان العادي هنا هو، أي شخص طبيعي يعتمد في دخله علي عمله او أرضه او حتى رأس ماله، خارج نطاق الطبقات الطفيلية او المعتمدة علي الدولة بمنصب او نشاط ما ، ناهيك عن المستمدة لمكاسب طائلة من الفساد الذي تم تطبيعه في الحياة السودانية، الي درجة جعلت منه ظاهرة عادية لا تسترعي الالتفات.
أول العقبات التي تواجه التنمية وأكثرها خطورة، هي الاستقرار السياسي وتجنب الحرب، ويعتبر هذا الأمر عقبة حقيقية بحكم ما يدور ألآن في آبيي ، جنوب كردفان وبوادر التأزم في النيل الأزرق، يضاف لذلك بالطبع ما يجري في دارفور، مع ما يجره كل ذلك من تأزم متجدد ومواجهة مع المجتمع الدولي. الحل لهذه العقبة سياسي، لكنه شرط أساسي لنجاح أي نشاط اقتصادي يمكن أن يؤدي إلي التنمية. بمراعاة المصلحة القومية نجد ان السلام مربح جدا بالعكس من الحرب ذات التكاليف العالية بتدميرها للموارد وإعاقتها لسير التنمية. السلام يوفر الأموال الطائلة التي تذهب إلي الأمن والدفاع  وأمراء الحرب، إضافة لكونه شرط أولي وبديهي لأي استقرار سياسي او اقتصادي.
نأتي للعقبات الاقتصادية لنستعرض ما أمكن منها فهي كثيرة لدرجة تفتح باب البحث والتقصي علي مصراعيه لكل باحث ومختص في الشأن الاقتصادي – التنموي. أول العقبات الاقتصادية هي اعتماد السودان خلال عقد كامل تقريبا علي مورد واحد في تمويل الإنفاق العام بشكل مباشر او غير مباشر أي البترول. يضخ البترول حوالي 50% من الإيرادات العامة بشكل مباشر، أما ال 50% الاخري فهي مرتبطة بشكل وثيق بالبترول سواء أن كانت في شكل إيرادات ضريبية او غير ضريبية خاصة الأوراق والصكوك المالية التي تعتمد علي القدرة الادخارية للمؤسسات والأفراد التي يرفدها البترول في الدخل القومي واعتماد القيم المضافة إما علي هذا المورد او علي الإنفاق العام. إضافة لذلك فان البترول يشكل المصدر الوحيد تقريبا للنقد الأجنبي، إذ يشكل 95% من جملة الصادرات السودانية.
كانت بوادر غياب البترول عن تمويل الإنفاق العام هو الاتجاه نحو المغالاة في فرض الضرائب والرسوم، خاصة الضرائب غير المباشرة. أدي ذلك الي رفع مستويات التضخم وتسبب في غلاء فاحش في أسعار السلع والخدمات الرئيسية، كما رفع من تكاليف الإنتاج المرتفعة أصلا مما ادخل الاقتصاد السوداني في حلقة مفرغة تدور حول ارتفاع معدلات التضخم - ارتفاع تكاليف الإنتاج – تدني الدخول الحقيقية – حلقة جديدة من التضخم الخ.
ألعقبة الثانية تتمثل في التعويل علي النمو الريعي للاقتصاد المعتمد علي التنمية العقارية وتحويلات المغتربين. هذه المصادر لا تشكل بديلا تنمويا وإنما بالعكس تؤدي الي العديد من المشاكل، إذ أن التنمية العقارية غير منتجة من ناحية كما أنها تمتص نسبة كبيرة من السيولة يحتاج الاقتصاد لضخها في تمويل قطاعات الإنتاج الحقيقي، لكنها في نفس الوقت تشكل الملاذ الآمن للمستثمرين ضد التضخم وتناقص القوة الشرائية للنقود، يضفي ذلك علي هذا القطاع جاذبية لا تقاوم. أما تحويلات المغتربين فإنها إما ان تغترب بدورها او تتجه الي القطاعات غير المنتجة في الأراضي والعقارات وشراء السلع المعمرة مثل السيارات والمصوغات الذهبية، مما يجعلها بعيدة عن مصادر التمويل.
الجانب الثالث الذي يشكل عقبة كبيرة في وجه التنمية هو إتباع نهج الليبرالية الاقتصادية الجديدة المتجه نحو التحرير الاقتصادي والخصخصة واليات عمل السوق الذي يؤدي الي تدمير المشروعات العامة، ولكم في مشروع الجزيرة مثال ساطع. إضافة لذلك فان حصيلة هذا النهج حتي في الحقبة البترولية كان ازدياد معدلات الفقر واتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء واتساع رقعة التهميش واختلال موازين التنمية الريفية والمحلية، إضافة لإنتاجه للفساد المالي والإداري الذي تحول الي فساد هيكلي مرتبط بالنظام السائد في مجمله. التمادي في هذا النهج مع المتغيرات الجديدة مع واقع الانفصال سيزيد من تمركز الدخول وزيادة معدلات الاحتكار الأمر الذي سيضعف معدلات النمو ويقود إلي أثار اجتماعية مفجعة، مثل انعدام الاستقرار ، انفراط عقد الأمن الاجتماعي، زيادة معدلات الجريمة والتحلل القيمي.
بالرغم من سوء الخيارات الغربية المتاحة لتمويل التنمية إلا انه لا يمكن الاستغناء عنها وإنما يفترض التعامل معها بواقعية بما يخدم المصالح الإستراتيجية للبلاد. كيف يمكن عدم التعامل مع الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربي بسيطرتهما علي معظم الفضاء الاقتصادي والتجاري ومصادر التمويل العالمية؟ في هذا الصدد فان العقوبات الاقتصادية الأمريكية وعدم تطبيع العلاقات مع الغرب بشكل عام يشكل عقبة خطيرة أمام التنمية حتى علي المستوي الإقليمي.
يضاف لما ذكرنا أعلاه سوء السياسة التوزيعية التي تظهر في توزيع الدخل والثروة، ضمور المرتبات والأجور مع تفشي البطالة والفقر الجماهيري في الحضر والريف، أما مستحقات المعاش وما بعد الخدمة لغالبية العاملين من أبناء الشعب فهي عبارة عن (بلية مضحكة). يتزامن ذلك مع الخلل الهيكلي في الاقتصاد الذي اضعف القطاع الزراعي لدرجة أصبح فيها لا يفي بأقل متطلبات الأمن الغذائي كتوفير كمية كافية من الذرة علي سبيل المثال لا الحصر. هذا الجانب يشكل عقبة من ناحية إعاقته للتراكم الرأسمالي بواسطة الادخار الذي لا تتوفر فرص له مع ذهاب الدخول كاملة لاستهلاك السلع الضرورية دون ان تغطي المطلوب منها.
للخروج من تلك (الأنفاق) المظلمة  نري ضرورة البحث عن نماذج مختلفة للتنمية تستصحب التجارب، الصينية، الهندية، البرازيلية، وهي نماذج مغايرة لتلك المعتمدة علي التمويل الغربي وإثقال كاهل الاقتصاد القومي بالديون، هي في ذلك مختلفة حتي عن النموذج الماليزي الذي لا تتوفر شروط نجاحه في السودان لأسباب كثيرة. تشكل نماذج التنمية التي تم إتباعها في الهند والبرازيل أمثلة قابلة للتطبيق وجديرة بالاهتمام خاصة وانه من الممكن قيام شراكة اقتصادية مثمرة مع هذه الدول تضاف للصين. اتجهت تلك النماذج نحو توسيع المشاركة السياسية في صنع القرار، التحرر من التخلف الاقتصادي، تأمين متطلبات الحياة الأساسية لغالبية السكان وإيجاد الترابط والتكامل بين العوامل الاقتصادية والاجتماعية، وهذا شيء قابل للتطبيق في نطاق السياسات الاقتصادية الكلية. هنا لابد من الإشارة الي ضرورة الاهتمام بشكل استثنائي بالتخلص من الخلل الهيكلي الملازم للاقتصاد السوداني منذ زمن بعيد وذلك بتكثيف الاستثمار في البنيات التحتية، اهتمام الدولة بالخدمات الاجتماعية خاصة الصحة، التعليم وخدمات المياه والكهرباء إضافة الي دعم تنافسية القطاع الخاص الوطني ليسهم في تنمية قطاعات الإنتاج الحقيقي.
نستشهد هنا بمقولة مهمة للرئيس البرازيلي السابق لولا داسيلفا الذي حققت البرازيل في عهده انجازات تشبه الإعجاز في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والتصدي لمشكلة الفقر ومن بعد للازمة المالية العالمية. يقول داس يلفا في خطاب له علي مشارف نهاية فترته الرئاسية الأخيرة " ... كان الوضع الذي ورثته لا يتعلق فقط بالصعوبات المادية، لكن أيضا بممارسات متجذرة كانت تهدد حكومتنا وأخذنا الي الركود..... كان علينا أن نختار بين السوق الداخلية والخارجية، فإما أن نقبل بما يمليه علينا الاقتصاد المعولم الذي لا يرحم ا وان نعيش في عزلة قاتلة". لكن بدلا عن ذلك يقول "... لقد حطمنا تلك الخرافات في السنوات الستة الماضية، لقد حققنا النمو ونعمنا بالاستقرار الاقتصادي. ترافق النمو الذي حققناه بشمول عشرات الملايين من الشعب البرازيلي في السوق الاستهلاكية، لقد وزعنا الثروة علي أكثر من أربعين مليون شخص كانوا يعيشون تحت خط الفقر".عوضا عن هذا الاتجاه نجد الملايين من الشعب السوداني قد خرجوا او سيخرجون من السوق الاستهلاكية إلي الفقر والحرمان. لا عجب في أن البرازيل هي ما عليه اليوم من صعود اقتصادي بارز مع سيف مسلط علي الفساد كما حدث مع مسئول حكومي رفيع اتهم بمراكمة ثروته من استشارات قدمها وهو متقلد لمنصب حكومي وعضو في البرلمان، هذا مقياس معبر وبليغ.
يمكن لسودان  ما بعد الانفصال أن يتخلص من عقبات التنمية، لكن ذلك لن يتم إلا بمستحقات سياسية، اقتصادية ، اجتماعية، بإصلاح شامل للبنيات المكونة للمؤسسات الحاكمة لتلك المستحقات وبإعادة هيكلة حقيقية تبني علي أسس دستورية جديدة وبمشاركة واسعة وحقيقية لجميع مكونات الشعب السوداني. هنا من الضروري الشروع بشكل فوري وبأسلوب عملي في تخفيض جيوش المسئولين الدستوريين والتنفيذيين وتقليص النظام الإداري ومخصصاته وحوافزه وبدلاته (البدع) في المركز والولايات. لقد تحول النظام الفيدرالي الي غول يلتهم الأخضر واليابس دون أي مردود تنموي الأمر الذي أصبح عقبة من الصعب تجاوزها. تلك مستحقات تمكن من استيعاب صدمة الانفصال بنجاح وبشكل يخفف من إصاباتها علي النسيج السياسي – الاقتصادي - الاجتماعي. هذا أو الانحدار في اتجاه الفقر والتخلف بجميع معانيه.
hassan bashier [hassanbashier141@hotmail.com]

 

آراء