موت السياسة!!

 


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم
abdullahaliabdullah1424@gmail.com

مدخل:
يؤرخ لبداية موت السياسة في السودان بانقلاب الاسلامويين الانقاذوي في منتصق العام 1989م، واعلان موتها في منتصف شهر ابريل من العام 2023م عقب اندلاع القتال بين اجنحة الانقاذ العسكرية.
قبل انقلاب الانقاذ نشطت السياسة والاحزاب السياسية في فترات الديمقراطية المتقطعة. ورغم انها عانت ما عانت من محن وتضعضع علي عهود انقلابات عبود والنميري، إلا انها حافظت علي وجودها وتاثيرها كنشاطات واهتمامات وفضاءات مفتوحة علي تطلعات الديمقراطية والاشتراكية والقومية والسلطة المدنية.
ولكن بدخول الاسلامويين علي خط السياسة ووصولهم للسلطة بانقلاب، تمت السيطرة علي السلطة بالعنف وحمايتها بالارهاب. الشئ الذي حول السياسة الي خطيئة وممارستها الي جريمة! بل مجرد شبهة التورط في السياسة اصبح مخاطرة مكلفة، سواء علي مورد الرزق او الحرمان من كافة الحقوق. لتُحال السياسة الي هامش ضيق يتصل بالانشطة السرية، واحيانا الانتحارية التي تقود لبيوت الاشباح وحبل المشنقة (حادثة اضراب الاطباء ضد الانقلاب).
والحال كذلك، كل الجهود التي بذلت لازاحة منظومة الانقاذ من الحكم، واستبدالها بنظام حكم ديقراطي يمكِّن لدولة مدنية، باءت بالفشل. وبما في ذلك ان لم نقل علي راس ذلك، الثورة السودانية بكل سلميتها ونبلها وعظمتها! وهو ما يعني ان كل دعاوي التغيير الجذري وشعارات الثورة (لجان المقاومة) ونمط التفكير الرغبوي الاسترجاعي، من شاكلة ان الشراكة مع العسكر كانت خطأ لا يغتفر، هي اصلا خارج السياق!
ويبدو ان قوي الحرية والتغيير هي الجهة الوحيدة التي استوعبت، ان هو متاح للسياسة لا يتعدي هامش صغير، في جوهر صراع السلطة، الذي اتخذ طابع مسلح غير معلن بين اجنحة الانقاذ وقيادتها. اي الثورة بكل هيلمانها لم تغير في بنية النظام، بقدر ما غيرت في توازن القوي واستراتيجات اجنحة النظام وقيادتها المتصارعة. ولكن ذلك لا يعني ان قوي الحرية والتغيير تعاملت مع هذا الهامش بكفاءة من اجل توسيعه، او اكتسبت مهارة اللعب مع المكون العسكري بكل نفوذه الداخلي وكفلاءه في الخارج. بل العكس هو الصحيح، عندما اهتمت قوي الحرية والتغيير بخدمة مشروعها الخاص، لتقع لقمة سائغة في يد المكون العسكري! يتم توظيفها لمصلحة صراعهما سواء بالشراكة او الانقلاب عليها. رغم ان هذا لا يمنع ان هامش الحركة كان من الضيق بمكان لاسباب موضوعية، تتعلق من جهة، بالضعف العام الذي تعرضت له السياسة والسياسيون، وما تركه ذلك من اثر سيئ علي الاستفادة من الفرص المتاحة. ومن جهة، بتوازن القوي الذي يميل لصالح المكون العسكري، والذي لا يتورع في لحظة المخاطر (علي السلطة والنفوذ) من ارتكاب افظع الجرائم ضد الابرياء والمصلحة الوطنية!
وعموما، اندلاع الحرب بين الجيش والدعم السريع (اجنحة المكون العسكري/بنية السلطة الاسلاموية) بهذا العنف والعبثية، بقدر ما افصح عن حقيقة الصراع العسكري علي السلطة، وتاليا موت السياسة غير المعلن، منذ حضور الاسلامويين في المشهد السياسي، واستيلاءهم الغادرعلي السلطة. بقدر ما عري اوهام ان هنالك امكانية للتغيير السياسي في ظل توازن القوي المختل لصالح من يملكون السلاح وكل امكانات الدولة.
ولكن السؤال كيف قتل نظام الانقاذ الاسلاموي السياسة؟
اول مقدمات موت السياسة الذي تسبب به الاسلامويون، هو عدم اقتناعهم بالسياسة كفضاء مدني يوفر وسائل سلمية للوصول للسلطة. فالاسلامويون بقيادة شيخهم الترابي كانوا يحتقرون السياسة والسياسيين، بعد ان تم وضع السياسة في خانة اللعبة القذرة التي لا يقوم بها إلا السياسيون القذرون! ولذلك عمل الترابي بهمة يحسد عليها، علي مصادرة السياسة عبر استدخال ما هو غير سياسي في صلب السياسة، ونعني بذلك الدين! وذلك للايحاء باخلقة السياسة غير الاخلاقية، اي منح السياسة سمة طهورية واخلاقية، لاستقطاب اصحاب النزعة الدينية من النشطاء والاستثمار في العاطفة الدينية لدي البسطاء (وهو بطبعه استثمار سهل في التراث الديني كأي نشاط طفيلي! ليصبح هكذا نشاط طفيلي غير مثمر، سمة من سمات عمل ومكتسبات المنظومة الاسلاموية في كل المجالات، من السياسة الي الاقتصاد الي العلاقات الخارجية...الخ).
وقبل ذلك منح الترابي ذاته ميزة اضافية يتقدم بها علي القادة السياسيين سواء كانوا حداثيين (يوصفون بالعلمانية كوصمة للتفسخ الاخلاقي) او تقليدين (يوصفون بالرجعية كاسلوب احتقار). اما الاسوأ من ذلك، فهو تجريد السياسة من مسؤلياتها الاجتماعية (الانشغال بهموم المواطنين) وحشرها في فضاء من التنزيه يحرمها اهم شروطها، اي الجدل كمقدمات والمساءلة كنتائج.
وصحيح ان الترابي جهد ما وسعته الحيلة ومكنه الذكاء واسعفته المعرفة، لاضفاء سمة حداثية علي مشروعه لتدين السياسة، لكسب مناصرين من النخبة الحديثة من ناحية وقبول الغرب من ناحية! إلا ان مشكلة الترابي انه صمم مشروعه علي مقاسه! وهو بطبعه مقاس اقل من متطلبات الدولة الحديثة وحاجات المواطنين. وبالطبع لا مندوحة من حل هكذا تناقض إلا باللجوء للقوة، وتضييق او إلغاء هامش السياسة للمنافسين، عبر القيام بانقلاب علي السلطة المنتخبة (اعلي تجليات السياسة). والمفارقة ان هذه الوصفة التي انفق الترابي عمره للتبشير بها والدفاع عنها، اضرت بالدين ولم تنفع السياسة!
ولكن معلوم ان الترابي الناعق بازاحة السياسة بفرية سيادة الدين، كان يتعمد من ضرب السياسة تحرير السلطة من مسوغاتها الشرعية ومسؤوليتها المجتمعية. وهو ما يعني بدوره افساح المجال امام اعادة انتاج السلطة الثيروقراطية الطغيانية بلباس عصري حديث (اي الترابي لا مجدد ولا يحزنون بل هو اقرب لتجار الروبابكية المحتالين). ولذلك حاول الترابي بكافة السبل (مرة بابتداع برلمان ومرة بلمة حوار وطني ومرة بنجر قانون توالي سياسي) التلاعب علي حقيقة السلطة الانقلابية العارية والمهيئة لارتكاب كافة الجرائم والانتهاكات.
وهذا ان دل علي شئ فهو يدل، علي ان سدرة منتهي الفكر والطموح الديني هو السلطة المطلقة. وهو ما يحيل الدين لدي الاسلاميويين الي مجرد آلية للبطش وسند للتبرير في صراع السلطة. وهي سلطة تتماهي بشكل او آخر مع القداسة، لحيازة الامتياز الإلهي، في ان تفعل ما تشاء وقت ما تشاء كيفما تشاء. وبما ان السلطة تشكل غاية وجودية للاسلامويين، لاشباع نزعة السيادة المتجذرة في طبعهم (خير امة)، فهذا ما جعل كل الوسائل مشروعة للوصول للسلطة ومن ثمَّ المحافظة عليها. وهذا للاسف يقول شئ واحد، ان الدين لدي الاسلامويين يؤدي وظيفة دنيوية خالصة، بل في الغالب وظيفة مبتذلة وقذرة! وما يحير ان المخدوعين من البسطاء لديهم استعداد للموت من اجلها!!
وبما ان السياسة معنية بمسالة السلطة، فقد شنت سلطة الانقاذ الاسلاموية الحرب علي انشطتها واحزابها. وعلي راس ذلك البيئة المهيئة لتطويرها من حريات ووعي ومشاركة. وهذا ما يعني ان موت السياسة قبل كل شئ، مرتبط بالمحافظة علي السلطة الانقلابية. وذلك لان المحافظة علي السلطة يستدعي تكريس جهد الدولة ومواردها، لبناء اجهزة الحماية وشراء المناصرين. وما يترتب علي ذلك من انفتاح شهية السلطة علي الاستبداد وانصارها علي الفساد. واذا كان الاستبداد افساد للسياسة، والفساد دمار للمجتمع ومؤسسات الدولة، اللذان تشتغل بهما وعليهما السياسة. فتاليا الاستبداد والفساد يشكلان الاعداء الوجوديين للسياسة.
لكل ذلك تحولت السلطة الانقلابية علي يد الاسلامويين الي تسلط وتغول وآلة صماء لا تضع اعتبار للمواطنين. وهذا بدوره ادي لانتفاء السياسة كنشاط وممارسة موجهة للمواطنين تتاثر بهم وتؤثر فيهم.
وعموما، اذا كانت العسكرة مفسدة للسلطة، والاسلاموية مفسدة للسياسة، فمؤكد ان اجتماع العسكرة مع الاسلمة في نظام واحد كنظام الانقاذ، يشكل بلاء مضاعف، يضاعف من آثار تسلطه التدميرية الشاملة. وهو ما عجل ليس بالاجهاز علي السياسة كنشاط مرتبط بالسلطة، ولكنه فاقم من تردي اوضاع المجتمع وتحطيم مؤسسات الدولة. ومن آثار ذلك التي لا يمل الكثيرون التذكير بها:
اولا، مع وصول نظام الانقاذ الانقلابي للسلطة اختفت الندوات السياسية، وما تشكله من تواصل بين الساسة والجمهور (تغذية راجعة). وهذا غير انقطاع العلاقة بين الاجيال مما يهدر الخبرات السياسية، وانعكاس ذلك علي حالة الانقسامات الاميبية والتجريب المستمر (غير الناضج) في الساحة السياسية. وهذا دون الحديث عن حالة استنزاف طاقة المعارضة السياسية في التصدي لنظام الانقاذ التسلطي. وباختصار، حُرمت السياسة التطور من خلال التعلم بالممارسة، لتعلق السياسة في فخ التنظير والمشاريع الطوباوية والهوس بالسلطة المحرومة منها، كافق وحيد للنشاط السياسي.
ثانيا، ترتب علي تحطيم الدولة، وانتهاء المجتمع الي طبقتين متمايزتين، اقلية لها صلات بالنظام تملك كل شئ، واغلبية محرومة من كل شئ. ومن ثمَّ اختفاء الطبقة الوسطي، كمصدر لرفد السياسة بالقضايا والاهتمامات والمهتمين. وكذلك تسبب تخريب الخدمة المدنية في تدهور النقابات والتعاونيات وبيئة العمل بصفة عامة، وبما في ذلك علاقة انتماء الموظفين بمؤسساتهم، بعد ان طالتها الطبقية الوظيفية اذا جاز التعبير، والتي من خلالها يتم تمييز من ينتمي للنظام، وتاليا يتكرس نمط للفساد الوظيفي المؤسس.
ثالثا، منظمات المجتمع المدني لم يجرِ تخريبها فقط، وانما تم استغلالها بعكس مقاصدها، او بناء منظمات موازية تستولي علي الاسماء والمهام، لخدمة النظام وانصاره بدلا عن المجتمع.
رابعا، اسهمت ضغوطات الحياة بسبب ترد الخدمات ورفع الدولة يدها عن المواطنين، لانشغال الغالبية بتدبير احوالها المعيشية والاهتمام بالشؤون الخاصة (اللجوء للحلول الفردية غير المسيسة)، ومن ثمَّ انصرفها عن الشأن العام (القنوط من السياسة والتشكيك فيها، كرافعة لتسحين الاوضاع العامة). والمأساة اكتملت بايلولة المجال العام للاسلامويين، ليتم استغلاله اسوأ استغلال، وعلي راس ذلك اللجان الشعبية والاندية الرياضية والجمعيات الخيرية (وشخصي الضعيف علي اطلاع بعلومات عن لجنة جامع واخري مختصة بالمرضي واخري تعاونية متورطة جميعها في الفساد، بشهادة من لا اشك في نزاهتهم، وهذا في مدينتنا وحدها!!).
وبصفة عامة، نظام الانقاذ كنظام قائم علي السلطة او السلطة تشكل بنية وجوده. هو من اكثر الانظمة كلفة سياسية واجتماعية واقتصادية، وهذا ما يؤهله ليصبح اكثر الانظمة تسلط واستبداد وفساد وتدمير لهيكل الدولة وتماسك المجتمع. والسياسة كعامل مشترك بين هذه المكونات واكثر حساسية للتقلبات، فقد نالها الضرر الاكبر من نظام الانقاذ.
ومن اكثر دلائل الخراب، عزل السلطة عن الصراع السياسي، وحفظها في حرز امين بيد العسكر (الحرامية). لينتقل الصراع الي داخل السلطة المعسكرة، بين اجنحتها المتصارعة، وهذا لب الصراع كما سلف ذكره. والذي سمح في مراحل تطوره بطفو الحياة السياسية علي السطح ولكن بهامش لا يمس جوهر الصراع. وصولا لقيام الثورة، ولكن دون السماح بتطورها لتمس بجوهر الصراع. وكل ذلك تاكد بقيام هذه الحرب اللعينة بين اجنحة السلطة المسلحة. وهي حرب رغم كونها اجرامية عدمية، إلا ان معظم التقديرات تشي بصعوبة حسمها او ايقافها، وهو ما يعني بدوره استفحال امد الازمة بكوارثها الانسانية والمادية، وكأن العاصمة واهلها لم ياخذوا كفايتهما منهما! اما الاسوأ من ذلك، ان حل الصراع الذي يبدو كانه غير قابل للحل، في ظل غياب الحكمة، اصبح مرتبط ببقاء الدولة ومصير الشعب.
وصحيح ان هنالك مساهمات سياسية ونضالات حزبية للمعارضة بمختلف تشكيلاتها، وقد لعبت دور في اضعاف سلطة الانقاذ الانقلابية، وسحبت الشرعية منها، وجعلتها معظم الفترات محشورة في الزاوية الضيقة دوليا، لدرجة ان راس النظام اصبح مطلوب لمحكمة الجنايات الدولية بتهم يندي لها الجبين. إلا ان ذلك لا يمنع، ان التدهور طال السياسة علي مستوي الافكار والطروحات والاداء والاحزاب والمكونات السياسية بمختلف اتجاهاتها. الشئ الذي نتج عنه حالة من العجز والبؤس السياسي الذي لا يخفي علي احد. ومقارنة بسيطة بين الحالة السياسية والاداء السياسي والكوادر السياسية ما قبل الانقاذ وبعدها، يتحدث عن كم الخراب الذي طال السياسة والسياسيين. وما الحرب الدائرة الآن والقيادات الاجرامية المتحكمة فيها والعجز عن ايقافها او مجرد السيطرة عليها، إلا تجلٍ لما وصلنا اليه من انتهاء دور السياسة كوظيفة وتاثير.
ولكن ما يهم ان حرمان السياسة والسياسيين من التطور بسبب تسلط الاسلامويين ومنتجاتهم القميئة علي السلطة، حرم كذلك السلطة نفسها من التطور. كما ان عسكرة السلطة التي نحَّت السياسة والسياسيين جانبا، انتجت صراع السلطة بين ذات المكونات المعسكرة. وخطورة هكذا صراع اخير، اثبت انه مدمر للجميع، ولا يعد إلا بمزيد من المآسي الانسانية والدمار للبنية التحتية وذهاب ريح الدولة. وهذا عين ما نشاهده في حرب جنرالاين مجرمين يحتكمان علي قوات مسلحة، رهينة لحب السيطرة، وانعدام الوعي والمسؤولية المجتمعية والوطنية.
ويبدو ان المطالبة بعودة السياسة في هكذا اوضاع حربية جنونية، هو نفسه ضرب من الجنون. ولكن كما نعلم ان عودة السياسة لا تحتاج لاذن من العسكر العدو الاول للسياسة. وهو ما يجعل استملاك السياسة وفرض تاثيرها بيد القوي المدنية. اما المدخل المناسب لهذا الاستملاك وتلك العودة، فهو التمعُّن والاستجابة لدعوة السيد ياسر عرمان وقوي الحرية والتغيير، بانتظام القوي المدنية في الولايات الآمنة (حتي الآن ليس هنالك ضمانة لاستدامة امنها طالما استمرت المعارك) وتشكيل جبهة عريضة ومؤثرة لمناهضة الحرب. ووجاهة هذه الدعوة تنبع من طبيعة الحرب ذاتها، اي كحرب لذات المنظومة الانقلابية مع نفسها ولاعادة انتاج نفسها، سواء بطريقة منظمة اذا ما انتصر الجيش، او بطريقة همجية اذا ما انتصرت قوات الدعم السريع، طالما الحرب رهينة لذات القيادات الطامعة في السلطة ولمصالح من يقف خلفها. اي هي حرب بقدر ما يدفع ثمنها المواطنون الابرياء، بقدر ما هي غير معنية بمصالح هؤلاء المواطنين. وعدم الالتزام بمجرد الهدنة لايصال المساعدات الانسانية للمتضررين، من قبل الطرفين، يعبر عن ذلك صراحة.
واخيرا
اكذب توقع ذاك الذي يتحدث علي استمرار المعارك لعدة سنوات! والسبب ببساطة ان هشاشة الدولة لن تسمح بذلك. وليس ادل عليه، من عجز الحكومة عن دفع المرتبات، كمقدمة لانهيار كافة الخدمات بشكل تام. وهل بعد انهيار قطاع الصحة والكهرباء والمياه والاتصالات الوشيك، وقبل ذلك الأمن، يمكن الحديث عن بقاء للدولة؟ والحال ان ما يحير فينا كسودانيين، ليس عدم اخذ الأمور الأساسية والإستراتيجية بجدية فقط، ولكن الاسوا التعامل بلا مبالة مع مخاطر تستهدفه وجودنا، بل وإساءة استخدام الموارد حتي في ظروف تلك المخاطر الوجودية! وعموما، يبدو ان الحروب تنتج ثقافتها (قيمها الأنانية وسلوكياتها الوحشية). وكما علمتنا التجارب ان هكذا ثقافة بقدر ما يسهل اكتسابها يصعب التخلص منها، حتي بعد انتهاء الحروب. وهذا غير تأثيرها الحاسم علي شكل النهايات واستدامتها. والمؤكد ان طول امد الحروب وشراستها ولا مبدئيتها، تعاظم من هذه الثقافة وتجذِّرها.
ومن سير المعارك علي الميدان يبدو ان قوات الدعم السريع تشكل تقدم ملحوظ في العاصمة، ولكن للاسف كقوات احتلال همجية! والجيش اصبح من العجز وكانه يمثل السلطة الفلسطنية، التي تغطي علي عجزها بالشكوي من ممارسات وتجاوزات قوات الاحتلال. واذا صح ذلك يصبح ظهور البرهان وتصريحاته النارية (التي تعودنا عكسها) وكانها فجة الموت التي لها ما بعدها (والله يكضب الشينة).
تصريحات مستشاري قائد الدعم السريع، تذكر بمقولة (اسمع كلامك اصدقك اشوف عمايل قواتكم استعجب!!!). اما الاصرار علي الكذب بطريقة برهانية (اعلي مقياس لدرجات الكذب) بانكار الوقائع علي الارض من احتلال المستشفيات والمراكز الخدمية ومنازل المواطنين، من جانب قوات الدعم السريع. لهو مؤشر خطير اذا ما انتصرت هذه القوات الهمجية، وصعد امثال هؤلاء المستشارين علي سدة السلطة. لان المتوقع هو تقديم نموذج اسوأ من نموذج الاسلامويين الذي يفوق سوء الظن العريض، كما ينسب الوصف البليغ للشهيد محمود الذي احسن معرفتهم، كطريقته المعهودة في احسان كل شئ.
اما المهزلة الحقيقية، فهي اذا ما انتصرت قوات الدعم السريع في العاصمة، فالمتوقع هي عدم قدرتها علي التعامل مع هذا الانتصار، لانها في الاصل ليس لها تصور مسبق لما بعد الانتصار والسيطرة، وإلا لما دمرت العاصمة ونهبتها بهذه الطريقة الانتقامية. او قد يكون مقصدها (بدونة/من البدو) العاصمة حتي يطيب لهم المقام والحكم! وهو عين ما شهدناه منذ كارثة صعود حميدتي علي صدارة المشهد السياسي، وهو يجهد لادماج الادارة الاهلية (بعمدها ونظارها/بعد بعثهم من الرماد) في صلب السلطة، حتي يتبوأ مقعد ناظر عموم بلاد السودان. وفي هذا السياق، بالله عليكم من سمع بان العاصمة لها ناظر قبيلة، إلا بعد ظهور ما يسمي المك عجيب (ولا ما عارف حاجة كدة عجيبة) وهو يعلن بكل بجاحة وقلة حياء عن ارجاعه بوكس حميدتي وتخليه عنه، وانحيازه لتحالف البرهان، بالطبع بعد قبضه المعلوم!!
وهمسة اخيرة في آذان الاساتذة الكتاب الذين نحترمهم جميعا، والذين يخوضون معارك لا تقل ضراوة وباستخدام كافة الاسلحة المحرمة (اتهامات جزافية تفتقر للادلة) ضد بعضهم البعض، ومن البعض من غير ضد. في قضية الحرب الدائرة الآن، والتي هي اصلا محل جدل، بسبب قادتها واهدافهم والافتقار لمشروعية الحرب واخلاقياتها، خصوصا من جانب الدعم السريع. بمعني، من يقف مع الجيش له مبرراته المقنعة، وكذلك من يقف مع الدعم السريع رغم تجاوزاته، وكذلك من يقف مع ايقاف الحرب له مبرراته الوجيهة، وللاسف حتي من يدعو لاستمرار الحرب له مبرراته رغم ضعف وجاهتها. والخلاصة، المسالة قابلة للاخذ والرد، وليس هنالك من يملك الحقيقية الكاملة التي لا ياتيها الباطل من خلفها، ولا كذلك من يملك الاستقامة الاخلاقية اكثر من الآخرين، وهي بطبعها يصعب قياسها، لانها لحسن الحظ توقر في القلب، وهذا ما يمنحها قيمتها. (فما معقول ياجماعة نطالب العسكر الاغبياء بوضع الكرة في الارض، والكتاب النابهين معلقين الكرة فوق، والغبار معجج!!).
اطلقوا سراح الطبيب الماهر والناشط المهني المقتدر علاء الدين نقد، وبلاش تخلف وتنمر علي النشطاء المدنيين، علي طريقة (الغلبتو الحرب يفتش عن المدنيين او يفش غبينته فيهم!) الله لا كسبكم.
ونسال الله ان تقف الحرب ويعود الامان وترجع السياسة وتغرد لجان المقاومة، لان الخطورة ان يكون موت السياسة مقدمة لموت الوطن. ودمتم في رعاية الله.

///////////////////////////

 

آراء