ميرغني ديشاب ـ هَمَد بَسَلْ زَرَأ!

 


 

 

ضيف علي الروزنامة
هَمَدْ البَسَلْ زَرَأ!

الاثنين
في بلادنا، دائما ما نجد خضوعا لاستهلاك كل ما هو آت من أوربا، والعالم المتقدم عموما. مثلا، كان اللغوي الأمريكي جوزيف غرينبرج (1915م ـ 2001م) قد عمل في جامعة ستانفورد على تصنيف لغات أفريقيا في بدايات الستينات من القرن الماضي، وسرعان ما هرع المشتغلون باللغات في السودان لتلقف ما قال به علي أساس أنه "التصنيف الأكثر شيوعا وقبولاً لدي الباحثين"! أخذوا به لأن باحثين آخرين قبلوه، وشاع عندهم في مجال تصنيف لغات أفريقيا. فهناك المدرسة الألمانية ذات "المنهج التاريخي المقارن"، وهناك "المنهج النوعي" للمعهد الأفريقي العالمي بلندن، وهناك تصنيفات وسترمان وبريان وتكر Tucker واستيفنسن وآخرين. وقد جاء تصنيف لغات أفريقيا علي أنها: لغات آفروآسيوية، لغات نيجر كردفانية، لغات نيلية صحراوية، لغات كويسانية، وقرر أولئك العلماء أن اللغات الثلاث الأولي توجد جميعها في السودان.
في اليوم العالمي للغة عام2016م كان لي شرف المشاركة بورقة، مع ستة آخرين، قدموا أوراقا في بورتسودان. كان مقدمو الأوراق من غير "نجوم" علوم اللغات في السودان، شبابا من دارفور، من البني عامر، من البجا، من جبال النوبة، الحلنقة، وعن العامية السودانية. من هؤلاء الذين لا يعرفهم أحد عرفت أن السودان أبناؤه قادرون علي الإبداع متي ما اتيحت لهم المنابر. كان كلامي في ختام المؤتمر أن نعمل "نحن" أصحاب الأوراق على تطوير وتوثيق لغات السودان، إذ نحن نعيش في بلد لا يُعرف حتى عدد لغاته إلى الآن!
قد يذكر اللغويون المستنيرون، من أبناء السودان وبناته، أن الدكتور عشاري أحمد محمود بدأ مشروعه البحثي في لغات السودان بجامعة الخرطوم عام 1972م. وضم إليه الدارسين في "معهد الخرطوم الدولي للغة العربية"، وقام بدراسة لغات في دارفور، وجبال النوبة، وحلفا الجديدة، وجوبا، وكنانة، والحاج يوسف، وشندي، بمعية هؤلاء الدارسين. ومشروع د. عشاري البحثي هو ما ينبغي أن نمسك به بسبب أن لديه تراثاً بحثياً في جامعة الخرطوم، وفي معهد الخرطوم الدولي، لا بد من درسه. وفي هذا التراث نجد دراساته المتقدمة بين صفحات "المجلة العربية للدراسات اللغوية" التي تصدر فصليا عن "معهد الخرطوم الدولي للغة العربية"، إن لم يكن قد عبث به أو بها من جاؤوا علي رأس هذا المعهد في العهد البائد!
من دراسات د. عشاري، على سبيل المثال لا الحصر، والتي تنير طريق دارسي علم اللسانيات في جامعات السودان وغير السودان، وتنصبه عالما في مادته هذه: "قضايا اللغة والوحدة الوطنية"، و"ضد التعريب"، و"أزمة اللسانيات في العالم العربي".
د. عشاري يعمل، الآن، خارج السودان، مع الملايين ممن هاجروا، وأكثرهم يحتاجهم السودان، والدكتور عشاري واحد منهم، علي الأقل، لعافية لغات السودان.

الثُّلاثاء
صباح الثلاثاء الباكر، الحادي والعشرين من سبتمبر 2021م، صحوت، كما صحا الشعب السوداني، علي أن انقلاباً قد وقع في البلاد! هرعت، كما هرع غيري، إلي قنوات الدنيا الفضائية، تاركا قنوات بلدي التي كانت مستغرقة في بث أغان وطنية، وصور لثوار، كنا منهم، في ساحة الاعتصام، منذ أكثر من عام! تأكدت أن هناك انقلابا، بالفعل، وفي السودان! استغرابي كان فاجعا حين علمت أن المنقلبين تحركوا من مدرعات الشجرة، ومنطقة وادي سيدنا العسكرية، وأنهم بعض فلول النظام البائد!
كان الناس من حولي بين ضاحك وواجم! الضاحكون كانوا يحملون نفس فكرتي، إذ مجنون، مجنون تماما من يفكر في انقلاب في السودان! ما الذي يمكن أن يفعله في وراثة ثلاثين عاما من الخراب المقنن، والاقتصاد المدمَّر، والمعيشة المستحيلة؟! ماذا عنده للاجئين؟! للنازحين؟! للفساد؟! للعدالة؟! لنزاع القبائل والإثنيات؟! لإعمار دارفور والمنطقتين؟! من الذي معه من كادر بشري سوي الجند المأمورين، وفلول النظام البائد، كما قالت الأخبار؟!
ثلاثة أرباع الشعب السوداني مع الثورة التي ليس لها مثيل! هكذا يتنفس الواجمون كلاماً: هل سنعيش تحت حكم المغامرين من العسكر مرة رابعة، بعد عبود وصلفه؟! بعد النميري وكبته؟! بعد البشير وعنجهيته؟! لا حول ولا قوة إلا بالله. هل يقرأ هؤلاء تاريخ السودان، هل يعرفون السودان أصلاً؟! هل رأوا الثوار وخبروهم؟! وهل أدركوا أن من سيواجهونهم أشجع وأشرف من لجنتهم الأمنية التي ما تفتأ تتعالي علي شعب السودان اليوم، وتريد أن تجرب حظها في بورصة المغامرات، ومائدة قمار الانقلابات؟!
نحن خبرنا العسكر المغامرين، وداعميهم المقامرين، الذين انقلبوا علينا ثلاث مرات، فأحالوا استقلالنا إلى رماد، وأحلامنا إلى خراب، وآمالنا إلى دمار، وبلادنا إلى سجن كبير! خبرناهم على مدى اثنين وخمسين عاماً، وقاومناهم، بالدم الغالي، وبالأرواح العزيزة، وظللنا نرجمهم، رجم الشياطين، بأرتال من الأيدي العارية، والأناشيد التي لا تخفت، والهتاف الذي لا يفتر، مذ تأبطوا عصي المارشالية، وذهبوا ييبيعوننا بأبخس الأثمان في سوق نخاسة مياه النيل المجحفة، وإلى أن عادوا يقايضون مستقبل ألأجيال بالأوهام، بين العواصم والمدن الأجنبية، من أديس أبابا، إلى أبوجا، إلى نيروبي، إلى مشاكوس، إلى نيفاشا، إلى الدوحة، إلى جوبا، وغيرها، وغيرها، ويعبثون بحكمة شعوبنا في التفاوض المتعثر، والمصالحات الزائفة، وفض النزاعات المنقوص، فما بلغوا أبعد من فصل ثلث البلاد، وإشعال الحرائق في الثلثين الآخرين من أقصاهما إلى أقصاهما. وها هم أخيراً يلجأون إلى سحب قوات حراساتهم من مقرات لجنة إزالة التمكين، الرمز المتبقي، حتى الآن، لثورة الشعب المجيدة، ليكشفوا ظهرها عارياً للأعداء منادين: "تعالوا يا من استردت هذه اللجنة ما نهبتم من مال شعوب السودان، وصادرته منكم، وردوه إلى خزائنكم الحرام، فليس عليه، اليوم، حارس"!
إن من عاش ثلاثين المخلوع وجماعته يعلم، تمام العلم، أن أغلب موظفي الخدمة المدنية والعسكرية، لم يكونوا ليبقوا في مناصبهم، دع أن يترقوا، ما لم يكونوا من "فلول" الإسلامويين، وحرامية المؤتمر الوطني! لذا فإن الوصي علي الشعب السوداني ليسوا هؤلاء، بل هو الشعب السوداني نفسه، ولو كره البرهان أو حميدتي، فذهبا يخطبان بعكس ذلك في الجنود، بمن فيهم من شاركوا في الانقلاب السابق، أو جرى إعدادهم للمشاركة في الانقلاب اللاحق! فما فنجرة الكلام إلا جالبة لسوء الخاتمة. وقي الله السودان شعبا وجيشا.

الأربعاء
في (حقيبة الذكريات، ص 131 ـ 132)، قال العلامة الراحل عبد الله الطيب: إن اسم "أتبرا" القديم هو "الداخلة"، وهكذا سمعنا أهلنا يسمونها، لأنها "داخلة" بين النيل و"الأتبراوي"، آخر الفروع التي تصل النيل من هضبة الحبشة، ثم نُقل اسم "الأتبراوي" إلي المحطة الحديدية فسميت به. ولم يكن هذا الاسم يطلق إلا علي البلدان الواقعة علي "الأتبراوي"، بعيداً عن النيل، مثل بلدة "الشوك" وما أشبه. والكلمة بجاوية غير عربية بالمرة؛ فألف، فتاء، فباء، فراء بعدها هاء، وإن شئت كتبتها ألفا كما تنطقها، وإن شئت كتبتها تاء مربوطة "أتبرة". ثم إن المصريين الذين خطوا أسماء محطات السكة حديد، في جيش كتشنر الفاتح، عمدوا إلى تفخيم الهمزة والتَّاء فكتبوها "عطبرة"! قلنا: لا نجد في اللغات غير العربية في السودان كلمة تنتهي بهاء أو تاء مربوطة وما قبلهما مفتوح!

الخميس
خلال عملي بولاية القضارف، نقلت من "مدرسة دوكة الثانوية"، إلي "غبيشة" التي افتتحت بها مدرستان ثانويتان للبنات والبنين لأكون مديرهما؛ كان ذلك عام 1994م. كان المنزل الذي خصص لي من طراز قديم بقطية 11 متر وغرف متداخلة مع المرافق بفناء واسع. كان البيت، في الأساس، لناظر المدرسة الأولية. وكان إذا جاء من يبحث عني دلوه علي "بيت الناظر" حيث أسكن مع أسـرتي. والبيت بعيد عن الأهالي، نسبيا، مطرِّف. ومع ذلك كان يزورني، دائماً، شباب وشيوخ. وأهل "غبيشة" أهل كرم ونخوة، وأبنائي وبناتي في المدرستين ورثوا عن آبائهم صفات نبيلة.
ذات يوم زارني أحد الشيوخ، وما كاد الأنس يستغرقنا عن ماضي القضارف، وعن حال "غبيشة" القديمة، وعن شيوخ وفرسان عرب "الشوراب"، حتي فاجأني الرجل بقوله:
ــ "إنت يا حضرة الناظر بيتك دا ما كان رتبوا فيه لي انقلاب"!
لبرهة، لم أنتبه لما حولي، وكأنما ثمَّ صخب في البيت، ثم انتبهت:
ــ "كيف"؟!
اعتدل الشيخ يحكي:
ــ "فجأة حضر إلينا هنا سبعة ضباط جيش، نزلوا في ضيافة الأستاذ جعفر عبد الحفيظ ناظر المدرسة، كان معهم شاعر اسمه كجراي، وكان معهم محمد وردي كذلك. كنا نسمع في الليل غناء جميلا، وكلاما لا نتبينه. كانوا لا يزورون أحدا ولا يزورهم أحد. بقوا هنا سبعة أيام بلياليها، وفي مساء اليوم السابع اختفوا فجأة، مثلما جاءوا، ومعهم ناظر المدرسة. وبعد حوالي أربعة أيام وصلنا خبر أن هناك "انقلاب". وسمعنا كذلك أن الأستاذ جعفر عبد الحفيظ صار وزيراً للتربية والتعليم"!
ووسط ذهولي التام سكت الشيخ، ثم استأذن في الذهاب. بعدها ما زرت، أحدا، ولا زارني أحد، إلا وسألتهما عن ما حكي لي الشيخ، وإلا حكيا لي ما حكي الشيخ بحذافيره، مع التركيز علي أن محمد وردي مكث في قريتهم سبعة أيام!
تذكرت أن رفاقي كانوا ينادون الأستاذ جعفر عبد الحفيظ بالسيد الوزير، ولم أتبين مغزي ذلك. وعلي الرغم من أني في القضارف، لم أتمكن من زيارته، قلت سألتقي به يوما ما، وهاجرت إلى وادي حلفا، بعد قضاء ثلاثة أعوام هناك، دون أن ألتقي به، حيث سمعت، لاحقاً، بوفاته، ووفاة صديقي كجراي، رحمهما الله.
كان الحدث الذي حكى لي عنه الشَّيخ هو الانقلاب الذي أعدم في إثره البكباشي علي حامد، والبكباشي يعقوب كبيدة، والصاغ عبد البديع كرار، واليوزباشي طيار الصادق محمد الحسن، واليوزباشي عبد الحميد عبد الماجد، شنقاً بالمخالفة للقانون العسكري، وذلك في زمن الفريق ابراهيم عبود عام 1959م!

الجُّمعة
ونحن نغادر المسجد، عقب صلاة جمعة، اقترب مني ليقول لي بصوت قوي:
ــ "كل الكلام الذي قاله الإمام من الفقه"!
سألته:
ــ "وما له الفقه"؟!
قال بذات قوة الصوت:
ــ "وضع بشري، متغير في الزمان والمكان، والأئمة الأربعة لم يكونوا راضين عن فتاواهم، بل كانوا يحظرون على تلاميذهم تدوينها حتي لا تنتشر بين الناس فيأخذون بها"! وأردف قائلاً:
ــ "المهدي رحمه الله ألغي الفقه، وأحرق كل كتب الفقه، وكان يسجن من وجد عنده كتاب فقه، وقال قولة الإمام أبي حنيفة مشيراً إلى الأئمة الأربعة: نحن رجال وهم رجال"!
ثم باغتني بالسؤال:
ــ "فهل اهتزت الدولة المهدوية بمنع الفقه"؟!
أجبت قائلاً:
ــ "لا".
فأخرج من جيبه الواسع كتابا عنوانه "الآئمة الأربعة"، وقال يأمرني:
ــ "إقرأ هذا"!

السَّبت
الدراسات التي تتم في الشعر الشعبي العربي في بلادنا، دائما ما تنحصر في جمع الشعر، حتي إذا كثر شيئا عند جامعه، قام بنشره. قليلا ما نجد دراسات تكتشف هذا الشعر. وكان د. عبد المجيد عابدين قد تناول الشاعر الحاردلو بالدراسة عام 1957مم، وقد وجد المادة الخام مجموعة، غالبا، عند الراحل المبارك إبراهيم، فأقام عليها دراسته، وخرج علينا، في أقصي تجلياته، بلفظ "دوبيت" الذي لا وجود له في السودان البتة. لكن الباحثين صاروا يستخدمونه بلا روية!
لفظ "دوباي" هو الذي يُستخدم لدى الكواهلة والبطاحين فحسب؛ لكن لفظ "دوبيت" صار مصطلحا ثابتا عند متحذلقة البنادر، بندر الخرطوم وغيره، في ما أضحى يسمي باسم "العاصمة المثلثة".
زمان، أيام الطلب في الجامعات، كنا نقرأ مدونات الشعر الشعبي العربي في كتب عناوينها "الشعر الشعبي في السودان". أما الآن، بعد أن "هرمنا"، وقفنا علي خطل تلك العناوين التي تبحث في ما يسمي باسم "الدوبيت"، وصرنا نتحدث ونكتب عن أن في هذه البلاد الآمنة، باذن الله تعالي، شعرا شعبيا عربيا، وشعرا شعبيا غير عربي!
الباحث أسامة أحمد نور الدائم جاء إلي الشعر الشعبي العربي بمنهج دراسي جديد، تناول من خلاله "مسدار قوز رجب" للشاعر الصادق حمد الحلال المشهور بالصادق ود آمنة. وهو مسدار مكون من 18 غنوة فقط. كان أسامة قد أسس – مع آخرين – موقع "الربع الظافر" في السوشيال ميديا، جاعلين منه موقعا للشعر الشعبي العربي، ثم اتصلوا بمن علي علم بهذا الشعر في أرض البطانة، وبوادي كردفان، ودارفور، ووسط السودان، فاجتمع إليهم منه رصيد ضخم.
ما من شاعر، أو راوية في هذا الضرب من الشعر، إلا وكان أسامه سباقا إلى الأخذ عنهما، سواء داخل السودان أو خارجه. وقد انتهج الشرح العام للغنوة، وأخذ بتفاسير أهل العلم والمعرفة بإعادة من أهل البادية والحضر، ثم بإفادات معاجم ومدونات العامية العربية السودانية، فمعاجم اللغات غير العربية، مقارنا كل ذلك مع معاجم الفصيح العربي. ومن كل هذا جاء كتابه "الرسن في فهم الشعر الشعبي العربي في السودان" مؤلفاً ذا منهج علمي باذخ، وفهم واسع في 1130 صفحة على جزءين، وقد صدر عن دائرة الثقافة بإمارة الشارقة في 2017م.

الأحد
في اللغة البجاوية، الحاء هاء، والصاد سين، والعين همزة. والفعل يأتي في آخر الجملة بعد المفعول به. وكان المدرس القادم حديثا إلى هناك يقول الجملة ليرددها تلاميذه:
ــ "حمد زرع البصل".
غير أن التلاميذ كانوا يرددون وراءه:
ــ "هَمَدْ البَسَلْ زَرَأ"!

***

 

آراء