حُكِمَ على "جميلة" بالسجن المؤبد لأنها قتلت من جنى عليها شرّ قتلة!
بقلم: د. محمد بدوي مصطفى
mohamed@badawi.de
توطئة:
نحن البشر ملأناها هذه الدنيا بالمحن والعجائب في زمن يرفع فيه الكل راية التقوى والصلاح. عدا المحن السياسية وكوارث البيئة هناك محن وكوارث وطامات كبرى نعيشها واقعا ملموسا في أوساطنا، فالبعض يراها ويضع رأسه في الرمل والبعض الآخر يسمعها ويسد أذنيه وكأنه لم يعقل أو يسمع شيئا. القلة القليلة تتعامل بمبدأ من رأى منكرا (...) وهي الفئة التي تعمل بنكران ذات وتضحية مستمية من أجل البقاء على فتات القيم والأعراف الجميلة في مجتمعاتنا التي أصابتها التصدعات والتهتك من كل الجوانب. عزمت إخوتي أن أكرس جهدي في المقالات القادمة على ظواهر المجتمع، سيما التي تخص المرأة وأن أعكسها عليكم ليرى كل منَّا نفسه فيها وليحمل كل واحد منا المسئولية تجاه أهله ومحيطه الذي عاش وما يزال يعيش فيه. ما فتأت مشاكل المجتمع تزداد يوم تلو الآخر، نجد جرائم القتل والسلب والنهب، إلى ادمان المخدرات من سن باكرة، إلى الاعتداءات الجسيمة على الأطفال والنساء عبر الأذى الجسدي أو عبر التحرشات الجنسية والقائمة قابلة للزيادة. في الحقيقة صارت تلك المصائب تتشابه في معظم الدول العربية ويمكننا أن نجدها مجتمعنا السوداني وفي المجتمع المصري أو المغربي بنفس النسق. لذا فلنا في فهما وتحليلها والاستفادة منها عبرة في بيئتنا السودانية. نجد تلفزيونات عدد من الدول العربية كالمغرب ولبنان ومصر تتصدى لها بكل شفافية ومصداقية مقدمة الحلول عبر محلليين ومعالجين نفسانيين. أما فيما يتعلق بتلفزيون السودان فنحن ما زلنا في بداية المشوار رغم تفاقم هذه الظواهر في المدن وحتى في الأريفاف. لكن أهل الإعلام ببلدنا يبذلون الجهد لابرازها وهذا محمود فجزاهم الله عن أمة محمد كل خير. لكن دعونا نتساءل:
1) ما هي طبيعة الجرائم التي تعج بها مجتمعاتنا – كما وكيفا؟
2) ما هي العلاقة بين تدين المجتمعات وازدياد الجرائم الأخلاقية المتطرد؟
3) ما هي الأسباب والدواعي التي جعلتها تنتشر بهذه السرعة وتتكاثف بهذا الشكل؟
4) كيف يمكننا عبر جمعيات المجتمع المدني إيجاد حلول فعّالة في التوعية والعلاج والوقاية؟
5) كيف يمكن ارشاد المجني عليهم والجاني بأن هناك طرق للعلاج والخروج من الأزمة؟
قصة جميلة التي تكتمت عليها ٤٠ سنة (قصة الناس – تلفزيون المغرب القناة ١):
تبدت جميلة في هذه الحلقة مستترة بالنقاب ونظارات سوداء تغطي عينيها. بلغت لحظتئذ ٥٦ عاما. بدأت تسرد قصتها للمشاهدين الحضور في الاستديو:
كنت في ريعان شبابي عندما بلغت سن السادسة عشر في عام ١٩٧٢. كنت أختلف إلى المدرسة الثانوية بالمغرب ككل البنات في سني. تقدم لي شاب في مقتبل العمر وتمت خطوبتي منه وأنا في تلك السن المبكرة. ذات يوم ذهبت إلى المدرسة وقضيت يومي الدراسي كأي يوم آخر، وفي نهاية اليوم كان خطيبي ينتظرني على الباب لنرجع إلى البيت سويا. اختطفت بعد بضع دقائق من خروجي من المدرسة وأنا أسير بجانبه على الطريق. حدث الأمر بصورة مفاجئة فلم أعلم في تلك اللحظة ما دار ومن الذي اختطفني، ابن آدم أم جان؟! لكن بقي بذاكرتي صوت واحد لم ينمح منها، هو صوت خطيبي عندما صرخ متأوها ناطقا بكلمة "آي". لا أعلم إن ضربوه أم قتلوه؟! على كل حال حملني أربعة أشخاص لا أعرفهم في سيارة وساقوني معهم إلى حديقة أشبه بالغابة. كانوا يشربون النبيذ الأحمر وبدت على ملامحهم وهيئتهم حالة السكر. ازدادوا شربا وبدأوا ينحوا لي ملابسي. خمس ساعات دامت بين لحظة الاختطاف وبين ساعة طردي من الحديقة الموحشة. كانوا يعاملوني بالضرب كالعبدة ويتناوبون عليّ بالتوالي، فعندما يقضي أحدهم وطرا يرميني للآخر، ويبدأ هذا وينتهي، وهلم جرّ. صحت ودافعت عن نفسي منذ لحظة الاختطاف وحتى في ساعات التناوب المتتالية، لكن - لسوء حظي - كنت بهذا المكان المقفر: لا أحد يسمع ولا أحد يرى. ضربوني عند المقاومة ولم أكن أعلم في تلك اللحظة ما جرى لخطيبي. ربما ظل مرميا على الأرض بعد أن ضربوه وحملوني معهم. كانوا يتنابون عليّ بالوجهين ولما أكملوا ما بأنفسهم طردوني في حوالي الساعة الثانية عشر من الليل وربما الساعة الأولى من اليوم التالي. احترت في أمري وأنا أتيه في ذاك المكان: إلى أين أذهب؟ بعد لأي وصلت إلى دارنا وكنت أخاف أخوالي شدة الخوف. كنت قبل الوصول إلى الدار أفكر في حالتي أنا، وأسأل حالي: ماذا يمكن أن أقول لأهلي في البيت في تلك الساعة المتأخرة وفي هذه الهيئة التي تثير الارتياب؟! كنت أردد "حسبي الله ونعم الوكيل". ضاع في تلك اللحظة كل شئ وكل ما كنت أملكه فلم يبق لي شئ كي أشرع في الزواج الذي لم يبق من موعده إلا شهر واحد. بدا لي المستقبل نقطة سوداء: بنت مخطوبة وفي شهر أغسطس عرسها؛ لم أعرف ماذا أقول للناس؟! على كل وصلت الدار ووجدت أمي وأخوالي منتظرين بعد أن يئسوا من البحث عليّ.
أمي كانت شديدة الخوف منهم. دخلت الدار وسردت لأمي على انفراد أنه كان وكان وكان. فجأة انقلبت لوحش وصاحت فيّ قائلة:
- يا الخانزة إنت المشيت عندهم!
وكأنني ذهبت إليهم بمحض إرادتي ومن أجل أن أغتصب. قلت لها وأنا في حالتي التي يرثى لها:
- شوفي ملابسي وشوفي حوايجي وجسمي!
كنت كلي "مكرفسة". استطردت قائلة:
- إنت إيش الوداك عندهم؟
لم تمض لحظات من حديثي معها حتى أحضرت العصا وأفرغت امتعاضها على جسمي الذي كان به ما يكفيه من الألم واليأس والقنوط. أخرجت بعدها ملابسي واستحممت بالماء البارد لأغتسل من كل البلاء الذي أصابني. بيد أن تلك الرائحة التي انبعثت منهم ما زالت تزايلني. التصقت بي فكرهت نفسي. من ثمة حضر أحد أخوالي وسأل أمي:
- فين كانت هذه الخانزة؟
أجابته:
- كانت ضايعة.
ومن شدة خوف أمي من خالي حاولت أن تبرئ نفسها مما ألمّ بي وكأنها تقول بلسان حالها: "كانت ضايعة وليس لي شأن في ذلك".
سألتها قبل أن يأتي أخوالي، كيف لي أن أبلغهم ما حدث؟ فصاحت بيّ قائلة:
- إنت عايزة تفضحيني؟
(سألتها المذيعة متداخلة أثناء السرد: لماذا لم تبلغي الشرطة أو تذهبي للكشف في مستشفى؟) فأجابت:
- في عام ١٩٧١ لم نكن نقدر على الكلام أو الافصاح بقضايا شائكة مثل قضيتي. كنا نخاف من كلمة "الفضيحة" ونخاف الجيران وألسنتهم وغوغاهم عندما يحكون: "بنت فلان فعلت وبنت فلان تركت".
لجأت أمي للعصا لأنها لم تتقبل الموقف (كحال كثير من الأمهات والآباء الذين يضعون رؤوسهم في الرمل وكان المشكلة تنمحي من الوجود بالكتمان والتستر من القيل والقال مع اهمال المجني عليه).
بعد ذلك خرجت لأجد السلوى عند صديقة يهوديّة. رحبّت بي وداوت جراحي ووجدتها كلها أذن صاغية في محنتي هذه. همت هيّ أن تخبر أمها، لكنني قلت لها، لو تجرأت أن تخبري والديك فسوف أقتل روحي! وعملت بقولة أمي حينما قالت "كانت ضايعة". شرعت في الخروج والضياع إلى الزنقة (الشارع) فأصحبت رائدة من رائدات الشوارع وصائعة من الصنف الأول. صرت أذهب إلى المقاهي والنوادي الليليّة التي تقدم الخمر والشراب. غديت أشرب الخمر وأدخن القارو (السجائر)، أمشي مع الرجال بكل ألوانهم وأصنافهم، أضاجع من أحب منهم. كان أمام عينيّ هدف واحد هو الانتقام منهم كلهم؛ نعم الانتقام من الرجال! بيد أنني كنت أنتقم من نفسي. الرجال صنف واحد وكلهم زي بعضهم، فالرجل الذي اعتاد ارتياد المقاهي وتبزير الدراهم في الشرب وفي نفقات العشيقة، تاركا زوجه وأولاده جوعى، ليس برجل! نعم، كلهم من نفس الصنف ومن نفس الطينة، طينة البؤس! تطورت حالي وبعد أن كنت أخرج معهم واضاجعهم صرت أشاربهم وبعد أن ينتهي الحال أسرق ما لديهم من مال وحوائج وأتركهم عراة سكاري وأخرج. استمرت الحال على هذا المنوال ابتداءا من عام ١٩٧٢ إلى عام ١٩٧٦. تعرفت في خرجاتي وصولاتي الكثيرة على رجل أحبني وقال ليّ بأنني لست خليقة بالشوارع. عاشرته مدة من الوقت في الحرام. وقال لي ذات يوم أنه يريد الزواج بي. ففرحت من كل قلبي لأن الله بعث إليّ برجل قد يصالحني مع أسرتي التي ابتعدت عنها بعد الحادثة. لم أفرح لأنني أحببته أو لأنني كنت أعشقه، فأنا لا أظن ذلك. على كل تصالحت مع أسرتي ورجعت المياه إلى مجاريها وأنجبت منه بنتين. لكن ما زال ذاك الهاجس الشيطاني بالخروج والانتقام يلازمني كظلي، ليل نهار، سيما عندما أكون في وحدة مع نفسي. ذات يوم قلت له يا فلان، تعال أحكي لك قصتي.
سألته في الأول:
- كيف تعرفت عليّ في بادئ الأمر؟
أجاب:
- في مقهى.
بدأت أسرد له تفاصيل الحادثة التي ألمّت بي عندما كنت في السادسة عشر من عمري وبكل التفاصيل الدقيقة. قلت له كل شئ، كل الحقيقة. كان يعلم بذلك قبل الزواج لكن لم يزعجه الأمر قديما عندما كانت تجمعنا الليالي الحمراء. لم يتقبل الأمر بعد الزواج وفي تلك اللحظة لم يتقبل صراحتي التامة. قضيت معه بعدها سبعة أشهر ذقت فيها مرّ المعاملة والهوان وحتى المعاشرة الزوجيّة حرمني منها. صار لا يحملني ولا يطيق أن يراني. في نهاية المطاف بلغ بي السيل الزبا وما كان مني إلا أن أخبرته بأن نفترق. قلت له "يا فلان أن لم تردني فطلقني!"
نزل عن رغبتي وطلقني. ذهب بعد الطلاق مع ابنتيّ إلى أسرتي. كانت أسرتي على تواصل معي في فترة ارتباطي بزوجي هذا: يزوروني وأزورهم. وبكل أمانة كنت في قرارة نفسي أنتظر هذا اليوم بفارق الصبر. صبرت حتى تنتهي العدّة بعد الطلاق. وبعد أكملتها خرجت من فوري إلى الشوارع كما كانت حالي من قبل. عاودني هاجس الانتقام فخرجت أبحث عن الجاني الأول الذي لم تمحه السنون ولا الأيام من ذاكرتي. تعرفت عليّه بمرور الأيام إذ كان يرتاد المقاهي التي كنت أرتادها أحيانا. كنت التقي سيدة تمتلك صالون حلاقة وكانت تعرفه سيما أنني رأيتها معه. كنت أسألها عنه وأقول لها أنني أبغيه. حتى في فترة الزواج كنت أراها وأستقصي عن أخباره فكانت تجيبني أنه يأتي المقهى بانتطام وتعطيني بعض أخباره. كانت هذه السيدة مدمنة للخمر وكانت ترتاد النوادي الليلة والمقاهي بانتظام، فتراه وتعرف عن حضوره وذهابه في تلك الأماكن. وضعته في بالي. جلست إليه ذات يوم أشاربه الخمر. أخبرته أنه لي بنتان، لأستدرجه بهما. لم يخطر على باله أنني تلك الفتاة الصغيرة التي جنى عليها. لقد تبدلت تلك الفتاة إلى سيدة محترمة أنيقة تلبس الجاكتات بآلاف الدراهم. تكررت اللقاءات والجلسات. كنت أجالسه ذات يوم وأشاربه الخمر، قلت له هامسة:
- يا فلان أن أبغيك.
لكن لم أذهب معه في يومذاك لكن صرت استدرجه وأحط له الطعم. فرح بما أبديته له من أعجاب. لقد فرح أن أمرأة جميلة تحبه وتبغي أن تنام معه. كان لي صديقة موظفة في معامل أدوية، طلبت ذات يوم منها دواءا منوما متحايلة عليها بعدم النوم والأرق الشديد. قابلته بعد يوم من لقاءانا الأخير وطلب مني أن أذهب معه إلى البيت. لم أستجب على الفور وقلت له "بكره". جاء اليوم وذهبت معه إلى شقته. كنت لابسة بنطلون وجاكته. دخلت معه الشقة وجلسنا وكان يحمل معه شراب النبيذ الأحمر (الروش). قلت له أنني جائعة وطلبت منه أن يحضر لي أكل. كان الليل قد انتصف في تلك اللحظة. أخبرته أن في شارع فلان يوجد بائع كفتة وطلبت منه أن يحضر لي بعض السندوتشات. أراد أن يستقل تاكسي فعدلت في رأيه ودفعته أن يذهب على الأرجل، قائلة: "ليس هناك من عجلة في الأمر". بعد خروجه وضعت له قطرات المنوم في قارورة النبيذ التي احضرها معه. لم أفرغ كل المحتوى محتفظة بالباقي. رجع حاملا السندوتشات. دعوته أن يشرب. وكلما يقف عن الشرب ألكزه ليواصل فيه بعد أن أضع له في كل كأس بعض من القطرات المنومة. لم أهبش الأكل فظل على الطاولة كما هو. شرب الكأس الأخيرة وارتخى. ضربته في صفحة وجهه اليمني بالسكين ضربة فاق على اسرها يسألني:
- ماذا دهاك يا فلانة، أتريدين قتلي؟
أجبته:
- أنت قتلتني ألف مرّة. اغتصبتني وضيعت عليّ شبابي وضيعت عليّ حياتي وحتى ركن الزوجيّة ضيعته عليّ.
ضربت بالسكين ضربة قاضية في أم قلبه فقتلته وبعدها ضربته ثلاث ضربات. كان قلبي محروق ولم يشف ظمأه من دم الكلب الوقح. هممت بالخروج في سكينة ورزانة لكنني وقفت عند الباب برهة وعدت إليه ثانية. رجعت وقطعت عضوه الذكري. كنت في تلك اللحظة قد نسيت الدنيا وما فيها؛ نسيت حتى بنتيّ. لم أفكر في الناس فهم لم يرحموني من قبل. من هناك سرت قاصدة الشرطة وعندما بلغتها أعلمت للشرطي بأنني قتلت شخصا. نهرني قائلا: "سيري في حالك وإلا وضعت في السجن"! لم أذهب وأصريت على جريمتي فما كان من الشرطي إلا أن أخبر المدعي العام للنيابة. حضر وسألني:
- أنت بكامل قواك العقلية؟
أجبته:
- نعم!
- إياك وأن تكذبي عليّ! لماذا قتلتي الرجل؟
أجبته:
- اغتصبني.
- لماذا لم تشتكيه لدى الشرطة؟
- اغتصبني وأنا في السادسة عشر من عمري.
على كل تمّ القبض علي وجاء يوم المحاكمة. لم يرحمني القاضي أبدا ولم يعطني حق الدفاع عن الشرف إذ أنني دافعت عن شرفي وكرامتي، لكنه أجحف في حكمه عليّ ولم يعطني هذا الحق. حكم على بثلاثين سنة سجن. علم طليقي بالقضية وتأكد بأنني في فترة التحقيق. حضر وأخبر أسرتي أن يريد أن يرجعني إلى بيت الزوجيّة. كنت أعلم أيما علم، أنه لو لم يطلقني لنسيت القصة أو ربما لضاعت ثورة الثأر واندثرت مع الزمن.
الحمد لله - وقف معي الكثيرون في هذه المحنة. تغير الزمن وصار الناس على ادراك وعلم بتلك القضايا فتغيرت النظرة التقليدية وتغير أمر التصدي في معالجتها.
قضيت ١٣ عاما لغاية سنة ٢٠٠١ حينئذ خرجت من السجن. أتيت إلى الدنيا ووجدتها قد تغيرت إلى دنيا أخرى، ووجدت بنتيّ قد بلغا عمر الزهور فواحدة منهما صارت زوجة.
وهذه قصة جميلة.