نجاح الثورة رهين بتصفية التمكين الاقتصادي

 


 

 

 

الطريق لنجاح ثورة ديسمبر واستكمال مهام الفترة الانتقالية رهين بتحسين الأوضاع الاقتصادية والمعيشية التي أصبحت لا تُطاق ، وتصفية التمكين الاقتصادي الإسلاموي، مما يستوجب متابعة دراستنا السابقة لجذور ونشأة الرأسمالية الطفيلية الإسلاموية في السودان، ومعرفة مصادر تراكمها وفسادها ، وكيف نهبت أموال وممتلكات الشعب وأراضيه وثرواته خلال الثلاثين عاما الماضية ، فما هي تلك الجذور؟

ترجع جذور الرأسمالية الطفيلية الاسلاموية في السودان الي فترة الحكم المايوي ( 1969م- 1985م) التي تدهور فيها الإنتاج الصناعي والزراعي بسبب تخفيض قيمة الجنية السوداني وارتفاع تكاليف الإنتاج، وانتشار الفساد، والنشاط الطفيلي غير المنتج مثل تجارة العملة وغيرها.
في هذه الفترة تراجعت الرأسمالية السودانية التقليدية التي نشأت بفضل مشاريع الإدارة البريطانية في النصف الأول من القرن العشرين باقسامها المختلفة وبدرجات متفاوتة والتي تتلخص في الشركات الأجنبية والرأسمالية المحلية من اصل اجنبي ، والرأسمالية السودانية (آل ابو العلا، البربري، آل عبد المنعم،.الخ)، وخاصة بعد قرارات التاميم والمصادرة في عام 1970. ومن الجانب الآخر صعدت فئات رأسمالية جديدة من المدنيين والعسكريين المتعلمين واتسع حجم هذه الفئة في تلك الفترة، وكان من أهم مصادر تراكم هذه الفئة هي:
- الدخول العالية والعمولات التي كانت تستحوذ عليها من خلال ادارتها للدولة.
- دخول أعداد كبيرة من قيادات الخدمة المدنية والعسكرية، وخاصة الذين تم تسريحهم من الخدمة، الي ميدان الزراعة الآلية، وبالتالي حققوا أرباحا هائلة من هذه العملية.
- التسهيلات التي كانت تتلقاها من البنوك التجارية لتمويل عملياتها التجارية ولتجارة السوق السوداء والعملات وبناء العقارات ودعم تجارة الصادر والوارد.
- العائد السريع من النشاط الطفيلي (تخزين، سوق سوداء، تجارة العملة،السمسرة. الخ).
ونلاحظ أن هذا النشاط اصبح غالبا في تلك الفترة ، وفي الوقت نفسه تراجعت الرأسمالية الوطنية المنتجة التي كانت تعمل في ميدان الإنتاج الزراعي والصناعي نتيجة لارتفاع تكاليف مدخلات الإنتاج ، وأزمة الوقود والطاقة وانخفاض قيمة الجنية السوداني.الخ.
وبالتالي سيطر النشاط الطفيلي الذي ارتبط بالثراء السريع علي مختلف اوجه الحياة الاقتصادية والاجتماعية ، وظهرت فئة السماسرة التي تعيش علي العمولات ووكلاء البنوك الأجنبية والإسلاموية والشركات الاجنبية ورؤوس الأموال البترولية وشركات النهب والفساد مثل شركة تراياد التي تحالفت مع مجموعة القصر.
في المشاريع الزراعية المروية زاد تركز الثروة والغني والحواشات والتراكتورات وغير ذلك في أيدي أغنياء المزارعين وخاصة بعد ادخال نظام الحساب الفردي عام 1981 في مشروع الجزيرة ( انظر: الحزب الشيوعي : ازمة مشروع الجزيرة ، دار الوسيلة، 1988).
في الريف ازداد تركز الثروة في أيدي زعماء القبائل وكبار ملاك الأراضي نتيجة لارتباطاتهم بمؤسسات السلطة: اتحاد اشتراكي ، لجان تطوير القرى، مجالس الشعب الاقليمية.الخ، وسيطر هؤلاء علي رخص الأراضي الزراعية والمحلات التجارية وحققوا ثروات وأموال ضخمة من ذلك عن طريق العمولات والرشوة والفساد.الخ، هذا اضافة لتزايد ثراء أغنياء المزارعين والرعاة أو ملاك الثروة الحيوانية نتيجة للتوسع في عملية تصدير الماشية خلال تلك الفترة.
وفي هذه الفترة اتسعت فئة اصحاب العمل التي بلغ عددها عام 1981 م، (4847) ( دليل قسم احصاءات العمل بادارة القوى العاملة والاستخدام لعام 1981).
وفي عام 1971 كان نصيب 1% من السكان 8% من الدخل القومي، و10% من السكان 23% من الدخل القومي. وفي عام 1985 ارتفعت تلك النسبة حيث قدرت ان 1% كان نصيبهم من الدخل القومي 16%، 10% من السكان كان نصيبهم 44% من الدخل القومي.
اى أنه زاد تركز الثروة والغني وتعمقت الفوارق الطبقية، كما ارتفع معدل الاستهلاك الخاص حيث بلغت هذه النسبة للاستهلاك من الناتج القومي حوالي 82% خلال الفترة(1975/76- 1985).
كما ظهرت انماط استهلاك وصرف بذخي استفزازى، كان حديث الناس في تلك الفترة: في الافراح والاتراح وبناء غابات الاسمنت. الخ.
وفي احصاء 1983 ، كان 3,% من سكان السودان يعيشون في فيلات وعمارات، بينما كان 36,6% يعيشون في منازل عادية متفاوتة، 61,4% يعيشون في قطاطى من القش والطين والشعر(احصاء 1983، ص 46).
هكذا كانت الطبقة الرأسمالية الطفيلية تبدد الفائض الاقتصادي في صرف واستهلاك بذخي أو تهربه للخارج، علي سبيل المثال: تم تقدير متوسط رأس المال الهارب في الفترة : (78/1979 – 84/1985 ) ب 15 مليار دولار، وحسب د.علي عبد القادر: (ان القطاع المصرفي السوداني يقف متهما بتمويل عملية تهريب رأس المال من خلال تمويله لعمليات السوق السوداء للنقد الاجنبي ، ونلاحظ سريعا ، أن القطاع المصرفي مملوك للدولة بنسبة 60%!!) ( د.علي عبد القادر علي: حول سياسات التصحيح وهروب رأس المال ، الكويت فبراير 1988).
في ظل تلك التربة الفاسدة كما أشرنا سابقا، نشأت وتطورت الرأسمالية الطفيلية الإسلاموية ، وخاصة بعد دخول مجموعة د. الترابي في المصالحة الوطنية عام 1977 ، وشكلت فيما بعد الجبهة القومية الإسلامية، وشاركت في نظام مايو الديكتاتوري الفاسد.
الرأسمالية الطفيلية الإسلاموية
فترة حكم الانقاذ:
في هذه الفترة هيمنت الفئات الغنية من طفيلية الجبهة الإسلامية علي مفاتيح الاقتصاد الوطني ، وتجمعت لدى هذه الفئة ثروات ضخمة ، ومن المهم ونحن نحلل هذه الفئة أن نتناولها في تطورها التاريخي باعتبارها أحد روافد الرأسمالية السودانية التي نشأت وتطورت خلال سنوات نظام مايو ، ويشير حيدر طه في كتابه: الإخوان والعسكر (القاهرة 1993)، ص 55 ، الي: (أن الإخوان المسلمين يملكون حوالي 500 شركة، من كبيرة وصغيرة، في عام 1980 ، وتصل حجم روؤس أموالهم لأكثر من 500 مليون دولار متداولة بين هذه الشركات في الداخل).
وترجع اصول اغلب قادة هذه الفئة أو اصحاب الثروات منها الي خريجي الجامعات والمدارس الثانوية ، والذين اسسوا تنظيم الإخوان المسلمين في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي في جامعة الخرطوم والمدارس الثانوية وبقية المعاهد التعليمية ، وبعد التخرج عملوا في جهاز الدولة والخدمة المدنية . بعد انقلاب 25/مايو/1969 ، تم تشريد بعض افرادها ، وهاجر بعضهم الي دول الخليج وولجوا ميدان العمل الاستثماري في التجارة، وتجارة العملات ، كما كدسوا الاموال التي كانت تصلهم وهم في المعارضة في الخارج ، كما اشتركوا في محاولات انقلابية مثل محاولة: انقلاب سبتمبر 1975، وأحداث 2/يوليو/1976 ، كما هاجر بعضهم الي امريكا ودول الغرب الرأسمالي وتأهل بعضهم علميا في تلك البلدان (ماجستير، دكتوراة،.الخ)، وعمل بعضهم في النشاط التجاري في يوغندا وبعض بلدان شرق افريقيا ، واكتسبوا خبرات وتجارب في المهجر والعمل المعارض في الخارج.
وبعد المصالحة الوطنية 1977 عادوا للسودان وشاركوا في مؤسسات وحكومات نظام النميري (مجلس الوزراء ، الاتحاد الاشتراكي ، مجلس الشعب..الخ)، وتوسعوا في ميدان العمل التجاري والاستثماري واسهموا في إدارة البنوك الاسلامية وشركات التأمين الإسلامية ومؤسسات الاستثمار الإسلامية ، كما تغير اسم التنظيم تبعا لتطور الحياة السياسية ، واتخذ اسم الإخوان المسلمين في الخمسينيات من القرن الماضي ، وجبهة الميثاق الاسلامي بعد ثورة اكتوبر 1964 ، والجبهة القومية الاسلامية منذ اواخر النظام المايوي ، ثم المؤتمر الوطني الذي انشطر في عام 1999 الي وطني وشعبي.
لقد كانت مؤسسات وبنوك وشركات التنظيم هي التي مولت كل نشاطاته وصرفه الكبير خلال فترة الديمقراطية الثالثة (الانتخابات، شراء الاصوات ، والتزوير.الخ)، وكانت تلك المؤسسات وراء تخزين قوت الناس في مجاعة : (1983/1984) ، كما تغلغلوا وسط الجيش باسم دعم القوات المسلحة ومحاربة الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرنق والطابور الخامس، خلال فترة الديمقراطية الثالثة حتى نفذوا انقلاب يونيو 1989 بالتحالف مع مليشيات الجبهة الإسلامية بعد تكوين الحكومة الموسعة والاقتراب من الحل السلمي لمشكلة الجنوب بعد اتفاق الميرغني – قرنق عام 1989.
وبعد انقلاب يونيو 1989 ، تضاعفت ثروات هذه الفئة ، ويمكن تلخيص أهم مصادر التراكم الرأسمالي لهذه الفئة في الآتي:
أ‌- نهب اصول القطاع العام عن طريق البيع أو الايجار أو المنح باسعار بخسة لاغنياء الجبهة أو لمنظماتها أو الاقمار التابعة لها ، والتي كونت اكثر من 600 شركة تجارية تابعة لها ولمؤسساتها، وتكوين شركات تابعة للجيش والأمن ، من أصول القطاع العام عملت في التجارة والتصدير..
ب‌- اصدار قانون النظام المصرفي في العام 1991 م والذي مكن لتجار الجبهة ولمؤسساتها من الهيمنة علي قمم الاقتصاد الوطني وامتصاص الفائض مما ادي الي فقدان الثقة في النظام المصرفي ، اضافة لاجراءات تبديل العملة وتحميل المودعين التكلفة بخصم 2% من ارصدتهم وحجز 20% من كل رصيد يزيد عن 100 ألف جنية امتدت اكثر من عام وانتهاك قانون واعراف سرية النظام المصرفي وكشف القدرات المالية لكبار رجال الاعمال امام تجار الجبهة الاسلامية ( دورة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني، أغسطس 2001).
ت‌- التسهيلات والرخص التجارية من وزارة التجارة والبنوك التجارية والاعفاء من الضرائب .
ث‌- الاستيلاء علي شركات التوزيع الاساسية وتمليكها لتجار وشركات الجبهة الاسلامية.
ج‌- المضاربة في العقارات والاراضي والاستثمار في مشاريع الزراعة الآلية والثروة الحيوانية واستيلاء شركات ومؤسسات الجبهة الاسلامية علي مؤسسات تسويق الماشية.
ح‌- من مصادر التراكم الرأسمالي لهذه الفئة ايضا عائدات البترول والذهب، وتهريب السلع ( دقيق ، بترول، سكر، ذهب، الخ ) لدول الجوار، وتجارة الحرب والعملة والمخدرات وتجارة البشر ، وتصدير المرتزقة لحربي اليمن وليبيا..
خ‌- من الامثلة للنهب : طريق الانقاذ الغربي الذي وصل قمة النهب . وافقار المزارعين عن طريق نظام السلم والضرائب والجبايات التي لم يعرفها الشعب السوداني الا في العهد التركي.
د‌- من مصادر التراكم والدعم لهذه الفئة رأس المال الاسلامي العالمي الذي دخل البلاد في التسعينيات من القرن الماضي والذي قدرته بعض المصادر ب 6 مليار دولار واسهم في دعم النظام ومؤسساته الاقتصادية والمالية.
ذ‌- وتضيف د.فاطمة بابكر: (الخدمات الصحية والتعلمية التي اصبحت احد مصادر التراكم الرأسمالي في السودان بعد نظام الانقاذ 1989) (د.فاطمة بابكر: الرأسمالية السودانية: أطليعة للتنمية؟ ، الطبعة العربية 2006، ص 23).
هذا اضافة لميزانية الأمن والدفاع التي شكلت 76 % ، والصرف الضخم علي القطاع السيادي والحكومي ، علي حساب ميزانيات التعليم والصحة والتنمية وبقية الخدمات، والضرائب الباهظة علي الشعب بدلا من زيادتها علي البنوك وشركات الاتصالات ومواجهة الفساد واسترداد أموال الشعب المنهوبة.
الشاهد أن هذه المصادر جاءت نتيجة للنهب الاقتصادي والقمع السياسي ، وعاشت تلك الفئة في ترف وبددت الفائض الاقتصادي في صرف بذخي أو تحويله للخارج.
ومن الجانب الآخر تدهورت المشاريع الإنتاجية الزراعية والصناعية والخدمية ، وأوضاع الفئات الشعبية نتيجة للفقر والبؤس والضنك، حتي بلغت ديون السودان 60 مليار دولار، وانتشرت الرشوة والفساد في المجتمع وغير ذلك من التحلل الخلقي الذي فرضه نظام الإسلامويين الاقتصادي والاجتماعي.
صفوة القول، المهم لنجاح ثورة ديسمبر والفترة الانتقالية ، تصفية التمكين الاقتصادي الإسلاموي ، باستعادة أصول وأراضي القطاع العام المنهوبة، وشركات الاتصالات والجيش والأمن وعناصر النظام الفاسد للمالية، واصلاح النظام المصرفي وتحريره من التمكين، ومحاكمة الفاسدين واسترداد الأموال المنهوبة منهم، ومراجعة وضع الجامعات والمستشفيات الخاصة، بحيث لا تصبح خدمات التعليم والصحة سلعة للربح والقادرين فقط،، ووقف الحرب ، وتقليل الصرف علي الأمن والدفاع والقطاع السييادي وجهاز الدولة، وزيادة ميزانيات التعليم والصحة والتنمية، والسيطرة علي السوق وتركيز الأسعار، ووقف تجارة العملة وتقوية سيطرة بنك السودان وتنظيمه للنقد الأجنبي وتبعيه لمجلس الوزراء، ووضع الدولة يدها علي عائدات الذهب والبترول.


alsirbabo@yahoo.co.uk

 

آراء