نجم الدين ومرضى الكلى … بقلم: د. أسامة عثمان، نيويورك

 


 

 

Ussama.osman@yahoo.com

نعى إلينا الناعي بعيد العيد الأخ الأستاذ نجم الدين محمد نصر الدين المحامي ودون انتظار أو تنسيق أقيم أكثر من مجلس عزاء في أكثر من مدينة وعاصمة داخل البلاد وخارجها وتناقل الأهل والأحباء والمعارف النبأ المفجع، فنجم كان واحدا من هؤلاء الناس الذين قلّ ما تجد مجلسا للسودانيين يتناولون شأنا من شؤون الحياة العامة إلا وتجد بينهم من يعرف نجم الدين فلقد كان له مقدرة مدهشة في اكتساب الأصدقاء فما أن يحل بمدينة من مدن المهجر سوءا أكان ذلك في باريس أو أديس أبابا أو الدوحة أو واشنطن أو نيويورك أو أيوا سيتي أو في الحصاحيصا أو أربجي إلا وينتشر خبر وصوله ويسعى جميع معارفه لمقابلته ويصحبون من لا يعرف فيخرج بعد لقائه الأول به وكأنه صديقه منذ زمن بعيد. ولقد ساعد في ذلك خفة روحه وأريحيته وتعدد اهتماماته وتنوعها مما أكسبه معارف وأصدقاء في مجالات القانون ومهنة القضاء الواقف منه والجالس ولا شك أن هنالك من هو أفضل مني ممن يمكن أن يحدثكم عن نجم الدين ونبوغه في مجال القانون وبراعة أدائه في مهنته واهتمامه بها وانشغاله بهمومها وإسهاماته في التوعية القانونية والتنوير لعامة الناس. كما أن اهتماماته، كما يعرف الكثيرون، لم تتوقف عن حدود المهنة، وإنما شملت موضوعات ومهن أخرى كان من بينها مهنة الأدب بمختلف أشكاله وضروبه من اهتمام بالمسرح حضورا ومشاركة تمثيلا وكتابة منذ عهد الشباب الباكر في المدرسة الثانوية مرورا بالمسرح الجامعي وجمعية الدراما في جامعة الخرطوم وانتهاء بمحاولات في كتابة القصة القصيرة والنقد الأدبي وبداية مشروع رواية مستمدة من محنة المرض لم تكتمل حتى حان وقت الرحيل. وليس ذلك غريبا من قارئ نهم لأجود الروايات العربية والعالمية ولمتذوق مرهف الحس للشعر قديمه وحديثه وفصيحه والعامي منه بفضل ذاكرة حديدية في الحفظ للألفاظ المستحسنة والمعاني الحسان. كان يلتهم الروايات والشعر التهاما. كنت أرسل له بعض الكتب بريدا وأحسب أنها ستكفيه لحين من الدهر ولكنه سرعان ما يتصل يسأل هل من مزيد. كانت تأتيه الكتب من كل مكان من دائرة الأصدقاء ومحبي الأدب والشعر التي له فيها ممثل في كل واد. اتصل بي ذات مساء ليحدثني بولهِ عن رواية علاء الأسواني "شيكاغو" التي كانت قد وصلته في أيوا سيتي قبل أن تتوفر منها نسخة واحدة في نيويورك أو واشنطن. إن رهافة الحس عند نجم الدين لم تقف عند الشعر المقروء فقط وإنما تجلت في استحسانه للجيد من الغناء والإيقاع والطرب. وليس من شيء أمتع من مشاهدة نجم الدين يهتز طربا ووجدا عند مقطع أغنية مبهر أو إيقاع موزون أو دوزنة عود وليس مهما إن كان ذلك عند سماع مقطع من أغنية لسميرة دنيا أو تأوهات نانسي عجاج أو عند الاستماع في تبتل للشيخ البرعي أو للمنشدة محاسن محمد خير أو عند سماع إبداع رافي شانكار على السنتور أو الخشوع في حضرة جان ميشيل جار كما شاهدته ذات مساء في ساحة الباستيل في احتفالات المئوية الثانية للثورة الفرنسية عام 1989. لم يكن نجم قارئا للأدب والشعر ومتذوقا للموسيقى وغير ذلك مما يسمو بالروح والوجدان فحسب ولكنه كان أيضا قارئا شرها في غير الأدب، يتسقط أخبار الوطن الجريح الذي تطاول ليله فيلتهم جميع ما تأتي به صحف الوطن عسى أن يجد بين ما تفيض به منكدات خبرا يسعده ولو ليوم واحد. وكثيرا ما تصيبه الأخبار غير السارة القادمة من الوطن بحالات حزن عميق لا يستسلم له ولكن يحاول دفعه بالإمساك بالقلم والكتابة والنشر في الصحف السيارة ما استطاع لذلك سبيلا، والاستطاعة لا تحول دونها الإرادة ولكن ما هو خارج عنها فيخزله المرض أحيانا والرقيب أحيانا أخر. لقد كان نجم مرتبطا بهذا البلد ارتباطا شعوريا غير عادي وكان لسان حاله يقول مع الشاعر

" ما شين ودشن.. وهزارو خشن.. بسموم وسوافي.. وحر سيافي.. وكلمة مافي.. تسأل شن الحبب فيهو.. مالحب في ذاتو مبرر كافي".

إن أفضل شهادة لارتباط نجم بالسودان وقيم أهل السودان، إن كان الأمر يحتاج لشهادة، هو ما قاله ابنه محمد نجم الدين في كلمته لمجلس العزاء في الجمعية السودانية في أيوا سيتي عندما خاطب المعزين قائلا "إني متأكد أن والدي كان سيسعد إن كنت قادرا على إلقاء كلمتي هذه بالعربية، ولكن بكل أسف أجد أني استطيع التعبير بالانكليزية أفضل من العربية، لقد كاد والدي يحدثني كثيرا عن السودان وأخلاق أهل السودان وتميزهم وحقيقة لم أكن اعتقد كثيرا فيما يقول ولكن تبين لي أنه كان على حق، حيث أن جميع السودانيين في المدينة حاضرون هنا والجميع مهتم بي وبأختي عزة كأننا أبناءكم جميعا. وربما يكون قراء هذه الصحيفة وغيرها يذكرون للراحل مقالات جياد بأسلوب سلس متميز أقرب للأدب من لغة المقالات المألوفة تتناول مختلف موضوعات الشأن العام السياسي والاجتماعي والثقافي منه. ولقد كتب الأستاذ حيدر المكاشفي، من هيئة تحرير "الصحافة" كلمة ضافية في إسهام الراحل بالكتابة في الصحيفة كما كتبت عنه أيضا الأستاذة إخلاص نمر من كتاب هذه الصحيفة. ولقد كان الراحل ينتوي جمع مقالاته وإصدارها في كتاب وقد شرع في ذلك حيث أنه قد شرفني بمراجعة بعض المخطوط منها وتحريره وقد وعد الدكتور عبد الله على إبراهيم بكتابة تقديم للكتاب بناء على طلب الكاتب. ونأمل أن تعيننا الصحف التي كان يكتب فيها بالمقالات التي لم تنشر أو نشرت ولم نحصل عليها لنضمها لمسودة الكتاب الذي نأمل أن يرى النور قريبا بجهد أصدقاء وأحباء نجم الدين تخليدا لذكراه العطرة.

ولا شك أن لدينا، ولدي غيرنا، الكثير مما يمكن أن يقال أو يكتب عن نجم في أي من الجوانب التي ذكرنا وفي غيرها ولكنا سنفرد ما تبقى من حيز في مقال كهذا لقضية أولاها النجم الذي هوى الكثير من جهده واهتمامه وكان له فيها آراء وأفكار نيرة ومشروعات أشركني في بعض منها وأرى لزاما علي إثباتها عسى أن يقوم نفر من معارف وأصدقاء نجم الدين بالسعي لإنجازها وفاء للراحل العظيم. كان لنجم الدين اهتمام كبير بمسألة مرض الكلي وضحاياه وتصميم وعزم كبيرين لأن يفعل أقصى ما يمكن إن كان في العمر بقية لمحاربة مسببات هذا الداء وتخفيف ضرره إن وقع، ولا غرو، فليس من رأى كمن سمع.ولا ينبئك مثل خبير. كان يأمل أن يكون للمرضى وآلهم وأصدقائهم والعاملين في مجال الغسيل والجراحة وإنتاج الأدوية والمعدات المتعلقة بالغسيل وكل ما يمت للأمر بصلة كيان جامع يضمهم ويهتم بشؤونهم ويدافع عنهم ويخدم مصالحهم تماما كالمجموعات المنظمة التي تقوم في الدول المتقدمة وكان يأمل أن يكون هذا الكيان أوسع من مجرد جمعية واحدة تكافح من أجل البقاء في ظل معيقات ومثبطات جمة. كنا كثيرا ما نتشاجن في هذا الأمر وهو مسلم ذراعه ممدا للغسيل لاستبدال "الدماء الزكية" كما كان يقول ساخرا من نفسه ومن المرض في شجاعة أدهشت الجميع وأفجعت الجميع عندما بلغنا نبأ أننا لن نتحدث إليه ونسمع مثل تلك القفشات مرة أخرى. كان يقول لنا "نرجو الاتصال في ساعات الغسيل الرسمية" وكنا نسعى لذلك ما استطعنا تخفيفا لوحشة الساعات الأربع التي تتكرر ثلاث مرات في الأسبوع. كان يجمع البيانات عن نوع المحاليل التي تستخدم وكيفية تصنيعها وتكلفتها كما يستفسر عن نوع الماكينات التي تستخدم في عملية الغسيل والمرشحات التي تستخدم وتكلفتها ويتبع ذلك بالبحث في المقالات وأدبيات عملية تنقية الدم ونقل الكلي ما استطاع لذلك سبيلا. كان يهدف من جمع تلك المعلومات إلى تنفيذ حلم كان يشغل تفكيره وهو أن يكون في كل وحدة طبية كبرت أو صغرت وحدة لغسيل الكلي وذلك في جميع أرجاء السودان. وكان يستفسر عن مصير الماكنات التي تستبدل سريعا في المركز الذي يقيم به وعن إمكانية استخدامها في مكان آخر ونقلها وترحيلها إلى السودان. كأن يأمل أن يستعين بعدد من الأطباء السودانيين في أمريكا للمساعدة في هذا الأمر. كما كان مشغولا ومتابعا لقضية المحاليل التي يحتاجها المرضى لعملية الغسيل والأدوية التي ترافق نقل الكلى وإمكانية تصنيعها في السودان للخروج من دوامة الدواء الهندي والسويسري والقيل والقال حول هذا الأمر وغير ذلك من قضايا تمثل هاجسا لمن يعانون من هذا المرض ولذويهم وللعاملين في هذا المجال. وكان معنيا أيضا بكيفية تبسيط النشرات والكتيبات الخاصة بمرض الكلي وعملية الغسيل وترجمتها إلى العربية لزيادة وعي المرضى وذويهم في السودان ولقد ساهم وفق طاقته بكتابة مقالات مبسطة نشرها في الصحف اليومية وكان يأمل أن تكون هنالك مطبوعة دورية لأمراض الكلى يتبادل فيها المرضى و المهنيون الأفكار والمعلومات. ويأمل في إقامة صلات بين المرضى والمعالجين في السودان وفي أمريكا وغيرها بغية تبادل التجارب والتثاقف حيث كان مصدر معرفة للكثيرين منهم عن أفريقيا والعرب والإسلام والعالم الآخر البعيد عن عالمهم كما كان يتناقش معهم في الراهن من أخبار الحملة الانتخابية والاستعداد لها ويحدثهم عن بلاده تلك البعيدة غير المعروفة ويعجب عندما يسأل إحدى الممرضات إن كانت قد سمعت بالسودان فتجيبه نعم أعتقد أنه في دارفور!. ولقد لفت نظره الاهتمام الكبير بالجوانب القانونية والمسؤوليات التي تقع على مختلف الأطراف في عملية التطبيب والتداوي. فعلى المريض بعض المسؤولية وعلى ذويه مسؤوليات أخرى وعلى كل العاملين مسؤوليات قانونية كل حسب موقعه ويحرص الجميع على أداء واجبهم بدقة متناهية لأنه واجب من ناحية وخشية الملاحقة القانونية من ناحية أخرى. وكم كان نجم الدين يتألم عندما تأتيه الصحف بأنباء عن حدوث الوفيات لسيدات في الولادة أو لوفاة صحفي مشهور في ظروف أقل ما يقال فيها أن فيها شبهة إهمال وصلت حتى مسامع رئيس الجمهورية! وغير ذلك كثير من وفيات بسبب الإهمال لا يأتي ذكرها في الصحف. كان يأمل أن يسهم بفكره القانوني ومن خلال مهنته كمحام لإقامة إطار قانوني استنادا على تفعيل القائم من القوانين واستكمال النواقص بحيث يحيط الإطار بمسؤولية كل طرف من الأطراف دون تجن على أحد أو ظلم لمواطن يبتر أحد أطرافه أو يفقد حياته من جراء خطأ طبي أو تمريضي أو بسبب دواء انتهت صلاحيته فيأخذه ذووه إلى مثواه الأخير وينتهي الأمر بانتهاء مراسم العزاء! إن جميع هذه الأفكار كانت مما أمعن فيه الراحل النظر وله فيه آراء ولكن كل هذه القضايا ليست وقفا عليه ويشترك معه آخرون في ضرورة الاهتمام بها وربما كان أفضل ما يقدم وفاء له من أصدقائه ومعارفه الكثيرين هو السعي لتجد هذه الأفكار حيزا للتنفيذ يكون أجر بعض ما فيها من نفع للناس صدقة جارية لروحه. رحم الله نجم الدين رحمة واسعة وجعل من محمدا وعزة خير خلف له.

أسامة عثمان، نيويورك

نقلا عن "الصحافة" الصادرة في يوم الأربعاء 9 ديسمبر 2009

 

نجم الدين ضيفا على روزنامة كمال الجزولي

كان المرحوم نجم الدين ضيفا على روزنامة الأستاذ كمال الجز ولي الأسبوعية في " أجراس الحرية" الصادرة في 24 نوفمبر 2008 عند عودته للسودان فكتب الكلمات الجياد أدناه في أمر مرضى الكلى. ونعيد نشرها هنا لصلتها بموضوعنا كما رأينا إثبات المقدمة التي كتبها قلم الأستاذ كمال الرشيق في رثاء نجم الدين عندما أعاد نشر الروزنامة في جريدة "الأخبار" ليوم 7 ديسمبر 2009.

نجم الدين محمد نصر الدين 1957-- 2009

في الثامنة من صباح الأربعاء 2/12/2009 فاضت روحه الطاهرة إلى بارئها، بمستشفى القصر العيني بالقاهرة، بعد رحلة طويلة شاقة مع آلام الفشل الكلوي، فواريناه الثرى، صباح اليوم التالي، مع أسلافه الصُّلاح بمدافن أربجي العتيقة. اللهمَّ إنا لا نزكي حبيبنا نجم الدين عندك، وهو عبدك الذي ما هان إلا عليك، لكنا، نحن الرافلين في سُنَّة الصَّلصال الأزلي، وجبلة الحمأ المسنون، لا نملك، كلما رفت ذكراه الطيِّبة، إلا أن نذرف الدَّمع السَّخين حزناً على نفسه السَّمحة، وفؤاده الزكيِّ، وظله الخفيف، وعُشرته الحلوة، وسيرته العطرة، وسريرته النَّقيَّة، وعلمه النافع، وكدحه الصالح، ومنظره اليشرح، ومخبره اليبهج، ومحضره اليؤنس، ولقياه التروق؛ فوسِّع، يا ربُّ، في مثابه، ومهِّد لنزله في مراقد المقرَّبين إليك، المرضي عنهم لديك، مع الصّدّيقين والشُّهداء وحسن أولئك رفيقا، واشمله، اللهمَّ، بغفرانك وعفوك ورحمتك، يا واسع المغفرة والعفو والرحمة، واجعل البركة في ذريَّته وأهله، وألهمنا، نحن أصدقاءه وعارفي فضله، جميل الصبر والسُّلوان، ولا قوَّة إلا بالله، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

كمال الجز ولي

ما كتب نجم الدين في الروزنامة

الخميس:

"ظل مبلغ همي، منذ عودتي إلى الوطن، أن أعثر، بأعجل ما يمكن، على مركز لغسيل الكلى في موقع قريب لسكني، حيث عليَّ أن أخضع لجلسات الغسيل ثلاثة أيام في الأسبوع، وليس ثمة عذر لتأجيل أي منها، مهما كان، وقى الله السامعين شرور هذا الداء اللعين! انطلقنا ننقب عبثاً هنا وهناك وبين ذلك قواما، فلكأننا نحفر في الصخر بالأظافر، رغم أن ما نطالع من بيانات وزارة الصحَّة وإحصاءاتها تترك لدى المرء انطباعاً لا يتطرق إليه الشك بأنه لا بد واجد في كل زاوية مركزاً للغسيل! فمرض الفشل الكلوي في انتشار مروع، وقد غادرت البلاد لأكتشف إصابتي به بعد تشخيص حالتي في موطن إقامتي الجديد. وهكذا أصبحت أهتم بأخباره في السودان، وأتابعها، فالصبُّ للصبّ نعم المؤاسي!

صحيح أن بالخرطوم الآن أربعة وعشرين مركزاً للغسيل الدموي، وفيها جيش من العاملين الذين تلقوا تدريبا جيداً وخبرة وافرة. لكن الكثير منها يتبع للقطاع الخاص الذي يهدف إلى الربح بالأساس، ولهذا يتركز في المناطق الراقية؛ بينما يتوزع الحكومي منها على المستشفيات العامة التي تقع في الوسط أيضاً؛ بينما هذه العلة لا تميز طبقة عن طبقة، ولا عرقاً عن عرق، ولا تستثنى نوعاً واحداً، ولا فئة عمرية معينة، ولا مهنة دون غيرها. الأطفال الأيفاع ممن يتعين أن يكونوا مع أترابهم في الرياض والحضانات، تجدهم يكتوون بجمر الغسيل؛ والذين في شرخ الشباب ممن يتعين أن يكونوا في قاعات الجامعات، أو معامل الأبحاث، أو منتديات الآداب أو الفنون، أو في دور الرياضة وأنديتها يتجادلون في أمر جمال الوالي، وحكيم الهلال، ووارغو النيجيري، يمكنك أيضاً أن تصادفهم في ورديات الغسيل؛ والشابات والقواعد من النساء، بدلاً من أن يكن منهمكات في أعمالهن المكتبية أو الميدانية، أو يستمعن إلى برامج الأسرة في مطابخهن، تستطيع أيضاً أن تراهن في مقاعد الغسيل؛ ولا يستثني هذا الداء المبدعين، فقد فعلها بالراحلين جيلي عبد الرحمن ومصطفى سيد احمد وعبد الله محمد خير. ولقد قاومه وتعافى منه، لحسن الطالع، عدد ممن انتاشتهم سهامه، كمحمد وردى وسيد احمد الحردلو؛ لكن ها هو ينتقي، مؤخراً، حجتنا أمام العالم .. الطيب صالح الذي لا يزال يصارعه، وإن كان ذلك على حساب وقته وطاقته وكل ما تنتظره الأجيال منه. وبمثل ما ينتقي هذا المرض اللعين، فإنه، في كثير الأحيان، يحتطب احتطاباً ليلياً أيضاً، ليصيب حتى العاطلين من الإبداع أمثالنا!

 

المطلوب الآن أن تقرع نواقيس الخطر بشدة، كي يبدأ إيقاف التدهور، أو الـzero growth  كما يقولون. يجب أن نتعامل، بجدية أكثر، مع التفاقم المحير للمرض كظاهرة ندرسها بعناية، نسبر أغوارها، نكشف عن أسبابها، ونقيم، لأجل ذلك، الندوات، وورش العمل، والمؤتمرات، ونشجع وندعم المؤسسات البحثية. وعلى مستوى العلاج نسارع إلى سداد مستحقات هذه المراكز، وفقا لجدولة تحترم وتنفذ بدقة، حتى لا يعود يخيم علينا شبح إضراب جديد كما حدث بالأمس القريب، حين أضحى واقعاً ماثلاً ما كنا نظنه شبحاً مرعباً في الكوابيس وحدها. فقد تم تنفيذ الإضراب بنسبة كبيرة للأسف الشديد، وترك المرضى يدبرون أمورهم بأنفسهم! وتذكرت ما درجوا على تقديمه لنا من نشرات وإرشادات كي نعد العدة في حالة انقطاع الغسيل لأي سبب طارئ، لكن ليس من بين ذلك إضراب العاملين بطبيعة الحال! اتصلنا هاتفيا بالمركز فأبلغونا بأن علينا الذهاب إلى مستشفى الشرطة. هرولنا إلى هناك، فأبلغونا بأنه لا مكان لغير المسجلين في جدولهم! هكذا ابتلينا بالمرج، وتعرضنا لكل خطر يمكن تصوره، حتى تداركتنا عناية الله برفع الإضراب!

ينبغي أيضاً زيادة عدد الغسلات إلى ثلاث، فالاثنتان الحاليتان أقل من المطلوب، والدواء منقوص وغال، ومع ذلك يضطر المرضى الفقراء لشرائه أملاً في أن يكتمل أثر الغسيل المنقوص والغالي! ضف إلى ذلك غياب الفحص المعملي، وحتى إن وجد فهو، بدوره، يثقل كاهل هؤلاء المرضى بأعباء مالية لا قبل لهم بها.

والغسيل، بعد كل هذا، مجرد علاج وقتي لا يقطع شأفة cure هذا الداء. فآخر الدواء نقل كلية من شخص سليم تتطابق أنسجته ودمه مع أنسجة ودم المريض. ولقد أسعدني ما رأيت، في هذا الصدد، بمستشفى احمد قاسم ببحري، من مضاء عزم هذا البرنامج وحسن اضطراده، رغم عدم مواتاة الظروف العامة. رأيت إقدام الأسر وتدافعها للتبرع لمصابيها . شيئاً فوق التصور! الأمريكيون يحتفلون أيما احتفال بكل حالة يتفضل فيها شخص بالتبرع لآخر، ويعدون ذلك مأثرة وبطولة تستحق الذكر والتمجيد الدائمين؛ بينما يشكل هذا لدينا سلوكاً فطرياً ليتنا نوليه اهتمامنا، وعنايتنا، وتثميننا العالي، وتشجيعنا التربوي، عن طريق إصدار الفتاوى الدينية التي تحض الناس على فضيلته، وتبين نبله، وعمق إنسانيته، وكذلك التثقيف العلمي الذي يوضح، بجلاء لا لبس فيه ولا أدنى غموض، انعدام أي ضرر يترتب عليه، ويثبت، بتقديم النماذج الحية، أن حياة المتبرع سوف تمضي عادية جداً بعد تبرعه، بل ومكتسية بسعادة غامرة، كونه، بتبرعه هذا، إنما يصنع حياتين  Tow Lives ، كما وصف ذلك مريض الفشل الكلوي الأشهر في السودان طيب الذكر المرحوم د. عمر بليل في كتابه الذي جعل هذه العبارة الموحية عنواناً له. ويمكننا أن نفعل ذلك كله عبر برامج الإرشاد الديني، والمناهج التعليمية والتربوية، وأجهزة الإعلام والصحافة؛ فالبذرة، مهما بلغت من الصحة والخير، تذبل إن لم نتعهدها بالسقيا!"

 

آراء