نحن قومٌ قد خُلقنا للقتالِ…!!

 


 

 

على نسق أغنية الرائع دوماً الراحل زيدان إبراهيم زعيم حزب البهجة والمسرة، ربنا يرحمه ويغفر له ويجعل الفردوس الأعلى مسكنه، بهذه المناسبة فإنّ القامة زيدان ينحدر أصلاً من منبت الأشاوس الذين يقدمون الدروس والعبر للذين ينشدون الاعتبار من محاضرات وحصص التاريخ في مثل هذه الأيام الصعاب، التي أدخلت كابينة قيادة الجيش كاملةً تحت التراب هرباً من فتك سيف قوات الدعم السريع، التي ولأول مرة في تاريخ الدويلة الصنيعة تقوم قوّة موازية للجيش بالقضاء على الجيش، وإغلاق ملف الإستهبال السياسي والعسكري للأبد، وقلب موازين السيطرة السلطوية في غضون شهرين دون مقاومة تذكر، مما أدهش المراقب المحلي والدولي لما آلت إليه الأوضاع عامة خلال هذه الأيام المعدودات، إذ أن الفزّاعة الاخوانية التي كانت تصيب المواطنين بالرعب قد تبخرت كفقاعة أو رغوة لم تمكث طويلاً، فسقطت الحاميات والمواقع العسكرية بطريقة دراماتيكية، وأصبحت القوات السريعة والجاهزة تحكم قبضتها على مداخل ومخارج المدن الثلاث المشكلة لرمزية عاصمة البلاد منذ صبيحة الفاتح من يناير من العام 1956، في سيناريو أكثر غرابة من أفلام الخيال العلمي، وبعد كل هذه الحقائق الواضحة لم تقف المنصات الإعلامية الزائفة عن المحاولات اليائسة في تغبيش الوعي، وعكس الصور الفوتوغرافية والفيديوهات الملفقة والمفبركة وغير الحقيقية لما يجري على الأرض، ما أدى لصدمة المواطن بعد اكتشافه لحقيقة كذب المختطفين لقيادة جيشه.
خالي صديق إسماعيل أخونا، خدم في سلك الجندية مثل غيره من أبناء البقارة منذ سبعينيات القرن الماضي، وحتى منتصف تسعينياته حينما أصبح معاشياً برتبة الرقيب أول، كان يمثل لنا رمزية الفارس المغوار الذي يخرج من بين مغامرات الحرب والموت والدمار سالماً لتحط طائرته الهيركليز بمطار نيالا، فيزور شقيقته الكبرى وهو يرتدي الكاكي ومستلزمات الحرب وما يزال غبار مدينة جوبا وعطرها المميز عالق بزيه العسكري الأنيق، وبعد لحظات الاستقبال والبكاء والشفقة بينه وبين شقيقته تهدأ الأحوال، وتتهيأ الأسرة الصغيرة للاحتفاء بمن أحياه الله بعد ممات، فيسرد لنا أهوال الحرب الظالمة التي كانوا وما يزالون هم وحدهم يمثلون وقودها المشتعل والمستعر، وبرغم صغر سنه في ذلك الزمان وتواضع تجربته الإنسانية، لكن كانت له نظرة ثاقبة وهو يقول ويقسم:(والله، ناس الخرطوم يأتيهم يوم يجروا بلا نعلي)، وبحسب بساطة تكويننا النفسي والذهني في ذلك الزمان وما تمثله لنا الخرطوم من فردوس مفقود وذكريات معتبرة لوالدنا العزيز موظف الخدمة المدنية، الذي كان يأتينا منها بالهدايا والصور الجميلة كلما ذهبت به الكورسات والمهمات الحكومية إليها، كنا نستغرب لماذا ينظر خالنا الحميم لهذه المدينة الفاضلة بهذه النظرة السوداوية، إلى أن نضجنا ووطأت أقدامنا ثراها ووعينا الاختلالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية لهذه المدينة الصنيعة التي أستخدمها محمد علي باشا لمهمة واحدة هي تجميع الرقيق وجمع الذهب.
حزام البقارة وشريط الأبّالة يعتبران من أهم روافد المؤسسة العسكرية السودانية بالجنود الأشداء والرجال الأقوياء الشجعان، وهذان الحزامان الشريطان يتميزان بجودة المورد البشري وخبرته في خوض غمار الوغى، وذلك للتركيبة النفسية والاجتماعية للفرد الراعي الذي ومنذ سن الخامسة يكون قد اعتلى ظهر الحصان وأمسك بالبندقية، فحينما كنا نسرد لأصدقائنا من أبناء مركز السودان هذه الخصيصة يضحكون ويقهقهون ساخرين، وعاقدين المقارنة بين الطفل الذي هو في سن الخامسة بحي الملازمين بأمدرمان، وبين صنوه الصبي الذي لا يقبل بأن يوصف بأنه طفل ممن نشأ بالصحراء والسافنا - ولعمري إنّها لقسمة ضيزى، إلى أن حانت ساعة البيان بالعمل كما يقول التعلمجية (المدربين) بالجيش الذين جلهم ينحدر من نفس الحزام والشريط، ثم علم الناس أننا قوم قد خلقنا للقتال، بحكم النشأة وضرورات البيئة وموجبات التحديات المحيطة، فهؤلاء الضحايا الذين قضوا تحت رحمة أشاوس الدعم السريع من قوات الفريقين مالك عقار وشمس الدين الكباشي لا علاقة تجمعهم بالبيئة التي أنجبت الأشاوس، وشتان ما بين من ترعرع تحت ظلال أشجار المانجو وبين جداول المياه المنهمرة من شلالات الجبال، وبين ذلك القادم من الصحراء الكبرى ملفوف الرأس بالعمامة السميكة القماش (الكدمول)، فالأهازيج وحدها لا تصنع الرجال، وحماسة أغنيات ندى القلعة وإنصاف مدني وهدى عربي لن تقوّم السيقان والأذرع الضعيفة البنية للذين تغذوا على ماء الفول لا ألبان الإبل ولحوم الأبقار.

إسماعيل عبدالله
ismeel1@hotmail.com
22 سبتمبر 2023

 

آراء