نحن والصاروخ الصيني: بين الاستهداف النفسي الخارجي و”النجيهة” الذاتية

 


 

 

تابع سكان المعمورة جميعهم بتوتر وقلق بالغين في بحر شهر مايو المنصرم ، نبأ الصاروخ الصيني الجامح ، الذي انفلت عن مساره في الفضاء ، وانطلق لا يلوي على شىء ، بينما ظل سائر عُمّار الأرض خائفين ومشفقين من أن يقع فوق أراضي بلدانهم ، أو احدى مدنها أو قراها فيهلك الحرث والنسل ، أو أن يرتطم بإحدى منشآتها المهمة أو معالمها النفيسة التي لا تُعوّض.
لقد كان ذلك الخبر المثير حقاً ، المادة التي شهدت رواجاً منقطع النظير ، وتداولاً بالغ الكثافة والتواتر بين سائر الأجهزة والوسائط الإعلامية المقروءة والمسموعة منها والمرئية ، وخصوصاً عبر منصات التواصل الاجتماعي الالكترونية الحديثة التي لم يهدأ لها بال ، أو يقر لها قرار ، حتى جرى الإعلان أخيراً عن خبر سقوط حطام ذلك الصاروخ الأنكد في بقعة غير مأهولة بالبشر في عُرض مياه المحيط الهندي جنوبي جزر المالديف ، وكفى الله المؤمنين القتال ، وأدرك شهرزاد الصباح فكفّت عن الكلام المُباح.
على أنّ خبر ذلك الصاروخ الصيني " العاير " كما نعبر في لهجتنا العامية ، قد كان له ارتباط خاص وشبه حصري ببلادنا نحن: السودان ، أو هكذا أراد له بعض الناس عمداً أن يكون له ذلك الارتباط الخاص ، حتى أنه قد شكّل بالفعل بُعبُعاً حقيقياً ، وهاجساً مرعباً للسودانيين خاصةً من دون أهل الأرض ، خصوصاً بعد أن نشر موقع إخباري غربي خبراً تلقّفته منه سائر وسائل الإعلام المحلية والعربية منها والعالمية ، وتداولته منصات التواصل الاجتماعي ، مفاده أنّ حُطام ذلك الصاروخ سوف يهوي فوق موضعٍ ما بشمال شرق افريقيا ، بل مضى ذلك الخبر المشؤوم لكي يكون أكثر تحديداً ، فذكر السودان المسكين هذا وحده بالاسم من دون دول العالم قاطبة. فانظر لهذه القحة والجرأة المفرطة ، وعدم الاعتبار والاستخفاف بهذا البلد ، وهوانه على الناس ، هواناً يجعل الدم يغلي في عروق كل من له مسكة من وطنية ، أو حدب صادق على السودان بكل ما يمثله لابنائه المخلصين والغيورين.
هذا ، ولم يقصّر السودانيون أنفسهم بدورهم في التجاوب المفرط ، والانفعال الزائد overreaction and overdoing كعادتهم بهذا الحدث المثير على كل حال ، فهم الذين طالما جعلوا " للحنابر قنابر " كما تقول عبارتهم التراثية ، فطرقوا يؤسسون على ذلك الخبر الطائش وغير المؤكد أو المؤسس علمياً ومعرفياً ، والذي ينمّ بكل تأكيد عن دافع مُريب على أقل تقدير ، والبعيد كل البعد عن التناول العلمي الجاد ، والحرص على استقاء المعلومات والبيانات الصحيحة والمؤكّدة من مصدرها الرسمي ، وهو في هذه الحالة: وكالة الفضاء الصينية ، ويتداولون أوهاماً لا أساس لها ، ويضعون تصورات وسيناريوهات خيالية وبعيدة عن الواقع تماما. وحتى عندما نهض نفر منهم في إحدى المناطق التي كانت مستهدفة افتراضا بسقوط ذلك الصاروخ فوق ترابها بحسب ذلك الخبر المُلفّق ، لكي يضعوا التدابير الكفيلة على الاقل بتخفيف وقع المأساة ، أو تقليل حجم الخسائر وعدد الضحايا ، وهو تحرك محمود يحسب لهم على كل حال ، على الاقل من باب احساسهم بالمسؤولية تجاه سكان ذلك الصقع من اصقاع السودان ، إلا أننا لاحظنا أن اولئك المسؤولين المناطقيين المعنيين قد نبحوا الشجرة الخطأ كما يعبّر الانجليز في مثل هذا السياق. ذلك بانهم عوضاً عن ان يستفتوا علماء الفلك وفيزياء الصواريخ وديناميكيا المقذوفات ومن إلى هؤلاء ، او يتصلوا بالسفارة الصينية بالخرطوم مثلا وهي ممثلة تلك الدولة التي أطلقت ذلك الصاروخ ، لكي يعرفوا منهم إن كان ذلك الصاروخ المنفلت سوف يقع فوق رؤوسهم حقيقةً أم لا ، فقد آثروا - فيما يبدو - أن " يجيئوا من الآخر " ، فاستعلموا مسؤولي وزارة الصحة الاتحادية مباشرة ، ولسان حالهم يقول: لقد قُضي الأمر ، وإنما الامر يا صاحبي هو أمر وفيات وإصابات وجراحات ، وكل ما هو آتٍ آت ، فلنتحزّم ولنتلزّم الخ !!.
أما الجهة التي أطلقت هذا الخبر ، خصوصا بحزئيته المتعلقة بالسودان تحديداً ، والذي بثّ الخوف والرعب في قلوب السودانيين خاصة لأنه سمّى بلادهم وحدها من دون دول العالم أجمع ، فلا ندري لماذا صنع ما صنع ، وما هي حقيقة دوافعه من وراء ذلك ، أهي محض استخفاف وكراهية و " كُجنة " ، أم أنه ضرب من التفكير الرغبوي الذي دافعه الغل والحقد لا سمح الله ؟. ولكن لعله يحق لنا نتساءل عن مسؤوليته الأخلاقية وخصوصاً القانونية ، بموجب أحكام القانون الدولي الذي يجب أن ينص منذ الآن فصاعداً ، على عقوبة رادعة جدا لجريمة نقترح تسميتها: جريمة إخافة الأمم أو Nation Scaring Crime
وأما أهلنا السودانيون ، فقد جعلوا من ذلك الحدث العابر موضوعاً للحديث والسمر والنقاش والتكهنات والتنظير والتحليلات ، بله الطرائف والنكات والتندر على أنفسهم وحظهم العاثر ، وهم الذين باتت تطحنهم قسوة الحياة ، وتتوالى عليهم المصاعب والأزمات المتمثلة خصوصاً في غلاء المعيشة والنقص المريع في الخدمات ، فصار حالهم بعد انتشار خبر الصاروخ المنطلق نحوهم حال من: " هو في البير ووقع فوقو الفيل !! " كما يقولون .. ورب ساخر سخرية سوداوية من بينهم يقول: " خليه يقع فينا ينتهي مننا من الحال العلينا ده !! ".
ولا شكّ في أن عامة السودانيين ، وخاصة المتعلمين منهم تعليماً ما ، قد انفعلوا انفعالا مفرطاً بهذا الخبر. فهذا الانفعال والتجاوب المفرط تجاه الاحداث الخارجية خاصة كما أشرنا من قبل ، هي خصيصة نفسية واجتماعية ملحوظة في السودانيين عموما ، هذا مع ان تراثهم الشعبي نفسه يسخر من هذا السلوك ويستهجنه ، كما يظهر في بعض مقولاتهم السائرة وامثالهم من قبيل " معبوبات الغرقت في ود راجلها !! " و " ناس البكا غفروا والجيران كفروا " الخ الخ.
فما من حدث يقع في أي صقع من أصقاع الدنيا ، إلا كان تتبع السودانيين له ، وانفعالهم به ، وتجاوبهم معه تجاوباً مبالغاً فيه.
ومن ذلك على سبيل المثال ، أن كثيرين منهم أسموا مواليدهم على عدد من الزعماء والمشاهير العرب وغيرهم عبر مختلف الحقب ، الصالح منهم والطالح ، ولو استقبل بعضهم من أمره ما استدبر لغير ذلك الاسم لما تبين له من سوء حال ذلك الذي سمّى ابنه تيمناً به. وأسموا أحياء عاصمتهم ومدنهم الأخرى استجابة لأصداء الأحداث العالمية مثل: " كوريا " ، و " أنقولا " ، و " قندهار " وهلم جرا. وأطلقوا على أنديتهم الرياضية أسماء مثل: بوشكاش والارسنال وبرشلونة الخ ، وعلى لاعبيهم ألقاباً مثل: قاقرين ، وزيكو ، واسكلاتشي وهكذا.
بيد أن انفعال السودانيين الزائد بخير الصاروخ الصيني المنفلت هذا ، قد بدا كما لو كان أشبه ب " النجيهة " الذاتية ، أي استمطار البلوى على النفس ، وتوقع الكارثة واستعذاب نزولها عليهم ، ربما لان في ذلك أخيراً شيئاً من الشهرة ونباهة الصيت التي يسعون اليها كسلوك تعويضي ، ولو كانت تلك الشهرة مرتبطة بوقوع كارثة ماحقة عليهم .. وما كان ينبغي عليهم أن يفعلوا ذلك ، لأنّ البلاء موكّل بالمنطق كما جاء في الأثر.

خالد محمد فرح
الخرطوم ٣ يونيو ٢٠٢١م

khaldoon90@hotmail.com

 

آراء