قراءة في رواية “مُناجاة النهر” لليلى أبو العلا 2/2

 


 

 

Khaldoon90@hotmail.com

استهلت الكاتبة روايتها برسم صورة قلمية بديعة، وعبر سرد تخييلي مشوق، لحادثة تاريخية مشهورة بين السودانيين، تعد من أوائل مآثر البطولة والفداء للثورة المهدية في بداياتها، ألا وهي مأثرة البطلة " رابحة الكنانية "، التي ظلت تعدو على قدميها لثلاثة أيام بلياليها، من مرابع قومها عرب كنانة الواقعة على سفح جبل الجرادة بجبال النوبة الشرقية، حتى وصلت الى معسكر الامام المهدي في جبل " قدير "، لكي تكشف له خطة جيش كبير ومدجج بالسلاح، يقوده مدير فشودة التركي " راشد بك أيمن " في خواتيم عام 1881م، بتوجيه من رؤوف باشا حكمدار السودان حينئذٍ، لكي يباغت المهدي وجيشه، ويقضي عليهم مرة واحدة والى الابد، قبل ان يشتد عود ثورته المندلعة لتوها آنئذ، ويستفحل أمرها، فتخرج عن السيطرة.
وهنا يتجلى ذكاء الكاتبة التي عمدت الى تشويق القارئ السوداني خاصةً وشد انتباهه، منذ الوهلة الأولى، عبر مغازلة مشاعره الوطنية، بأن أعادت اليه سرد حادثة تاريخية محددة، هو على علم بها بصفة عامة، ويلذ له أن تحكى له مجدداً من منظور تخيلي روائي هذه المرة.
انها بالفعل مأثرة بطولة سودانية خالدة كما أسلفنا، ولكن من شأنها أيضاً، أن تترك أثراً ايجابيا في سائر القراء بمختلف جنسياتهم، وتستثير خيالهم وتعاطفهم من قبيل الشأن الانساني المشترك، بحسبان انها عمل بطولي فريد على كل حال، قامت به فتاة بمفردها، وفي ظل ظروف امنية ومناخية وبيئية وجغرافية قاسية ومحفوفة بالمخاطر المهلكة للغاية، وغير مواتية مطلقا في ذلك الزمن البعيد. وبالتالي فان من المؤمّل ان ترتقي رابحة الكنانية بفعلها الوطني والبطولي الجسور ذاك في خيال أي قارئ عموماً، الى مصاف بطلات عالميات وطنيات شهيرات مثل جان دارك وماريان الفرنسيتين وغيرهما على سبيل المثال.
على أن مما استوقفنا باستغراب، في معرض تصوير الكاتبة لذكريات رابحة الكنانية في فترة ما قبل المهدية، هو قولها ان والد هذه الأخيرة قد قضى تحت وطأة عسف المحتلين الاتراك وجورهم، وقسوتهم المفرطة في تحصيل الضرائب الباهظة، وأنها تتذكر حالة القلق الشديد الذي انتابه عندما فشل محصوله من السكّر وهو قولها حرفياً في صفحة 3: The year his sugar crop failed.
فهل يا ترى توهمت الكاتبة ، وخلطت بين كنانة كردفان البدو رعاة البقر، وذويهم كنانة ما بين النيلين الابيض والازرق بوسط السودان، المزارعين ومربي الابقار الملبنة، والذين يقع احد أكبر وأشهر مشاريع السكر ومصانعه في اراضيهم " مصنع سكر كنانة " ؟ وهل كانت قبيلة كنانة الكردفانية تزرع قصب السكر اصلا في أرضها في ذلك التاريخ المتقدم ؟ ام ان لكلمة sugar كما وردت في هذا السياق ، معنى آخر غير الذي نعرفه لها ؟. أم ان الكتابة الروائية ، تتيح ايراد مثل هذه المفارقة التاريخية التي تعرف في الانجليزية بال Anachronism ؟
وفي ذات السياق لاحظنا ان الكاتبة قد ترخصت في التصرف في بعض المعلومات والوقائع التاريخية، فعدّلت فيها. مثل ما جاء في متن الرواية من ان استاذ المهدي هو الشيخ نور الدائم ، بينما كان هو في الحقيقة ابنه محمد شريف، وان سبب الخلاف بينه وبين تلميذه السابق محمد أحمد ، ان الاخير قد لامه على اقامة حفل غنائي راقص بمناسبة زواج أحد ابنائه، بينما المعلومة التاريخية المدونة في سائر المصادر تقول ان مناسبة ذلك الحفل، كان هو ختان أنجال الشيخ محمد شريف وليس زواج أحد أبنائه.
لقد قابلتنا هذه الجرأة في توظيف المعلومات والحقائق التاريخية الواقعية من قبل هذه الكاتبة من قبل في الواقع، بصورة صارخة في روايتها " حارة المغنى "، التي كانت بدورها معالجة روائية لسيرة عمها الشاعر الغنائي حسن عوض أبو العلا، وذلك عندما نحلت المطرب الذي كان أول من صدح بأشهر قصائده، وعلى رأسها اغنية " سفري السبب لي عنايا "، اسماً اعتباطياً هو " حمزة النقر "، بينما ان جميع السودانيين خاصةً، يعرفون انه الفنان العميد " احمد المصطفى ". وبصراحة، فإننا لم نهتد بعد ، الى قصد الكاتبة من تلك التعمية. هذا مع ملاحظة انها قد سمّت الفنان سيد خليفة مثلاً، باسمه الحقيقي في ذات الرواية.
هذا، ومن التوابل الروائية الخيالية التي أضافتها الكاتبة الى حادثة رابحة الكنانية التاريخية، ان رابحة كانت تعرف المهدي وكان يعرفها، وانه قد صنع لها ولابنتيها احجبة عندما مر بديارهم ذات مرة اثناء سياحته الاستكشافية في كردفان قبل اعلان مهديته. ومنها أيضاً ، ان رابحة الكنانية قد توفيت من اثر لدغة ثعبان تعرضت لها وهي تتخبط ليلاً في طريقها نحوه في قدير، وانها قد اسلمت الروح بعد ان انجزت مهمتها وابلغت رسالتها الى المهدي، الذي اشرف على جنازتها وصلى عليها هو بنفسه ومن ورائه جموع الانصار بالمعسكر.
وصفت الكاتبة رابحة الكنانية بانها قد كانت انصارية صميمة، راسخة الاعتقاد في الامام المهدي ودعوته، بينما كان زوجها مرتاباً وقليل الحماسة نوعاً ما. فهما بالضبط مثل والدة الشيخ بابكر بدري ووالده بازاء المهدية على التوالي، كما صورهما هو نفسه في مذكراته الصريحة والطريفة والممتعة. وبهذه المناسبة، فإن مذكرات بابكر بدري قد كانت احدى المصادر القرائية والمعرفية التي استندت إليها ليلى ابو العلا في تأليف هذه الرواية.
ويقابلنا أثر مذكرات بابكر بدري مرة أخرى في الرواية، في مشهد مصرع ابنة المقاتل الانصاري " موسى " بصفحة 193، بعد اصابتها بقذيفة او رصاصة سددها لها احد الجنود الاتراك بمعسكر للانصار على مقربة من شاطئ النيل الابيض، وهو المشهد الذي يشبه بشدة، حادثة مصرع احدى شقيقات بابكر بدري اثناء نفرتهم مع والدتهم في ركاب جيش عبد الرحمن النجومي المتوجه الى توشكى بمصر في عام 1889م.
ولما كانت هذه هي رواية تاريخية، فانه يغدو من الطبيعي ان ترجع مؤلفتها الى المصادر المعرفية ذات الصلة بتلك الحقبة التي صورتها ، والتي اثبتتها هي نفسها في ختام صفحاتها، شاملة مراجع ومؤلفات باقلام كتاب سودانيين واخرين غير سودانيين على حد سواء. فمن بين المراجع السودانية ذكرت المؤلفة على سبيل المثال كتباً مثل: من أبا الى تسلهاي لعبد المحمود ابو شامة، وتاريخ حياتي لبابكر بدري، وتاريخ السودان لنعوم شقير، ومذكرات يوسف ميخائيل، وتاريخ السودان الحديث للدكتور محمد سعيد القدال.
ورغم ان هنالك ما يحملنا على الاعتقاد والتخمين القوي بان اسماعيل ، الشيخ الازهري صديق ياسين بطل الرواية وزميله في الدراسة بالازهر بمصر، الذي انحاز الى المهدية وحاول مراراً اقناع صديقه يس بفعل ذلك ، هو غالباً اسماعيل عبد القادر الكردفاني الازهري، سبط الشيخ اسماعيل الولي 1793 - 1863م، الا اننا لاحظنا انها لم تذكر كتابه المهم " سعادة المستهدي بسيرة الامام المهدي " وهو من ابكر المصنفات التي الفت في سيرة الامام محمد المهدي، من ضمن المصادر التي رجعت اليها، فلعلها لم تحصل على نسخة منه لندرته.
ولا ندري ان كانت الكاتبة قد اطلعت على كتاب " الاصداء العالمية للثورة المهدية " ، وهو كتاب حديث الصدور نسبياً، من تاليف محمد المصطفى موسى، ذلك بان به بعض المعلومات النادرة التي استقاها من جملة من المصادر الاجنبية، التي كان من شانها ان تضفي على السرد بعداً اكثر عمقاً للمنظور الاجنبي والغربي تحديدا للثورة المهدية ، الذي لم تغفله المؤلفة بالرغم من ذلك. وبالمناسبة فان مؤلف هذا الكتاب، هو حفيد السيد حامد بن عبد الله ود فحل أحد شقيقي الامام المهدي اللذين استشهدا في محاولة الانصار الاولى لاقتحام مدينة الابيض.
ومن مظاهر واقعية هذه الرواية من خلال السياق التاريخي الذي عالجته، انها صورت بصدق، انقسام مواقف الناس وميولهم في السودان بازاء الثورة المهدية، حتى من بين افراد البيت الواحد، وذلك على غرار ما رأينا من انصارية فاطمة والدة يس، ولا مبالاة والده حيالها، ومعاداة يس نفسه لها، ومن قبل ذلك وقفنا على أنصارية رابحة الكنانية الصلبة ، في مقابل موقف زوجها المتراخي ، بينما نجد ما يماثل ذلك في الواقع فعلا على سبيل المثال، انحياز السيد المكي بن السيد اسماعيل الولي للمهدي ولخليفته من بعده ، حتى صار من اخلص مستشاريهما منذ بداية المهدية وحتى نهايتها، بينما ناصبها شقيقه السيد احمد الازهري العداء، مما ادى الى اعدامه جزاء له على ذلك الموقف.
ولما كانت الرواية من حيث هي، مضماراً لعرض الرؤى والافكار عموماً، وعلى نحوٍ شفيف وغير متعسف، وانما يجاء به هكذا عفواً ورفيقاً في تضاعيف السرد نفسه، وبصورة تكون ملائمة للسياق، وغير متكلفة او نابية عنه، فإننا قد وقفنا بالفعل على بعض الومضات المضيئة وذات الدلالات الخاصة في مجال الفكر السياسي والاجتماعي، وبعض الخواطر والتأملات الفلسفية العميقة في طبائع العمران البشري، التي نرى انها من بنات افكار الكاتبة نفسها، وانما صاغتها على السنة بعض شخوص الرواية. ومن ذلك ما ورد على لسان ياسين في صحة 136 في معرض انطباعه عن المهدي وأنصاره من وجهة نظره بالطبع:
" إن الاشخاص المتعصبين لا يستطيعون مطلقاً إخراج أفضل ما في نفوس الناس. انني اخمن انهم سوف يذهبون الى الحرب. سوف يجيشون الجيوش، وسوف يغزون وينهبون، لأن الاعتداء وحده هو الذي سوف يبقي على قضيتهم حية. إن مقاتلة عدو ما، هي دوماً أيسر من إدارة تعقيدات البشر. " أ. ه
هنالك ملامح حقيقية من الحياة السودانية التي كانت سائدة في زمن الرواية، والتي ما يزال بعضها مستمرا حتى الآن، عمدت الكاتبة إلى إيرادها بصورة واقعية ولطيفة، ولعلها من قبيل الحلية الانثربولوجية او الفولكلورية التي ربما تكون قد قدرت انها ستكون جاذبة ومثيرة لفضول القارئ الغربي او غير السوداني عموما. ومن ذلك على سبيل المثال: ولادة النساء لاولادهن داخل البيوت بمساعدة القابلات البلديات، وهن متشبثات بحبال مشدودة الى سقف الغرفة او الكوخ، وحول القابلة ثلة من النساء لمساعدتها، وكذلك للدعاء للأم بأن يحلها الله بالسلامة، ولا مكان لأي ذكر ولو كان طفلا صغيراً في ذلك التجمع، فإنه من الخصوصيات التي يليق بهم ان يشهدوها. ومن ذلك أيضاً، الغيرة والمنافسة و " المناقرات " بين الزوجة وحمواتها وكناتها، وتسلل النساء في هزيع من الليل الى غرف ازواجهن بعد نوم الصغار، وكذلك تخصيص الرجال بأطايب الطعام، وخصوصا صدور الدجاج واوراكها دون النساء، اللائي يكتفين هنّ واطفالهن المساكين، باكل ما يتبقى من الاجنحة والرؤوس والأعجاز والعظيمات الخ !
اما اللغة والاسلوب في رواية " مناجاة النهر "، فقد بلغت فيهما ليلى ابو العلا أوجاً رفيعا حقا، وقد اثبتت أنها قد امتلكت ناصية اللغة الانجليزية، حتى غدت سهلة القياد ومطواعة في قلمها، فضلاً عن اسلوبها الرشيق والسلس، والمحكم العبارة، والمبرأ من الاسهاب الممل والفضول.
هذا، وقد امتلأت صفحات نسختي من هذه الرواية في الواقع، بكلمات وعبارات عديدة وضعت تحتها خطوطا بقلم الرصاص، لانني لم اهتد لمعانيها المعجمية، وانما فهمتها فهما عاما هكذا بحسب السياق، بامل ان اعود اليها يوماً ما إن شاء الله، لمعرفة معانيها بدقة أكثر ، مستعينا بقاموس اوكسفورد.
وقد أتاحت إقامة ليلى ابو العلا الطويلة بمدينة أبردين باسكتلندا، الفرصة لها لاستعراض شئ من معرفتها باللهجة الاسكتلندية، فأثبتت ألفاظاً وعبارات منها، خاصة على لسان " روبرت " فني إصلاح البواخر النهرية والرسام الاسكتلندي، الذي استرق أكواني شراءً لبعض الوقت كخادمة له بمنزله بالخرطوم، ورسم لها عدة اسكتشات وبورتريهات، وهي مكرهة ومجبرة على ذلك.
لاحظنا ان الكاتبة قد راوحت عمدا في استخدام حالات الافعال و الضمائر ، ولم تجعلها كلها على منوال واحد مع كل لوحة او فصل من فصول الرواية، المخصص كل واحد منها لشخصية محددة من شخوصها. فهي تارة تستخدم ضمير الغائب المفرد، اذا ارادت صيغة الراوي العليم، واحيانا تستخدم ضمير المتكلم المفرد، او المخاطب المفرد وهكذا ، وذلك لعمري يضفي حيوية واريحية على السرد، ويتيح قدرا اوسع من الحرية لمعرفة النوازع والخصائص والميول النفسية والعاطفية لكل شخصية في كل موقف على حدة.
وختاماً ، هل تأثرت ليلى ابو العلا بكاتبنا الكبير الطيب صالح وتناصّت معه في بعض المواضع من هذه الرواية يا تُرى ؟ نعتقد اننا نلمس شيئا من ذلك بالفعل، ام ترى أننا نبعد النجعة في ذلك ، ونتمحل في تفسير ما قد يكون مجرد توارد للخواطر؟!. فقد اشرنا من قبل الى اشتراكهما في ثيمة النيل كموحي افكار ومنبع اسرار، ولكننا نلاحظ كذلك اوجه شبه قوية وملفتة للنظر، بين السيدة صالحة كريمة آل الضرير وزوجة ياسين من جهة ، وكل من عزة بنت الحاج ابراهيم في رواية " عرس الزين " و فاطمة بنت جبر الدار في رواية " مريود " من جهة أخرى، وذلك من حيث الاشتراك في صفات الجمال الحسي والمعنوي معاً، وحب العلم، والذكاء وقوة الشخصية ، ورجاحة العقل ، والتحلي بروح المسؤولية ، والتدين الفطري العميق.
ثم تأمل يا رعاك الله ، في هذا التشابه المذهل بين الاسلوبين اللذين ختم بهما كل من الطيب صالح في " عرس الزين " وليلى ابو العلا في هذه الرواية هاتين الروايتين على التوالي، وهما يصوران مشهدين من حفلي عرسي كل من " الزين " و " بول او اسحاق " شقيق أكواني او زمزم:
" صاح بأعلى صوته ويده مشهورة فوق رأس الراقصة: أبشروا بالخير .. أبشروا بالخير. وفار المكان، فكأنه قدرٌ تغلي. لقد نفث فيه الزين طاقةً جديدة. وكانت الدائرة تتسع وتضيق، تتسع وتضيق، والأصوات تغطس وتطفو، والطبول ترعد وتزمجر، والزين واقف في مكانه في قلب الدائرة، بقامته الطويلة وجسمه النحيل، فكأنه صاري المركب ".
ثم انظر الى ليلى ابو العلا وهي تصور العريس شهيد كرري:اسحق في حفل زفافه بذات اللمسات والحاسة الاسلوبية تقريبا:
His bride dancing, her hair freshly braided and skin glistening. All the ululations and drums. Oh, I wish you had seen him and shared his joy. He was certainly the grand bridegroom stamping in the circle of dancers, with the kohl rimming his eyes and fresh henna on his feet, raising his sword in the air, and jumping.

 

آراء