نحو قراءة جديدة لثورة ديسمبر المجيدة (7-ج، وهي الأخيرة)

 


 

 

لجان المقاومة: تجليات استكمال الاستقلال وميلاد المواطن الجديد الأصيل (البحث عن النسب الفكري والسياسي)
(7-ج، وهي الأخيرة)

بقلم الدكتور عبد الله الفكي البشير
خبير سياسي وباحث أكاديمي

abdallaelbashir@gmail.com

تسعى هذه الورقة عبر سلسلة مقالات، وهي طرف من كتاب قادم، تقديم رؤية جديدة للتعاطي مع لجان المقاومة، شوكة الثورة وقادتها، وحملة مشعل التحرير والتغيير، وقادة سودان المستقبل. وتأتي الورقة وفاءً لشهيدات وشهداء ثورة ديسمبر السودانية المجيدة، ومؤازرة لكل اللائي تأذين، والذين تأذوا في سبيل الحرية وكرامة الإنسان، من أعداء التغيير؛ من أصحاب الامتيازات والمستبدين والمقيمين في الماضي. وتصب كذلك في الواجب الثقافي والوطني والأخلاقي الذي يستدعي أرواح الشهداء، ويستحضر قيم الثورة. وتسعى إلى الإسهام في الوعي بالراهن، عبر العمل على عقلنة الثورة، من خلال البحث عن النسب الفكري والسياسي للجان المقاومة، ما هي لجان المقاومة؟ وماذا تمثل؟ كما تسعى إلى فكرنة سردية لجان المقاومة وتحريرها من تصورات الإرث السياسي وتأصيل نسبها في الذاتية السودانية، فضلاً عن موضعتها في الخارطة الفكرية والسياسية، باعتبارها فاعلاً جديداً في السياسة السودانية. وتزعم الورقة بأن هذا الفاعل الجديد "المارد العنيد"، أنتج واقعاً فاق تصورات الأحزاب السودانية، وتجاوز السقف المعرفي للسياسيين السودانيين، وظل مُهمِلاً للمبادرات القادمة من الإرث السياسي البالي، وعصياً على الاحتواء المحلي والإقليمي، ورافضاً للمساومات والتعاطي بالأساليب القديمة. ومع هذا أصبحت حيرة الجميع، من أصحاب المصلحة والمصالح، محلياً وإقليمياً، تتسع وتتفاقم مع صباح كل يوم جديد، أمام مارد صعب المراس، قوي الشَّكيمة، "كأنه الطود الأشم والعيلم المسجور".
وقفنا في الحلقة الماضية عند محور: "لجان المقاومة وسودان المستقبل: من القاعدة إلى القمة (مهدوا لهم السُبل لتولي قيادة السودان)". وقلت إنني من الداعين لأن تؤول قيادة السودان إلى شباب وشابات لجان المقاومة على جميع مستويات الحكم الانتقالي في الدولة السودانية. وذلك نسبة لأمرين: الأول يعود للتضحية والبطولات التي ظللنا نشهدها مع كل صباح كل يوم جديد، وعلى مدى أربع سنوات، والأمر الثاني يرجع إلى العلل الموروثة في الممارسة السياسية، وهي علل مزمنة ومتمكنة في البيئة السياسية السودانية وظلت تصاحبها الجهالة، وقد اشترط الروائي الطيب صالح (1929- 2009) الفكاك منها "بقفزات هائلة في الخيال، أو بثورات هائلة في الروح". واليوم نستكمل.
والحق إننا اليوم في ظل ثورة ديسمبر نشهد من شابات السودان وشبابه خطوات كبيرة في القفزات الهائلة في الخيال، وفي الثورات الهائلة في الروح. قولاً واحداً إن قيادة الوطن، في ظل الوباء السياسي الذي لازم أداء الأحزاب والممارسة السياسية منذ قبل الاستقلال، يجب أن تؤول إلى الشباب، وقد صدحنا بهذا الرأي منذ العام 2011، بناءً على دراسات، وفحص علمي، وتقصي دقيق في مسار السودان السياسي. وهنا أستميح القراء عذراً بأن أستدعي ما كتبته في فبراير 2011 في خاتمة ورقة علمية صدرت ضمن كتاب: انفصال جنوب السودان: المخاطر والفرص، (2012)، ومن ثم صدرت الورقة لحالها في كتاب بعنوان: الفشل في إدارة التنوع: حالة السودان، (2014)، ضمن سلسلة قراءة من أجل التغيير. كنت قد كتبت في خاتمة الورقة التي أصبحت كتاباً، النص الآتي (أنقل بالنص دون تغيير أو تعديل):
"خاتمة: سودان المستقبل
إن القيادات التي تسير دفة الحكم اليوم، والتي تعارضه، وتلك التي تقود المطالب بالحقوق في أقاليم السودان المختلفة، تحمل كل هذه القيادات تلك العلل الموروثة، مضافاً إليها ضعف حاضناتهم الحزبية، وثارات صراعاتهم السياسية، هذا إلى جانب انخفاض سقوفهم المعرفية، والتي تجلت بوضوح في كيفية تعاطيهم مع مشاكل السودان ومدى استجابتهم لمتطلبات الواقع. ولهذا لا يتوقع من هؤلاء جميعاً أن يخرجوا بالسودان إلى سودان المستقبل المستقر الموحد المتعايش. إن سودان المستقبل في ظل إرث الصراعات، وأزمة القيادات، وتهالك الحضانات الحزبية، وفي ظل تجدد مصالح القوى الدولية وتوسعها، ودخول حقبة ما بعد الحداثة بما لها من آثار، لا سيما، سؤال الإخلال الذي أغفلته حقبة الحداثة، ويعيد طرح نفسه الآن في مستوى جديد، فإن سودان المستقبل يتطلب قيادات ذات عقول جديدة. إن أهم سمات هذه القيادات هو امتلاك الرؤية والقدرة على التحدي والتفاعل مع العصر، والمعرفة بتاريخ السودان، والإدراك لأبعاد آركيوليوجيته الثقافية، والوعي بإرثه الحضاري، والعمل انطلاقاً من الواقع لا من فوقه، والرغبة القوية في البناء الجماعي، والزهد الحقيقي في الثأرات السياسية، والإدراك الذكي لمطامع القوى الدولية. إن القوى الدولية تحرص على تبني القضايا الداخلية كضامن لمصالحها وشرط أساس لاستمرار هيمنتها. لا بد لهذه القيادات أن تكون في تكوينها الفكري والمعرفي عابرة للمدارس الحزبية ونظريات عصر الحداثة، لتستطيع تحقيق الإنجازات الاستراتيجية والانتصارات للشعوب، وليس إنجازات ترقيعية آنية وانتصارات جهوية أو حزبية ضيقة. مثل هذه القيادات لا تتوفر إلا في الأجيال الشبابية القادمة، فهي بأحقيتها في المستقبل، وبحكم العصر وتجارب الشعوب المبذولة في الفضاء المعرفي الكوكبي، تمتلك القدرة على التفاعل مع الواقع ومعطياته، وبحكم الفطرة وفرص التعلُم الذاتي، تمتلك الشجاعة العقلية وقوة الحاسة النقدية، وستكون هي الأقدر على القيام بالمراجعة الشاملة، ومن ثم تصحيح مسار السودان". (انتهى).
إن هذا الرأي القائل بأن تؤول قيادة السودان للشباب ليس بالرأي الجديد، فقد قال به بعض المفكرين السودانيين، وكان الأستاذ محمود محمد طه قد كتب في العام 1945، ضمن كتابه: السفر الأول، قائلاً: "يستطيع السودان أن يقوم على سند من شباب قوي الأسر، قوي الأخلاق، قوي العزم على القيام بمناصرة الحق، في ثقة، وثبات، حتى لكأنه الطَود الأشم.. أو لكأنه العيلم المسجور". (أنتهى).
إن الشباب الذي يقود هذه الثورة، لهو أحق بقيادة السودان، كونه جاء من القاعدة، وظل يعيش واقع السودان، وليس لديه سودان آخر من صنعه، كما هو حال قيادات السودان منذ استقلال السودان. وقد خاطب الأستاذ محمود محمد طه هذا الواقع وعن التغيير وإصلاح الوضع، عام 1969 في محاضرة جاءت بعنوان: "الحقوق الأساسية في الدستور الدائم"، تحدث، قائلاً: أنا متأكد أنه هذه المسألة لا تجيء، إلا بثورة من القاعدة.. الشعب لا يصلحه إلا قيادة تنبع منه.. لذلك لا يمكن أن يكون هناك صلاح لهذا الوضع، إلا إذا كانت الثورة من القاعدة نبعت منها القيادات. وأضاف، قائلاً: "القيادات التي تتولى الأمر في الوقت الحاضر ليست قيادات الشعب، ولا تعيش في سودان الشعب.. عندها سودان من صنعها لوحده.."
نحن في حاجة إلى نظر جديد لتأمل وفحص الشؤون السودانية، وفي حاجة لقيادات جديدة، أهم ما يميزها التضحية في سبيل الوطن، والتحرر من المعرفة الاستعمارية والإرث السياسي، والتجاوز للثأرات السياسية، والعمل بقيم البناء الجماعي للوطن، والإيمان بوحدة المصير المشترك، ويقيني بأن هذه الشروط تنطبق على شابات السودان وشبابه، وقد ترجموها عملياً أمام أعيننا، ولهذا يجب علينا الاحتفاء بهم، وتكريمهم، بالانتقال من وضعية القاعدة إلى وضعية القمة، وعلينا كذلك أن نمهد لهم السُبل لتولي قيادة السودان. وتكون خلاصة الرأي لجان المقاومة لقيادة المرحلة الانتقالية، وعلى الأحزاب وقياداتها أن تبدأ العمل في إعادة بناء بيوتها وقواعدها، وإعداد برامجها العلمية استعداداً للانتخابات. أما الحديث عن قلة الخبرة وحداثة السن، فسيأتي الحديث عنه في محور لاحقًا بعنوان: "معلم الشعوب وسجل لجان المقاومة: نحو درس جديد للشعوب في القيادة الشبابية للدولة".

معلم الشعوب وسجل لجان المقاومة: نحو درس جديد للشعوب في القيادة الشبابية للدولة

تعبير الشعب السوداني معلم الشعوب، لم يقل به السودانيون في وصف أنفسهم، وإنما قاله بعض المثقفين اللبنانيين واصفين به الشعب السوداني عندما فجر ثورة أكتوبر 1964. لقد استطاعت الثورة أن تتخلص من حكم عسكري بدأ في 17 نوفمبر 1958، بقيادة الفريق إبراهيم عبود (1897/ 1900- 1983)، في وقت شاعت فيه الانقلابات العسكرية في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية ولم تسلم منها في أوروبا حتى اليونان، موطن الديمقراطية. فما من حكم عسكري، إذا حدث له تغيير وقتئذ، إلا وتغير بحكم عسكري آخر، مثلما حدث في سوريا والعراق. لقد استطاع الشعب السوداني بثورة أكتوبر السلمية أن يسن سنة جديدة تفرد بها، وعبَّر من خلالها عن انسجامه مع مكونات السودان وتركيبته المتنوعة، وانحاز بها إلى دعوات التحرر الوطني في أفريقيا، واتصل عبرها بمشهد انتصار حركة الحقوق المدنية في أمريكا، وبلحظات الاعتراف العالمي بالتعدد الثقافي، واستيعابه في الدساتير القومية في كندا. وقد جاء وصف ثورة أكتوبر في ملاحظات وتقييم بعض المراقبين والمثقفين من غير السودانيين. لقد أورد الأستاذ محمود محمد طه في محاضرة له كانت بعنوان "ثورة التغيير من أجل الحكم الصالح" في 5 نوفمبر 1968، وصف المراقبين والمثقفين اللبنانيين للشعب السوداني، وذكر بأنهم قالوا: "بثورة أكتوبر، الشعب السوداني سن سنة جديدة، ونرجو أن تتابع الشعوب الأخرى في هذه السنة الجديدة... وبعد المراقبين الذين تكلموا عن [الشعب السوداني] في ثورة أكتوبر قالوا إنه معلم للشعوب". فهذا الوصف، وصف الشعب السوداني بأنه معلم الشعوب، لم يكن وصفاً سودانياً شوفينياً، وإنما وصفاً أطلقه غير السودانيين على الشعب السوداني.
إن أرض معلم الشعوب، هي أرض الثورات، لا جدال في ذلك، كون الوقائع والشواهد عبر التاريخ، تدل على ذلك، وهي كثيرة. واليوم فإن معلم الشعوب يمكنه أن يقدم درساً جديداً للعالم، بأن يتيح الفرصة كاملة للجان المقاومة، شباباً وكنداكات، لتخوض تجربة قيادة الفترة الانتقالية، وتنصرف الأحزاب إلى إعداد نفسها للانتخابات. وتزداد أهمية هذا الطرح عندما نُدرك كما قال محمد عشري الصديق (1908-1972)، بأننا في حاجة لنظر جديد للتعاطي مع شؤون السودان. وسيتحقق هذا، إذا ما نجح العناد الثوري، الهادف إلى إحداث التغيير الجذري، إلى الوصول لتقديم هذه التجربة الشبابية الخالصة في الحكم بواسطة لجان المقاومة، يكون السودان، معلم الشعوب، قد أودع درساً جديداً في مجلد الحضارة الإنسانية. فهذا الجيل الجديد الذي قدم تضحيات كبيرة وجديدة على العقل السياسي السوداني، في سبيل الوطن، لهو جدير بأن يدير شأن الوطن. وقد يرى البعض بأن هناك عقبات تحول دون ذلك، منها حداثة السن، وقلة الخبرة، وبعض مظاهر الانقسامات، وعدم وجود هيكل واضح للجان المقاومة، وصعوبة اختيار طاقم حكم، في ظل غياب آلية الاختيار، وغيرها.
وهذه العقبات مردود عليها، فحداثة السن ليست عائقاً أبداً، فكثير من الذين قادوا التغيير في العديد من أنحاء العام كانوا شباباً من حديثي السن. فعلى سبيل المثال، لا الحصر، كان مارتن لوثر كنج (1929- 1968)، القائد العظيم في حركة الحقوق المدنية Civil Rights Movement، ابن الـ (26) عاماً حينما بدأت الحكومة الأمريكية اعتقالاته. ولما بلغ عمره (27) كان أصغر شخص وأول قسيس يحصل على ميدالية "سينجارن" التي تعطى سنوياً للشخص الذي يقدم مساهمات فعالة في مواجهة العنصرية. وبعد انتصار حركة الحقوق المدنية، فاز بجائزة نوبل للسلام عام1964 تكريماً لجهوده في مكافحة العنصرية والفصل العنصري، وعمره 35 عاماً، ليكون أصغر رجل في التاريخ يفوز بهذه الجائزة. كذلك دخل پاتريس لومومبا (1925- 1961) سوح النضال وعمره أقل من (26) عاماً، وقاد حركة التحرر من الاستعمار البلجيكي، ثم كُلف بتشكيل أول حكومة عام 1960 وعمره 35 عاماً، ليصبح أول رئيس وزراء منتخب في تاريخ الكونغو. والنماذج على ذلك كثيرة في مختلف أنحاء العالم. كان الثائر السوداني علي عبد اللطيف (1896-1948) ابن 28 عاماً حينما قاد ثورة 1924. كذلك كان معظم الذين كوَّنوا مؤتمر الخريجين في السودان عام 1938، تتراوح أعمارهم ما بين 23- 30 عاماً، وعندما أسسوا الأحزاب السودانية في عامي 1944 و1945 ومنهم من ترأس بعضها، كانت أعمارهم تتراوح ما بين 29- 42 عاماً. أيضاً ترأس السيد الصادق المهدي (1935- 2020) مجلس الوزراء، وكان عمره (30) عاماً، وغيرهم كثير. فالسن ليست عائقاً. أما بالنسبة للخبرة فيمكن التغلب عليها بالأخذ باللجان الاستشارية، خاصة وأن هناك جهود تمت في ذلك، خلال هذه الثورة. ويمكن أن يكون مع كل وزير أو رئيس مؤسسة، لجنة استشارية تتكون من (3- 5) أشخاص من المهنيين الداعمين للثورة، والمؤمنين بقيمها ومبادئها وشعاراتها. وبالطبع سيتم وضع معايير لذلك، ومن أهمها المهنية وليس الحزبية. أما مسألة الهيكل التنظيمي للجان المقاومة، ففي تقديري أنهم في تطور مستمر، سواء من حيث الهيكل التنظيمي أو عمليات انتخاب بعضهم البعض. ولا جدال في أن القادة القادمون من القاعدة الثورية (شباب وكنداكات)، يمثلون العقل السياسي الجديد الملتصق بالجماهير، والمحمي ضد الانتهازية بما قدمه وشهده من تضحيات. ويعبرون كذلك عن القادة المستقبل الجدد، سواء في مناهج التفكير أو طرق العمل، أو في القدرة على التعاطي مع معطيات الحياة الرقمية ومظاهر الثورة التكنولوجية. ولا ريب في أن من حمل زميله شهيداً أو زميلته شهيدة بين يديه أثناء الحراك الثوري، فهو قادر على حمل الوطن في حدقات العيون، وقادر على العمل والقيام بالواجب الوطني والأخلاقي وفاءً لتلك التضحيات.
ختاماً أتقدم بخالص الشكر وفائق التقدير إلى أسرة صحيفة التيار، وللأستاذ بهاء الدين عيسى عطا المنان، مدير التحرير، على جهوده وتفاعله وحسن تعاونه بروح شراكة ومهنية نادرة المثيل. والشكر الجزيل لكل الذين عبروا عن احتفائهم بهذه المقالات، أو أبدوا ملاحظاتهم وتعليقاتهم، وهم كثر، وقد استفدت من ملاحظاتهم، وسأستفيد منها بشكل أوسع، مع الإشارة إليهم بالطبع، خاصة وأنني بصدد الترتيب لإصدار هذه المقالات، مع بعض الإضافات والتفصيل، في كتاب قريباً. وذلك في سبيل الإسهام في إثراء الحوار عبر فكرنة ثورة ديسمبر المجيدة وعقلنة مسارها.

 

آراء