نخبويّة التعليم بالسودان ومرحلة جديدة للظلم المجتمعيّ: ألمانيا كأنموذج في تفوق التعليم
Mohamed@Badawi.de
كليّة الطب فقط لأبناء الأغنياء:
لقد حام الأيام الماضية في الأسافير مقطع فيديو لبعض النسوة اللائي وقفن وقفة احتجاجيّة صارمة في مكتب القبول للجامعات بالخرطوم ابدين فيها امتعاضهن تجاه قرارات وزيرة التعليم العالي فيما يخص نسب القبول للجامعات. لقد أعلنت الوزيرة منذ فترة وجيزة أنّه تم قبول نسبة تعادل ٥٣٪ من المتقدمين لامتحان الشهادة في غضون هذا العام، كما وأعلنت عدم القبول لعدد كبير من الطلاب قد يصل تعداده إلى حوالي ٢٢٥٠٠ من الطلاب. والأمر المدهش يا سادتي هو انعدام الفرص تمامًا في كليّة الطب لطلاب بلغت نسبة نجاحهم حوالي ٩٣٪ ونيّف! علمًا بأنّ الوزيرة اتجهت باستراجيتها الجديدة إلى خصخصة بعض المقاعد بكليات الطبّ وبكليات أخرى لتصل رسوم القبول السنوي إلى مليار جنيه سوداني (قديم) ما يعادل بالعملة الأجنبية ما يزيد عن ثلاثة ألف دولار أمريكي. كيف يتسنى للطلاب من فئة ذوي الدخل المحدود أن يتحصلوا على هذه المبالغ الخرافية؟ وإن العلّة المقصودة من الوزارة أن ترغم هؤلاء المتفوقين بأن يعيدوا السنة الدراسية فسوف لن يحدث ذلك، وهذا حق لكل طالب بلغت نسبته درجة عليا. لذلك فأنا لا أعتقد أن يفكّر أحد الطلاب المتفوقين من فئة المتحصلين على نسبة تفوق ال ٩٠٪ أن في إعادة السنة للتحصّل على نسبة أعلى منها في السنة المقبلة، حتى يتمكن من ارتياد الكليات المرموقة بالجامعات الحكوميّة، ومن يضمن لهم بربكم القبول حتى ولو أعادوا الكرّة؟ وهل يضمنون أن تخرج الوزارة لهم بموضة جديدة العام المقبل؟ لذلك فسوف يكون هؤلاء الطلاب المتفوقين من فئة ذوي الدخل المحدود مضطرين إلى مواصلة تعليمهم على أيّة حال، ولكن في أيّ كليات تتيح لهم الوزارة مواصلة تعليمهم؟ كان لنظام الإنقاذ نصيب الليث في أن انقلب التعليم إلى بورصة تجاريّة تتبارى فيها أسهم شركات التعليم المختلفة لا سيما الخاصة منها والتي لا يستطيع دخولها إلا أبناء المقتدرين. هذه حقيقة مرّة أن يصير التعليم نخبويًا، فقط للصفوة، أما أبناء الفقراء ومحدوديّ الدخل فعليهم بدخول كليّات هي حقيقة اسميّة وتخرّج فقط طلابًا لتمتلئ بهم أسواق العطالة.
إن ما يحدث الآن في قطاع التعليم العالي فيما يتعلق بتقليص الفرص على المتفوقين وفتح بيبان المعرفة فقط لمن يمتلك الدولارات بالآلاف هي مأساة تكاد تكون تكرر في سودان ما بعد الإنقاذ. فعلى الحكومة الانتقاليّة أن تبذل الجهود لتمهد لهذه الفئة سبل المعرفة والعلم حتى تستطيع أن تشارك في بناء سودان جديد بمقومات جديدة تساعد على مواجهة تحديات الألفيّة الثالثة وعصر العولمة والثورة الرقميّة.
مجانية التعليم بألمانيا وايجابياته للخريجين:
إن نظام التعليم العالي في جمهورية ألمانيا الاتحادية يجعل منها إحدى أبرز الدول التي يقصدها طلاب العلم وهي صارت في الآونة الأخيرة بحق مكّة الباحثين عن دراسة جادة بعلم مستدام. واختيار الطلاب الأجانب لها، منهم أعداد كبيرة من العرب من المملكة المغربية ولبنان مثلا، يأتي نظرا لجودة التعليم وتقدم منهاجياتها فضلاً عن أنها توفر لكل طالب وطالبة بيئة أكاديمية ممتازة قبل وبعد التخرج. ونظام الدراسات العليا في جامعات ومعاهد ألمانيا يهيئ الطلاب للتأقلم السريع مع أسواق العمل ومتطلباتها الأكاديميّة والمعرفيّة في إطار كل وظيفة وما تتطلبه من معارف وخبرات.
يجب أن نذكّر بأن التعليم في ألمانيا وبكل فروعه، جامعي أم مدرسي، مجاني. وبصريح القول، فحتى الدراسة الجامعية في أي كلية من الكليات لا تكلف الطالب ولا أسرته شيء يذكر، اللهم إلا رسوم التسجيل وهي لا تفوت الستين يورو في السمستر وذلك يعتمد على المقاطعة التي يدرس بها الطالب. بعد التسجيل يحصل الطالب على البطاقة الجامعية التي تتيح له التمتّع بامتيازات عديدة: مثل تخفيضات في السكن، رسوم المواصلات، دور الثقافة، المكتبات، الخ. وعلى صعيد بلادنا دعونا نطرح التساؤل التالي: لماذا صار التعليم فيه نخبوي، مادي، رأسمالي؟ من بربكم يستطيع دفع هذه المبالغ الباهظة للجامعات الأهلية والخاصة والتي تصل في بعض الكليات لآلاف مؤلفة من الدولارات، إنه لحد ينوء بحمله حتى وجهاء البلد وأعيانهم، ناهيك عن المواطن المغلوب على أمره حتى وإن كان ابنه أو بنته نابغة ذبياني!
التعليم العالي فقط للنخبة:
للأسف يا سادتي لقد صار التعليم في بلادنا فقط للنخبة، تعليم متخبط، باهظ الثمن وفي النهاية ما هي النتيجة التي تجنيها البلد من ملايين الطلاب الذين تخرجوا عن هذه الجامعات؟ هل دفعوا بعجلة التطور والتقدم إلى الأمام؟ لماذا صارت أمتنا وبلداننا في آخر العنقود بين الأمم في كل المجالات دون استثناء؟ إذن فإن عملية التعليم الجامعي صارت في أغلب الجامعات ومنذ عهد زهيد بزنس ليس فيه أي مجال للإنسانية. إن تردّي التعليم في كل القطاعات العامة ما هو إلا مؤشر بيّن أو قل سيزموغراف (جهاز قياس الزلزال) يقيس التدنيّ المعرفي الذي وصلت إليه بلداننا. أنا لا أفهم، مثلا، طالب الأدبي من أسر الباشوات الذي ليس له أي مهارات أو نبوغ في المواد العلمية كيف يمكنه دراسة الهندسة أو الطب أو أي مواد علميّة بحتة، إن امتلك المال! وبالمقابل فإن الطالب الذكي المجتهد والمتفوق الذي انبثق عن أسرة فقيرة لن يتسنى له ارتياد هذه الكراسي؟ ينبغي علينا جميعا أن نطرح المشكلة بهدوء ونضع الكرة أرض (أو أرضا سلاح)، أعني أن نتفاكر ونناقش بحكمة ومعرفة، دون عنجهية أو عنطزة، حتى يمكننا وضع حلولا لهذه الإشكاليات المصيرية. كما ينبغي أن نقول أيضا وبصوت جهور، لا للسمسرة بالتعليم ولا للبيع والشراء به، هذا حق لكل مواطن ومواطنة وينبغي علينا أن ننتهز في هذا السياق الفرصة لنجعل من الحراك الثوريّ شرارة للحراك المعرفي حتى نخرج ببلادنا من هذا المطب وحتى يتمكن لأبنائنا أن ينعموا بمستقبل مشرق، باهي وواعد.
مثال بافاريا ونظام التعليم والبحث العلمي:
كنت في سياراتي عائدا من العمل بالجامعة وكانت قطرات الطل تنساب متواترة رانية على زاج السيارة، فتولد ايقاعات جميلة أرتاح لها وتسكن نفسي في خريف سلسبيلي إليها. شرعت في سماع راديو بافاريا وكان أول خبر تبادر إلى إذنيّ أن رئيس المقاطعة ماركوس سودر قد خصص في ميزانية العام المقبل مبلغ ٤ مليارات للبحث العلمي بالجامعات سيما في مجال الأتمتة وتقنيات الروبت (الماكينات الآلية). لقد خطط هذا الرجل بدراية وحكمة، فعزم وأنجز قائلا: سوف نستقطب من كل أنحاء الدنيا علماء من أساتيذ الجامعات ونمنحهم الإمكانيات المادية والعملية للمضي قدما بمقاطعاتنا في سياق منظومة التكنلوجيا العالمية. يقول: لا بد أن نتصدى لهذا التحدي العالمي حتى نستوي في الصف بين أوائل الأمم. هذا يعني يا سادتي أن العلماء الذين سيأتون إلى بافاريا جلهم من البروفسورات الذين يشار إليهم بالبنان في حقولهم العلمية. ويذكر السيد سودر أن ميزانية أستاذ الكرسي الواحد قد تكلف مبلغ مليون يورو في السنة. أستاذ الكرسي أي البروفسور الذي تضع له الجامعة ميزانية كاملة وإمكانيات تتضمنها معامل، ميزانية للأبحاث، طلاب بأطروحات في المجال، مساعديّ بحث، سكرتارية، أجهزة وميزانيات كبيرة للشروع في الحقول العملية للتجارب. بالمقارنة ومن جهة أخرى تعجبت في حقبة الثلاثة عقود المنصرمة لمكابرة بني كوز من أهل الإنقاذ عندما يتفاخرون بعدد الجامعات التي أُنشأت في عهدهم.
الاستثمار الحقيقي هو في الإنسان:
يجب أن نذكر يا سادتي أن الجامعات تنتشر في كل مدن ألمانيا، فعلى سبيل المثال المدينة التي أعيش بها يقطنها ثمانون ألف نسمة وبها أعظم الجامعات الألمانية والكليات التقنية. هذه المدينة ترقد على بحيرتها كالهمزة على سطرها وتطل عليها جبال الألب من علٍ فتضفي على هذه اللوحة جمالا وسموق. تجد في جامعتنا، إن أخذناها كمثال، معظم التخصصات، وكل كلية لها أساتذة كراسي (بروفسورات)، مساعدو بحث، طلاب دكتوراه، ماجستير، بكالوريوس، الخ. واصطاف يساعد على تحريك العمل من سكرتارية ومنظمين، الخ والقائمة طويلة. ومن أساسيات الدراسة بألمانيا أن تكون دائما مرتبطة ارتباطا وثيقا بحقول البحث العلمي والنتائج المترتبة على هذه الأبحاث، سواء في مجال الطب، الهندسة، الهيدروليك، الزراعة، الصناعة الخ. وكمثال ففي كلية علم النفس، نجد أن كل نتائج البحوث الجارية والجديدة يجب أن يطلع عليها الطلاب ويكونوا هم ذاتهم جزءا لا يتجزأ منها، ذلك في عمل التجارب، أو العمل كمتدرب بحث تحت رعاية أحد الاساتيذ، الخ. فالجامعة ليست مبنى فقط يتكون من غرف جميلة أو قبيحة، لكنها مؤسسة علمية متكاملة، تشعّ نورا ويصيب هذا السنا أهل البلد الذي يعيشون فيه. لذا فتأسيس المناخ المعرفي للدراسات الجامعية وللبحث العلمي ينبغي أن يكون من أولويات النهضة المعرفية في المرحلة المقبلة وأن نربط خلق هذه النهضة والقيام بها ربطا وثيقا بكل مؤسسات المجتمع المدني والمدارس والمصالح المختصة حتى نجعل منها كلها حلقة واحده ترتبط أجزاءها ببعضها البعض، كدروة الحياة.
إن الدول المتقدمة والنجيبة تستثمر في الإنسان لأنه هو بطل الماضي ومبدع الحاضر ومبتكر المستقبل. وكل فرد من أفراد المجتمع الألماني، ابن عامل النفايات (الزبالة) وابن المعلم وابن القاضي وابن التاجر أو الطبيب كلهم سواسية كأسنان المشط أمام القانون الذي يكفل لكل منهم حقوقه في المواطنة وفي التعليم والمسكن والمشرب والسلام. لم تلد حواء ابنا يحمل في فِيهِ ملعقة من ذهب فكلنا أبناء حواء وآدم وكلنا شغف أن نخرج ببلادنا من مطبات الحاضر المرّ إلى بر الأمان في مستقبل واعد وزاهر.
خاتمة:
إن التعديلات التي طرأت على نسب القبول للجامعات هذا العام حقيقة فاقت كل التوقعات ونراها قد عصفت بآمال العديد من الممتحنين المتفوقين وأسرهم، لا سيما أولئك الذين ينتمون لفئة النوابغ الذين بلغت نسبهم ال ٩٠٪ فما فوق. ويجب أن نذكّر أن الفارق الذي اعتمدته وزارة التعليم العالي بين هذا العام والعام المنصرم كان شاسعًا وغير مبرر، لذلك فنحن نجد الكثير من الأسر رفعت صوتها عاليًا ونادت بالعدالة للكلّ وكانت على حقّ. نعم، للتقسيم المنصف لكل طالب وطالبة بذل(ت) قصارى جهده(ا) للوصول إلى هذه النتيجة المشرفة.
دعونا يا سادتي نشارك العالم أجمع في المنظومة العالمية بإنسانيتنا وعلمنا ورقينا ونترك نعرات التفرقة والقبلية والظلم المجتمعي خلف ظهورنا، فإننا لا نخلد على وجه هذه الأرض، فلنترك لأحفادنا إرثا يعتزون به حتى يقولون: لقد أجتهد أجدادنا وأبلوا بلاءً حسنا فلهم منا كل التقدير. ولابد في نهاية المطاف أن تتحقق العدالة لكل مواطن ومواطنة وأن نرعى حقوق المتفوقين من ذوي الدخل المحدود أو من الأسر الفقيرة على نهج شعار هذه الفترة الانتقالية: حرية سلام وعدالة ... للكل دون فرز.