نعم انقلاب .. لكنه ملء تلقائي للفراغ 

 


 

عادل إسماعيل
27 November, 2021

 

كان انتصار ثورة ديسمبر حدثا آنيا باهرا ، قلب الطاولة السياسية رأسا على عقب ، و تجاوز كل فكر سياسي في تلك اللحظة . فلم تخرج تلك الثورة باهظة التكاليف من أكمام الكيانات السياسية ، كما لم تخرج من تصور مسبق ، و لذك من الطبيعي لم يكن لها كتاب منير تسير على هديه .

غني عن القول ، إن أحزابنا السياسية "الجاهزة" التي فوجئت بهدير الثورة ، لم تجد بدا من اللحاق بالثورة و توجيهها مستغلة مجهود الشباب بفهلوتها . و بعد تشكيل الحكومة  بالشراكة مع العسكر عقب مأساة فض الاعتصام  و ما أعقبها من عذابات ، تولت قوى "الحرية و التغيير" قيادة المشهد السياسي بذات عقلية المعارضة التي ألفتها زمنا طويلا . و بددت وقتا ثمينا تعارض نفسها بمليونيات متعددة الأسماء ، و أطرف تعليق على هذا التناقض الطفولي جاء من أحد الكتاب الساخرين واصفا الحكومة بأنها "مركبة شريحتين" !!

و استمر هذا التناقض يبدد زخم الثورة و توقها للتغيير ، الأمر الذي أضعف رئيس الوزراء و ضيق سبل مناوراته مع شركائه العسكر و هو لم يزل يتلمس مداخل و مخارج الفعل السياسي السوداني . فأصبح الرجل يدور كطائرة ورقية في هذا التناقض العاصف . فها هو يرى ممثلي قوى "الحرية و التغيير" يذهبون  إلى القصر و "يستمتعون" بصحبة العسكر ، ثم يسيرون مليونية ضدهم في اليوم التالي .. و كان أن كشفت السيدة الفاضلة عائشة موسى ، هذا التناقض ، مع بقية أسباب استقالتها ، أن حلفاءها المدنيين يأتون إلى القصر بانتظام دون إلقاء التحية على مدنيي السيادي الذين كانوا يعتفدون أنهم نصفهم الحلو .

و جدير بالذكر ، أن رئيس الوزراء حديث عهد بالفعل السياسي السوداني الذي غادر ما كان مألوفا من حراك سياسي كلاسيكي . بل لعل الأول كان ممنوعا عليه التوغل في السياسة الداخلية للدول الأعضاء كعادة كبار موظفي وكالات الأمم المتحدة ، و ذلك حفاظا على "حيدة" المؤسسة الأممية .

 فلو كان لرئيس الوزراء ، حينها ، ظهير سياسي مدرك للأمور ، لأشار عليه أن ينفق رصيدة الجماهيري الأسطوري في تمرير القرارات الصعبة ، بما يشمل السلام و الاقتصاد و تحريرهما من قبضة العسكر ، و ذلك لأن العسكر كانوا في أكثر اللحظات وداعة و تواضعا ، و كان كل طموحهم أن يعترف بهم شركاء في التغيير . فعلى سبيل المثال ، عندما سأل أحد الصحفيين الجنرال البرهان ، حينها ، عن ما هي القوانين المقيدة للحريات التي وافقوا على إزالتها ؟؟ رد الجنرال قائلا: " والله ما عارف ، بس هم قالوا لينا أزيلوها و نحن وافقنا طوالي" !!

و كما تري ، ظهر ضعف السيد رئيس الوزراء جليا في حكومته الثانية . فإذا كان الخواء السياسي و الفكري لحكومته الأولى دفعه للقاء حلفاء النظام المطاح به بثورة باهظة التكاليف ، فإن حكومته الثانية عجزت عن توفير معينات الحياة ، بل عجزت حتى عن إزالة الأوساخ من الشارع ، بل لم يخجل والي الخرطوم حين أشار عليه ضيفه الأوروبي ، أن تراكم الأوساخ في الشارع يمس حقوق الإنسان .

و في حقيقة الأمر ، إن أكثر  من أضعف حمدوكا هم حلفاؤه في "الحرية و التغيير" بالدرجة الأولى . فعلى الصعيد الخارجي الذي عول عليه رئيس الوزراء كثيرا ، جاء مردوده بطيئا و خفيضا بسبب يسارنا الصبياني بأن "لن يحكمنا البنك الدولي" ، و بأن يجب أن تكون "لاءاتنا الثلاثة" حاضرة برسالتها الخالدة .

و أما على الصعيد الداخلي ، فأن الحكومة عجزت أن تقوم "بواجبها المنزلي" ، و التعبير للأستاذ السر سيد أحمد ، و ذلك بإعداد المسرح الوطني بإكمال مؤسسات الحكم و لزوم ما يلزم لاستيعاب المردود الخارجي . و كان ذلك عجزا بينا لدرجة أن أحد مسئولي الحكومة أفاد ، ذات تصريح ، بأن المشكلة في عدم قدرتهم على العمل ، أنهم لم يجدوا داتا "قاعدة بيانات" يشتغلون عليها ، دون أن يقول لنا ماذا ، إذن ، يفعل هو و زملاؤه في السلطة ، كل يوم ، في مكاتبهم الوثيرة الأثيرة ؟؟ أم لعلهم كانوا يعتقدون أن بمجرد وصولهم إلي السلطة ، ستقرر المشاكل أن تحل نفسها إكراما لهم ..

و كما ترى ، دفع عجز الحكومة عن العمل ، العسكر أن يمدوا رجليهم . و لاحظ ذلك الأمر كتاب كثيرون ، بينهم الأستاذة آمنه مختار التي صورت الوضع بعبارة باهرة ، يفسدها الشرح ، عندما قالت: استقوى المكون العسكري بضعف المكون المدني . و هذا ، يا ابن ودي ، يسمى "المقابلة" قي علم البيان .

و في حقيقة الأمر ، لا تقبل الطبيعة الفراغ ، بل لا تتردد في خيانة أعز القوانين لديها ، و هو الجاذبية ، لملء هذا الفراغ .. و كما يقول ريتشارد فاينمان ، صاحب "مخططات فاينمان" ، إنك لن تستطيع استغفال الطبيعة ، فإن لم تجود أدواتك ، فإن إرادتها لا محالة نافذة . و هنا لا مفر من تذكر الفراغ الذي أحدثته "الحركة الشعبية" عقب توقيع اتفاقية نيفاشا 2005 ، و عقب مصرع الزعيم الوطني الخالد ، و ذلك بعد أن تركت العمل السياسي وسط الجماهير و استمرأت الجلوس على أرائك السلطة ، تعب من خمرها ، و تنظر إلى المشهد السياسي بعينين ناعستين ، و تمسح عن جبينها وعثاء النضال . فبدلا عن أن تتحرك "الحركة الشعبية" في الفضاء السياسي الذي خلقته نيفاشا ، لتبلور مع الجماهير فكرة "السودان الجديد" ، استغل "المؤتمر الوطني" عجزها عن الفعل ، و ملأ هذا الفراغ ، بل جرها لركل مرشحها للانتخابات الرئاسية في 2010 ،  بل جرها لدعم مرشحه هو بدلا عن ذلك !!

أما حكومة حمدوك ، فحتى الذين كانوا يعملون بهمة كلجنة التفكيك ، وهي أيقونة الثوة و مصدر راحة نفسية لنا ، أتلفوا عملهم الرائع بمطاردات صغار المنتقعين من النظام المطاح به ، بثورة باهظة التكاليف ، و بغياب استئناف قراراتهم . أو كذاك الجمهوري النبيل الذي أتلف عمله الرائع بالتصدي لكل كلمة تقال بطريقة تلاميذ الجامعة بدلا عن أن يفسح المجال لمعاونيه في شرح هذه الأمور المتعلقه بعمله ، ففتح بذلك بابا عاصفا في وجه رئيس الوزراء الذي لا يملك الأدوات المعرفية المناسبة للتعامل مع هذه العاصفة الجياشة المجيشة حقيقة و مجازا . فلم يستطع الأخير سد هذا الباب إلا بالرجوع إلى "المتخصين الأكفاء" في منهج التربية الإسلامية حصرا ، الأمر الذي زود قوى الردة بطاقة جبارة وحضورا حيا لم يكونوا يحلمون بها كل العمر ، بعد أن كادت سيرتهم تنزوي مع كل جريرة تكشف عنها الأيام .

و أما "الحركات المسلحة" ، فلم تتخلف ، هي الأخرى ، في إضعاف حمدوك و من ورائه إنجازات الثورة . فبدلا من أن تلقي بثقلها مع الثوار في الداخل ، و تشرع في بلورة مشروع وطني مع الثوار الذين ملكوا الرغبة العارمة قي التغيير ، و لكن تنقصم فكرة التغيير و هي "السودان الجديد" - ذلك المشروع الذي غاب منذ ميلاد الدولة السودانية "الحديثة" - أرتضت أن تستكين في مقعد الرفض ، مستسهلة الإسراف في الاشتراطات ، التي تجعلها تستمرأ الكسل الذهني ، معفية نفسها من عنت تجديد خطابها و تحديث آليات عملها بما ينسجم مع الفضاء السياسي الرحيب الذي خلقته ثورة ديسمبر بكلفتها الباهظة .

و بالرغم من بؤس هذا الوضع ، فقد قبلنا به كما هو و دعمناه .. بل آثرت عدم الكتابة لما يربو على عام و نصف حتى لا نضعف بنقدنا رئيس الوزراء ، و نجعله لقمة سهلة المنال لفكوك قوى الردة السعرانة ، عسى أن يغير حمدوك حكومته بنفس الطريفة التي غير بها حكومته الأولى و يدفع بالأمور إلى نهاية الفترة الانتقالية بأقل الخسائر الممكنة و أكثر المكاسب الممكنة .

لكن حدثين ، أطلا على المشهد المأزوم ، جعلا ذلك مستحيلا . فأما الحدث الأول ، فهو تصريح المستشار السياسي السابق لرئيس الوزراء ، في آخر مؤتمر صحفي له ، في وكالة سونا للأنباء ، و هو التصريح الذي قال فيه ، إن الحكومة لن تحل بقرار أو بفرمان !! يعني ستبقى هذا الحكومة العاجرة عن تلبية أبسط ضروريات الحياة ، و ستظل في صدام بليد مع شريك انتقالي أختارته هي أساسا !! و تتوقع أن يتفهم الشعب السوداني عجزها عن العمل و عجزها حتى عن تقديم استقالتها !!

أما الحدث الثاني ، فهو غريب بشكل مؤلم .. فكان أن استضافت إحدى القنوات الفضائية ، أحد وزراء "الحرية و التغيير" ، و هو الوزير الذي رفض ، ذات مرة ، استقبال جرحى مأساة فض الاعتصام عندما لجئوا إليه في مكتبه للمساعدة ، و هم ذات الجرحي الذي لا تتذكرهم "الحرية و التغيير " إلا إذا شعرت بتهديد إبعادها من السلطة .. قال الوزير للمذيعة ، إن الشعب السوداني قال كلمته بوضوح ، في موكب ذكرى ثورة 21 أكتوبر 1964 ، من أنه يريدها سلطة مدنية . فقالت له المذيعة ، نعم هذا مفهموم ، و لكن لماذا لا تقبلون بحل الحكومة بحكومة مدنية أخرى كما حدث من قبل ؟؟ فأنت "حضرتك" توليت منصبك بعد حكومة "مدنية" محلولة مثلا ؟؟ فما كان من هذا الوزير إلا أن أشار إلى أذنه و قال ، إنه لم يسمع السؤال !!

إذن ، كان هذا الوضع متجها بسرعة إلى فراغ . و هو الفراغ الذي يعقب تجميد الشراكة التي فرضها الانتقال من نظام اطيح به بثورة شعبية باهظة التكاليف ( لابد من هذه الإشارة دوما حتى يكف الحمقي عن ضرورة سفك المزيد من الدماء من أجل حكومة مدنية ، ننتظر أن يعيش الشباب لبنائها بدلا عن الموت للمناداة بها و هدم الجزء اليسير الذي يمكن أن تحققه هذه الفتر الانتقالية قصيرة العمر ) . و لكن ، يا ابن ودي ، ليس هناك فعل سياسي لتعبئة الفراغ هذه المرة ، و إنما هي الدماء و الدموع ، و تيه في صحراء العدم ..

لذلك كله ، أرى حتمية استمرار الشراكة مع القيادة العسكرية المتوفرة الحالية حتى نهاية الفترة الانتقالية . فليكف ، إذن ، الحمقى و السذج بضرورة عودة الجيش إلى ثكناته . وذلك ليس لأنه في هذه الثكنات ترواده وساوس الانقلاب و تذر في سمعه مغامرات يلذ لها فحسب ، و لكن لأن بعض هذه الثكنات تقع في الأحياء السكنية و الحدائق العامة . فمن الحكمة قبول أي اتفاق يلجم هذا الجنون المفضي للفناء .

و لو كنت عضوا في هذه الأحزاب ، لنصحتها بفتح دورها و الاتصال بجماهيرها ، لمراجعة أسسها النظرية التي تبدو متخلفة أو تبدو خرافية ، من ثم تجويد خطابها السياسي ، و ذلك بدلا عن إهدار طاقتها و زمنها في ملاواة وضع انتقالي لم يبق من زمنه الكثير .. و لو كنت عضوا في الحركات المسلحة ، لنصحتها في الانخراط في العمل السياسي لتكملة ما تدعو له ، و ذلك لأن البندقية شرعت لأن صوتي لم يكن مسموحا له بالوصول إلى الجماهير ، فما أن انتزعت ذلك الحق لإسماع صوتي بالثورة و النضال ، فالطريق أصبح سالكا لطرح دعوتي بالفعل السياسي السلمي ، فالفكرة التي تنفع الناس تبقى في الأرض .

و في حقيقة الأمر ، فإن تقليل كلفة التغيير و تسليسه ، و تقليل الزمن المناط به إحداث هذا التغيير ظلا يشكلان  خيطا ناظما و حبلا سريا للتنظير السياسي الذي نساهم به منذ اتفاقية نيفاشا . و هو ليس سوى محاولات ممتدة لا تفتر لاستعدال نتوءات المتصل السياسي و الاجتماعي في السودان منذ انطلاقه الأشتر عشية الاستقلال في يناير 1956 . و هو ما يمثل امتدادا لمناداتنا خوض الانتخابات في 2010 التي أتلفتها "الحركة الشعبية" كما ورد أعلاه ، ثم منادادتنا لخوض الانتخابات في 2015 التي أتلفتها الأحزاب و هي تحث أنصارها على مقاطعة الانتخابات و "التصويت بأرجلهم" ، فخلت بذلك الساحة السياسية ليبرطع فيها "المؤتمر الوطني" بما يغذي و يعزز نتوءات المتصل السياسي و الاجتماعي في السودان ، و هو مرتاح الخاطر . كما يمثل ذات الخيط الناظم لمناداتنا بمنازلة "المؤتمر الوطني" في انتخابات 2020 ، ثم كانت تورة ديسمبر التي أتت حدثا آنيا باهرا بلا تصور مسبق و لا كتاب منير ..

إذن ، أنا أرى دعم اتفاق حمدوك و البرهان و بلا تحفظ ، و لا ملاواة ، حتى يستطيع الرجل أن يفعل شيئا هذه المرة ، و ينجز ما يستطيع إنجازه في ما تبقى من انتقال قلق ، بأقل الدماء و أقل الدموع .. فقليل من الإنجاز خير من لا إنجاز .


adil.esmail@gmail.com

 

آراء