نقوش حول قوانين الإعلام المطروحة في السودان للعام 2021م (1 من 7) 

 


 

 

د. سيف الدين حسن العوض

أستاذ الإعلام المشارك- كلية الإعلام – جامعة أم درمان الإسلامية

جاء في الأخبار أنه قد تم طرح قانون الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون في السودان للنقاشات العامة في خطوة اعتبرها البعض (لقمان محمد أحمد وآخرون، 2021م)، بأنها خطوة عظيمة في طريق نقل هذه المؤسسة العريقة من ملكية الدولة إلى ملكية المجتمع (Public Broadcasting)، وهو ربما يقصد أن الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون في السودان ستصبح مستقلة لها سياساتها وخطها التحريري المستقل بعيداً عن سيطرة الدولة. وذلك جنباً الى جنب لطرح قوانين أخرى للصحافة والإعلام الرقمي في مقبل الايام القامة بإذن الله تعالى. وسنبدأ في هذه السلسلة من المقالات مناقشة هذا الامر طالما أنه قد طرح للنقاش، وبداية نقول أن الأداء الإعلامي السليم والصحي في أي مجتمع من المجتمعات هو نتاج ثلاثة عناصر ضرورية هي القانون والأخلاق والحرية، والعناصر الثلاثة القانون والحرية والأخلاق الإعلامية، ليست بأهمية بعضها، لكن غياب أحدها يهدد رسالة الإعلام وحسن سير عمله، فمن دون حرية يصبح مضمون الإعلام بيانات رسمية، ومن دون قوانين تصبح المهنة الإعلامية مشرعة الأبواب وغير محمية وعرضة لكل التجاذبات،  ومن دون أخلاق يصبح الإعلام فاسد فتتراجع الضوابط ويتهدد دوره الرئيس المراقب والناقد. فما المقصود بهذه الأذرع أو الاركان أو العناصر الثلاثة الضرورية للأداء الإعلامي السليم؟

أولاً: القانون: أي مجموعة القوانين والتشريعات المنظمة للمهنة والتي تحمي الصحافيين وتضمن حقوقهم كما تحمي المواطنين من تجاوزات وسائل الإعلام حيالهم، وتضمن لهم خدمة إعلامية راقية. وتختلف قوانين الإعلام تبعا للأنظمة القائمة في الدول. فلكل نظام فلسفته التي تحدد موقع وسائل الإعلام فيه والدور المناط بها. غير أن وجود القوانين واحترامها هو الضامن الأول لممارسة الصحافيين لمهنتهم بشكل صحيح وسليم.

ثانياً: الحرية: وهي المساحة الحقيقية التي يتمتع بها الصحافي فكرا وكتابة، وليس تلك التي تعلنها القوانين في نصوصها. ففي الكثير من الدول، لا سيما السلطوية منها، تنص القوانين على حريات واسعة، غير أن السلطات تحد منها من خلال ضغوطها وقيودها المعلنة أو المضمرة ضد هذه الحرية التي تزعج النظام، لأنها قد تكشف تجاوزات. لذلك فان غياب المساحة الكافية من الحرية للإعلاميين يعني انعدام دور حقيقي لوسائل الإعلام.

ففي الأنظمة الشمولية أو السلطوية مع اختلاف في الدرجات فيما بينها، تغيب الحرية أو تكاد تنعدم. ففي غياب الحرية تصبح وسائل الإعلام أبواقا دعائية أو على الاقل يتعذر عليها إظهار الواقع وعرض آرائها وبالتالي لا تعود تستحق اسمها إذ تفقد دورها الرئيس كقوة نقدية مشاركة في الحياة العامة، وهو الدور الذي يمنحها بحق لقب السلطة الرابعة. ومفهوم الحرية هذا لا ينفصل عن  المسؤولية. فقد أطلق مؤسس صحيفة لوموند Marie-Beuve Hubert  شعارا ملفتا تعليقا على مقولة هارولد لاسويل  الشهيرة في تصميم الرسائل الإعلامية المستنبطة من طرح الأسئلة التالية: (من يقول، ماذا يقول، باي وسيلة، لمن وبأي قصد؟)، قائلاً: «لا يمكننا ان نقول أي شيء، لأي كان، في أي مكان، في أي وقت وبأي طريقة، لان ذلك يترتب عليه انعكاسات». فالمسؤولية عند الصحفي تسبق الحرية، لأن هناك وقعاً لما يكتبه بحيث انه يتخطى الصحفي ومؤسسته ليصبح شأناً عاماً.

ثالثاً: الأخلاق الإعلامية: وهي مجموعة قيم ومبادئ خلقية وسلوكية يلتزم بها الصحافي أثناء ممارسة لعمله وكذلك تلتزم بها المؤسسة الإعلامية. وتتمثل هذه الأخلاق في قيم عامة وتقاليد وتصرفات، بعضها عام ومشترك كقيم الصدق والنزاهة والتوازن، وبعضها خاص بالمجتمعات أو بالمؤسسات. وقد باتت هذه المبادئ متجسدة في تشريعات إعلامية أو مواثيق شرف مكتوبة أقرتها اتحادات صحافيين أو مؤسسات إعلامية أو هيئات نقابية.


ما هي الأخلاق وما هي الأخلاقيات؟

لابد من التمييز بين مفهومين للسلوكيات الإعلامية: الأخلاق  والأخلاقيات. فتعبير الأخلاق يستعمل بمعنى Ethic  وهو يتناول التصرف الأخلاقي العام لأي إنسان. بينما تعبير الأخلاقيات يستعمل بمعني "ديونتولوجيا"déontologie   أي مجموعة الواجبات والإلتزامات الخاصة التي تنشأ عن ممارسة مهنة ما.

والأخلاق لغة مشتقة من لفظ  «خلق»، وجمعها أخلاق، وقد ورد اللفظ في القرآن الكريم في قوله تعالى: ]وَإنِكَّ لعَلى خُلقُ عَظِيمٍ[، سورة لقلم، الآية (4) وقوله تعالى: ﴿إنِ هَذَا إلِا خُلقُ الأوَّليِنَ)، سورة الشعراء، الآية (137). أما الخُلق (بضم الخاء وسكون اللام) لفظ يطلق على الطبع والسجية، وهو يشكل صورة الإنسان الباطنية، مثلما يشكل الخَلق (بفتح الخاء وسكون اللام) صورة الإنسان الظاهرة. ويعرف حجة الإسلام أبو حامد الغزالي الخُلق: بأنه هيئة في النفس راسخة، عنها تصدر الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة الي فكر وروية.

والأخلاق اصطلاحاً هي: علم يبحث فيما هو خير وما هو شر، ويرسم للإنسان ما ينبغي أن يعمله وما يتعين عليه تجنبه، ويدرس البواعث التي تدفعه إلى القيام بعمل بعينه في ظروف بعينها، ويحاول أن يرشده إلى المقاصد الخيرة التي يحسن به السعي في سبيلها. وأن كلمة أخلاقيات تعني: " وثيقة تحدد المعايير الأخلاقية والسلوكية المهنية المطلوب أن يتبعها أفراد جمعية مهنية، وتعرف بأنها بيان المعايير المثالية لمهنة من المهن تتبناها جماعة مهنية أو مؤسسة لتوجيه أعضائها لتحمل مسؤولياتهم المهنية.

كما أن الأخلاق هي مجموعة من القيم ينبني عليها الحكم بالصحة أو الخطأ، وهي المسؤولية المعنوية في أن تختار بشكل مقصود واختياري ما يجب أن تتبعه من القيم مثل الصحة، والخير، الحقيقة، العدالة، والفضيلة، والتي يمكن أن تؤثر علينا أو على الآخرين. وهي كذلك: مجموعة من قواعد السلوك يهتدي إليها الإنسان بفطرته السليمة، ويسترشد بها العقل في التمييز بـــين  الخير والشر، ومن امثلتها: الصدق، الوفاء، الإحسان، الإيثار. وتنطوي الأخلاق على العديد من الجوانب، مثل القانون والتعليمات، والمعايير المهنية، وحسن الخلق، والمبادئ التوجيهية للتهذيب.

وتنقسم  الأخلاق باعتبار مصدرها إلى ثلاثة أقسام:  دينية: ويسميها الفقهاء الآداب الشرعية، وعقلية، ويسميها علماء الكلام بالحسن والقبح، وغائية أي أن أخلاقية الفعل تتبع المصلحة سواء كانت هذه المصلحة لذة أم سعادة أم مجرد دعوة اجتماعية (أي عرفية) ويحصر بعض العلماء أخلاقية الفعل بما وافق الوحي والعقل السليم.

وتستند الأخلاق في وجودها ونشأتها على عدة أسس: فنجد العقيدة أولها، والعلم ثانيها، والجزاء ثالثها، والدوافع الإنسانية رابعها. وللأخلاق أهمية بالغة في حياة المجتمعات البشرية، فحياة بدون أخلاق هي حياة تعسة ولا قيمة لها، ولذلك كانت الأخلاق من أشرف العلوم الحياتية، ولذا لقبت بألقاب شريفة منها: إكليل العلوم أو ثمرة العلوم أو تاج العلوم. وللأخلاق كذلك أثر قويٌّ في بناء المجتمعات، فالمجتمعات الراشدة تعنى ببناء الأخلاق في أفرادها، أكثر من عنايتها بتشييد المباني وتنمية الثروات، لان الأخلاق صمام الأمان، والعاصم من الانحطاط والسقوط للأمم والشعوب.

إن النقص الحاصل من إهمال التهذيب أشد وطأة وأضر بالإنسان من نقص التعليم. وليست سعادة البلاد بوفرة  إيرادها، ولا بقوة حصونها، ولا بجمال مبانيها، وإنما سعادتها بعدد المهذبين من أبنائها، وبعدد الرجال ذوي الأخلاق فيها. فأهمية الأخلاق في البناء الحضاري أمر لا شك فيه. وإن الأخلاق في كل أمة مادة بنائها، وأساس تقدمها ورمز حضارتها، وثمرة عقيدتها ومبادئها. ولقد دلت التجارب الإنسانية على مدي التاريخ أن ارتقاء الأمم والشعوب في المجالات ملازم لارتقائها في سلم الأخلاق الفاضلة وأن انهيارها ملازم لانهيار أخلاقها. وأن سقوط الأمم يعود لانحطاط أخلاقها. وما أصدق ما قاله أمير الشعراء أحمد شوقي: إنما الأمم الأخلاق ما بقيت *** فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

أما الديونتولوجيا أو الأخلاقيات: فهي مجموعة الواجبات التي يحددها المهنيون في ممارسة مهنتهم. والتعبير مشتق من اليونانية ومعناه علم الواجب، أي العلم الذي يتناول الواجبات المهنية المطلوب الالتزام بها. فكما عند الصحافيين كذلك عند الأطباء والمحامين، وغيرهم. وهذه القواعد تهدف إلى تبني قيم محددة للمهنة مثل الحقيقة والنزاهة والمصلحة العامة، الحرية.

وتتناول الأخلاقيات (الديونتولوجيا) إذاً النطاق الخاص بالمهنة، بينما الأخلاق،  تتناول النطاق الشخصي للصحافي،  إننا في معالجتنا إنما نتناول الموضوع  بعموميته، أي كل ما له علاقة بسلوكيات الصحافي، ونستعمل كلمة أخلاق بمعنى عام، معتبرين أن موضوع الأخلاق الإعلامية إنما يشمل الأخلاقيات الإعلامية أيضاً. (جورج صدقة، 2008م، ص 14).

وإذا كانت الأخلاق هي مجموعة القيم والمبادئ التي تحرك الشعوب مثل العدل والمساواة والحرية؛ وتصبح مرجعية ثقافية لها وسنداً قانونياً تستقي منه دولها أنظمتها وقوانينها. فإن الأخلاقيات هي مجموعة القيم والآداب، المتعارف عليها شفاهة أو كتابةً بين أصحاب مهنة معينة، والتي يبنون عليها الأنظمة والشروط التي يعملون تحت ظلها كأخلاقيات مهنة. وهي كذلك الأسباب الكامنة وراء الأفعال الإنسانية والآداب العامة. والآداب العامة تشير لما يختاره الإنسان من قيم عملية، وتشير الأخلاقيات كذلك إلى المبادئ التي تقف وراء الأخلاق والآداب.

والأخلاقيات هي عبارة عن تعليمات وممارسات تتجمع في تشريعات أو قواعد تضعها مهنة لنفسها بنفسها، وهي ملزمة أخلاقياً ولكن ليس لها جهاز إداري أو قانوني يراقبها، ونادراً ما تكون مصحوبة بعقوبات. وهي أيضاً: مجموعة القواعد والاصول المتعارف عليها عند اصحاب المهنة الواحدة، بحيث تكون مراعاتها محافظة على المهنة وشرفها، والميثاق الأخلاقي لأي مهنة يضم القواعد المرشدة لممارسة مهنة ما للارتقاء بمثاليتها وتدعيم رسالتها.

والأخلاق المهنية هيهي مجموعة القيم والمعايير، التي يعتمدها أفراد مهنة ما، للتمييز بين ما هو جيد وما هو سيء، وبين ما هو صواب وما هو خاطئ، وبين ما هو مقبول أو غير مقبول، فهي تمثل مفهوم الصواب والخطأ في السلوك المهني، ولتحقيق ذلك يتم وضع ميثاق، يبين هذه القيم والمعايير والمبادئ وقواعد السلوك والممارسة.

وتتعدد أسماء أخلاقيات المهنة فتعرف أحيانا بأنها: أخلاق المهنة، واحياناً مواثيق الشرف المهنية، واحياناً قواعد السلوك المهني، واحياناً آداب وأخلاقيات المهنة، واخيراً وليس آخر المواثيق الأخلاقية.

مميزات أخلاقيات المهنة: تتميز أخلاقيات المهنة بعدة مميزات لعل من أبرزها واهمها ما يلي:

(1) أخلاقيات المهنة توفر إحساساً بالذاتية المهنية، وتشير إلى نضج المهنة.

(2) مواثيق الشرف المهنية تتيح للجماعة المهنية أن تعرف نفسها، وتخبر الممارسين للمهنة من هم ؟ وماذا يجب أن يقوموا به؟

(3) قواعد السلوك المهني تساهم في تشكيل صورة واضحة عن ممارسي المهنة، وتحدد ما يتوقعه منهم المجتمع.

(4) آداب وأخلاقيات المهنة، والمواثيق الأخلاقية تساعد على تحسين مستوى الأداء المهني، وتعزيز الإحساس الداخلي بالانتماء للمهنة، والحرص على كرامتها وصورتها لدى المجتمع.


هل الأخلاق طبع أم تطبع؟

ذهب بعض العلماء الي أن الاخلاق طبائع، جبل الإنسان على التحلي بها، بينما ذهب آخرون الي أنها اكتساب، يكتسبها الإنسان بالممارسة والدربة والمرونة، والصواب أن منها ما هو طبع، ومنها ما هو تطبع يأتي بمجاهدة الانسان لنفسه وحملها على مكارم الأخلاق، والطبع بلا شك أحسن من التطبع ومن حرم الخلق الحسن فإنه يمكنه أن يناله عن سبيل التطبع، وذلك بالمرونة والممارسة.

متى يكون الإعلامي ملتزماً بأخلاقيات المهنة الإعلامية:

أولاً: عندما يتجنب الإعلامي تضارب المصالح أي التعارض بين واجبه كإعلامي يلتزم بنشر الحقائق وبين أية مصلحة أخرى قد تضطره لإخفاء أي جزء من الحقيقة.

ثانياً: عندما يلتزم بالاستقامة والاستقلالية، بمعنى أن يمتنع عن ممارسة الأنشطة التي قد تشكك في استقامته واستقلاليته المهنية، أي الامتناع عن أي انتماء حزبي أو المشاركة في الدعاية السياسية أو الحزبية أو الإعلانات التجارية.

ثالثاً: عندما لا يقبل هدايا أو امتيازات من مصادره الإعلامية بهدف التأثير على استقلاليته.

رابعاً: عندما يقاوم أي ضغوطاً قد تضطره للتنازل عن أخلاقيات المهنة وأن يبلغ عنها فوراً إلى سلطة التحرير التي يتبع لها.

خامساً: عندما يمتنع عن استغلال مكانته الوظيفية أو اسم مؤسسته للحصول على مكاسب شخصية أو معاملة تفضيلية.

سادساً: عندما يمتنع عن استخدام طرقاً غير أخلاقية أو غير قانونية للحصول على معلومات مثل التصنت او العنف او الابتزاز او التهديد او الاغراء. والإعلامي الذي يلتزم بهذه المعايير هو إعلامي يلتزم بأخلاقيات الإعلام وسيتمتع بالتأكيد باحترام الجمهور له.

ونواصل الحديث حول القانون والاخلاق والحرية في مقالاتنا القادمة والله الموفق.


safeelawad@hotmail.com

 

آراء