نوستالجيا كامل عبد الماجد الأدبية
صلاح شعيب
27 February, 2023
27 February, 2023
بخلاف أيقونته الشعرية الغنائية المسماة "سيد الاسم" التي قدمها له الجابري، وأخريات كثر تنغم بها فنانون مجيدون، للأستاذ كامل عبد الماجد قصائد أدعى لمناجاة السودان القديم بدفق عاطفي شجي، وحار. ذلك لكون هذا السودان - باختصار - مثل الفردوس المفقود لجيل كامل في مقابل قتامة الراهن الاجتماعي لجيل شاب يسيطر على شارعه السياسي.
وجيلنا الذي أتى بعد كامل الذي نال الماجستير في جامعة لندن بعد خمسة عشر عاماً، أو تقل٫ يشاركه الاستحنان لتلك الأيام أيضاً، وإن لم نقف على التكنيك الكروي لقرعم، أو ود الشواطين، أو برعي القانون الذين شاهدهم كامل عن قرب، أو عن جد كما يقول الشوام.
فتلميذ مثلي كان في ابتدائية منتصف السبعينات خبر آخر خيرات تلك الأعوام، ويتذكر أدق تفاصيلها. فالمدرسة غير داخلية - ومع ذلك - تقدم لنا طوال الأعوام الستة وجبة إفطار دسمة. ولما كنا في أولى يُعاد صفنا المنظم ليضاعف لنا الناظر المتابع الوجبة لو استكفيت الفصول الستة. كنا بعد الإفطار نحصل على كوب لبن يعادل رطلاً تقريباً، وتمنحنا التربية والتعليم كراسات، وكتاباً لكل تلميذ، وأقلام رصاص، ومحابر، كل ذلك مجاناً. ولدينا فريق كرة قدم، وآخر للطائرة، ومناشط ثقافية على مدار السنة بإشراف منضبط لمعلمين كانوا كمثل الأنببياء.
نوستالجيا كامل الشعرية٫ أو حنينه للماضي٫ ليست بدعاً لأن تكون "الزمان الزاهي مر" مجرد يتيمية. فأساتذتنا أمثال مهدي أمين التوم، وإبراهيم الكرسني، وصديق محيسي، وعبد السلام نور الدين، وجعفر كرار، وشوقي بدري٫ وعمرو عباس٫ وكوكبة من الرموز تلحظهم يذكرون الأجيال الحالية بذلك السودان الستيني، والسبعيني الذي يرون أنه كان متميزاً بخدمته المدنية، على الأقل. إذ هناك دقة البريد وسرعته، وانضباط مواعيد القطار، ومشروع الري المنتظم البديع في الجزيرة، وعشرات البواخر، ورقي سودانير، والأغنية المتطورة في كل شهر، وضيافة الفندق الكبير المستحسنة، وغسيل شوارع الخرطوم ليلاً، وانتظام الموسم المسرحي، وفوزنا بكأس أفريقيا. الدبلوماسية حتى تكون مستدعاة بمهنية صارمة لهاشم عثمان، أو منصور خالد، أو بشير البكري رغم الديكتاتورية. وهكذا هناك مدى خيالي واسع لاستدعاء الذاكرة المجتمعية الماضية لجيل كامل - وربما ما قبله - بتفاصيل مدهشة لما كان عليه السودان القديم من عصر ذهبي، والذي يرى مفكرون سودانيون أن الحد الفاصل بينه والسودان الجديد - كمقابل موضوعي - كان تطبيق جعفر النميري لما سماها قوانين الشريعة الإسلامية في عام ١٩٨٣، وآخرون يرون أن التدهور بدأ منذ بداية مايو. أما المتشددون في الحكم فيربطون حدوث القطيعة مع سودان الرفاهية بسنوات قليلة بعد الاستقلال.
-٢-
في مقابل السودان المجتمعي القديم يُثار باستمرار - قبل وبعد انفصال الجنوب - موضوع السودان الجديد في الجدل السياسي بوصفه ضرورة ما تزال لهيكلة فعل الدولة في بلادنا للمحافظة على وحدتها. ولكن هذه التبيئة السياسية التي بذلها جون قرنق للتفكير الثقافي في علاقته بالسلطة هي إعادة إنتاج للواء الأبيض، والمدارس الفكرية، بقناني جديدة أكثر من كونها اختراقاً فكرياً أصيلاً في بنية الصراع التاريخي بين المركز وهامش مناطق النزاع. فدراسة خطاب السودان الجديد ببعده التحليلي الثقافي قد يصطدم مع نوستالجاليا جيل كامل، وبقية المدارس السياسية الفكرية في اليمين، واليسار التي تعتمد على افتراض تاريخانية الصراع. إذ لا تقول بجغرافيته٫ والمعنى يتمثل في التحام قضايانا بأسباب الصيرورة الاجتماعية الطبقية، ودور الاستعمار في حقن العلمانية، واستنزاف الموارد، وتقسيم المقسم، في صلب المشروع السياسي لدولة كتشنر. ذلك ما يعني أن سودان كامل القديم المنهار عند تفحصه لم يقم على مشروع مانع جامع للدولة، وإنما أملته استمرارية حالة وراثة الأفندية لدولة الاستعمار حتى وصلنا إلى اضمحلال أركانها الأربعة المتمثلة في شوكة القوات المسلحة، وحرفية الخدمة المدنية، وريعها الاقتصادي المتين، وسيطرة الإعلام الرسمي والخاص لتنميط المجتمع بشكل كامل.
أحد غلاة العربسلاموية سخر مرة بعد سلام نيفاشا من ما سماه ابتزاز الجنوبيين بأطروحة السودان الجديد من حيث إنها شرط للوحدة فقال موجهاً حديثه للشماليين في الحركة: "راح ترجعوا لينا الجنيه لدولاراتو التلاتة يعني. عيبو لي السودان القديم". وبرغم آن الأطروحة لم تكن لتملك القدرة لإعادة عقارب الساعة للوراء فإن هدفها المتمثل في تحقيق وحدة البلاد على أسس جديدة ما وقعت عند الرجل إلا كفكرة عاجزة عن الاتيان بما لم يستطعه الأوائل.
-٣-
إذا رجعنا لكتاب الأفندية للدكتور خالد الكد، وخطابات الأستاذ محمود محمد طه، ومفكرين إصلاحيين مستقلين ما بعد الاستقلال، نلاحظ أن جيل كامل التكنوقراطي حمل فناء دوره في جوفه، وفقاً لما يقولون. فلو أن كاملاً، وبقية الأساتذة المذكورين عاليه، مستثنون بدورهم الصادق في تقنين، ونقد، الدولة المركزية باستمرار حتى لا يتسرب من بين أيديها سودانها المجتمعي المتضام، والمتطور نسبياً، فإن مقابل ذلك أن الافندية حين يستدعون النوستالجيا ينبغي أن ينفذ خطابهم الشعري، أو السياسي، إلى دراسة الأسباب التي غيبت الكاريزمات السياسية، والفكرية، والثقافية، والفنية، والرياضية، مثل د. حليم، وهاشم ضيف الله، ومحمد كرار النور، لننتهي إلى الكاردينال، وآدم سوداكال، وبرقو.
صحيح أن أستاذ كامل في قصيده النوستالجي ليس مطالباً ضرورةً بدراسة ما نجم خطأً في تجربة دولة ما بعد الاستقلال. ولا يحق من ناحية أخرى قراءة الأدب في كل مرة بمرجعيات سياسية فقط. ولكن الأديب الحق ليس محايداً حتى لو تناول الموضوع العاطفي ذلك لأنه يصدر من تركيبة فكرية معقدة من المفاهيم، والتصورات، لهذه العاطفة سواء كان التناول بخلفية الحق، والخير، والجمال، أو بصورة المدرسة الأدبية العبثية لصامويل بيكيت.
الأحوال في بلادنا تسير دائما للوراء. ففي اللحظة التي كان جيل كامل يتنعم بخرطومه البهية ربما كان هناك واحد من جيل الاستقلال ينعي زمان الإنجليز. ولماذا نذهب بعيداً؟ فمقولة "ضيعناك ورحنا معاك" التي قيلت بعد انقضاء أجل عبود تحكي عن نوستالجيا عن زمن مضى ثم خلفه خراب مظنون في الستينات. هل يمكن قياس فترات الرفاهية النسبية في بلادنا بقوة عملتها الوطنية؟ ففي وقت كان فيه الدولار يعادل ثلاثة من الجنيهات كان وضعها يمثل "بحبوبة" للأفندية. وحينما تدنى الجنيه قبل أن يسعى الترابي لإنقاذه كما زعم ممثله العقيد صلاح كرار كانت أوضاع ما قبل الانقلاب مغرية لأي نوستالجي الان ليؤلف قصيدة قافيتها تؤكد بأن الفرق الحادث بين الخدمات التي تقدمها دولة الصادق ودولة البشير في أيامها الاخيرة هو فرق السماء والأرض. غير أننا عثرنا على إسلاميين نوستالجيين يحنون إلى زمن البشير - وربما خبزه - كون أن البلاد اختطفها حميدتي الذي كأنه هبط إلينا فجأةً من القمر. كامل التضامن مع الشاعر الرقيق كامل٫ وهو يحن إلى خصب حياته الباكرة. ومع ذلك التحية لكل نوستالجي لا ينسى عذابات المتضررين من الماضي الجميل.
suanajok@gmail.com
وجيلنا الذي أتى بعد كامل الذي نال الماجستير في جامعة لندن بعد خمسة عشر عاماً، أو تقل٫ يشاركه الاستحنان لتلك الأيام أيضاً، وإن لم نقف على التكنيك الكروي لقرعم، أو ود الشواطين، أو برعي القانون الذين شاهدهم كامل عن قرب، أو عن جد كما يقول الشوام.
فتلميذ مثلي كان في ابتدائية منتصف السبعينات خبر آخر خيرات تلك الأعوام، ويتذكر أدق تفاصيلها. فالمدرسة غير داخلية - ومع ذلك - تقدم لنا طوال الأعوام الستة وجبة إفطار دسمة. ولما كنا في أولى يُعاد صفنا المنظم ليضاعف لنا الناظر المتابع الوجبة لو استكفيت الفصول الستة. كنا بعد الإفطار نحصل على كوب لبن يعادل رطلاً تقريباً، وتمنحنا التربية والتعليم كراسات، وكتاباً لكل تلميذ، وأقلام رصاص، ومحابر، كل ذلك مجاناً. ولدينا فريق كرة قدم، وآخر للطائرة، ومناشط ثقافية على مدار السنة بإشراف منضبط لمعلمين كانوا كمثل الأنببياء.
نوستالجيا كامل الشعرية٫ أو حنينه للماضي٫ ليست بدعاً لأن تكون "الزمان الزاهي مر" مجرد يتيمية. فأساتذتنا أمثال مهدي أمين التوم، وإبراهيم الكرسني، وصديق محيسي، وعبد السلام نور الدين، وجعفر كرار، وشوقي بدري٫ وعمرو عباس٫ وكوكبة من الرموز تلحظهم يذكرون الأجيال الحالية بذلك السودان الستيني، والسبعيني الذي يرون أنه كان متميزاً بخدمته المدنية، على الأقل. إذ هناك دقة البريد وسرعته، وانضباط مواعيد القطار، ومشروع الري المنتظم البديع في الجزيرة، وعشرات البواخر، ورقي سودانير، والأغنية المتطورة في كل شهر، وضيافة الفندق الكبير المستحسنة، وغسيل شوارع الخرطوم ليلاً، وانتظام الموسم المسرحي، وفوزنا بكأس أفريقيا. الدبلوماسية حتى تكون مستدعاة بمهنية صارمة لهاشم عثمان، أو منصور خالد، أو بشير البكري رغم الديكتاتورية. وهكذا هناك مدى خيالي واسع لاستدعاء الذاكرة المجتمعية الماضية لجيل كامل - وربما ما قبله - بتفاصيل مدهشة لما كان عليه السودان القديم من عصر ذهبي، والذي يرى مفكرون سودانيون أن الحد الفاصل بينه والسودان الجديد - كمقابل موضوعي - كان تطبيق جعفر النميري لما سماها قوانين الشريعة الإسلامية في عام ١٩٨٣، وآخرون يرون أن التدهور بدأ منذ بداية مايو. أما المتشددون في الحكم فيربطون حدوث القطيعة مع سودان الرفاهية بسنوات قليلة بعد الاستقلال.
-٢-
في مقابل السودان المجتمعي القديم يُثار باستمرار - قبل وبعد انفصال الجنوب - موضوع السودان الجديد في الجدل السياسي بوصفه ضرورة ما تزال لهيكلة فعل الدولة في بلادنا للمحافظة على وحدتها. ولكن هذه التبيئة السياسية التي بذلها جون قرنق للتفكير الثقافي في علاقته بالسلطة هي إعادة إنتاج للواء الأبيض، والمدارس الفكرية، بقناني جديدة أكثر من كونها اختراقاً فكرياً أصيلاً في بنية الصراع التاريخي بين المركز وهامش مناطق النزاع. فدراسة خطاب السودان الجديد ببعده التحليلي الثقافي قد يصطدم مع نوستالجاليا جيل كامل، وبقية المدارس السياسية الفكرية في اليمين، واليسار التي تعتمد على افتراض تاريخانية الصراع. إذ لا تقول بجغرافيته٫ والمعنى يتمثل في التحام قضايانا بأسباب الصيرورة الاجتماعية الطبقية، ودور الاستعمار في حقن العلمانية، واستنزاف الموارد، وتقسيم المقسم، في صلب المشروع السياسي لدولة كتشنر. ذلك ما يعني أن سودان كامل القديم المنهار عند تفحصه لم يقم على مشروع مانع جامع للدولة، وإنما أملته استمرارية حالة وراثة الأفندية لدولة الاستعمار حتى وصلنا إلى اضمحلال أركانها الأربعة المتمثلة في شوكة القوات المسلحة، وحرفية الخدمة المدنية، وريعها الاقتصادي المتين، وسيطرة الإعلام الرسمي والخاص لتنميط المجتمع بشكل كامل.
أحد غلاة العربسلاموية سخر مرة بعد سلام نيفاشا من ما سماه ابتزاز الجنوبيين بأطروحة السودان الجديد من حيث إنها شرط للوحدة فقال موجهاً حديثه للشماليين في الحركة: "راح ترجعوا لينا الجنيه لدولاراتو التلاتة يعني. عيبو لي السودان القديم". وبرغم آن الأطروحة لم تكن لتملك القدرة لإعادة عقارب الساعة للوراء فإن هدفها المتمثل في تحقيق وحدة البلاد على أسس جديدة ما وقعت عند الرجل إلا كفكرة عاجزة عن الاتيان بما لم يستطعه الأوائل.
-٣-
إذا رجعنا لكتاب الأفندية للدكتور خالد الكد، وخطابات الأستاذ محمود محمد طه، ومفكرين إصلاحيين مستقلين ما بعد الاستقلال، نلاحظ أن جيل كامل التكنوقراطي حمل فناء دوره في جوفه، وفقاً لما يقولون. فلو أن كاملاً، وبقية الأساتذة المذكورين عاليه، مستثنون بدورهم الصادق في تقنين، ونقد، الدولة المركزية باستمرار حتى لا يتسرب من بين أيديها سودانها المجتمعي المتضام، والمتطور نسبياً، فإن مقابل ذلك أن الافندية حين يستدعون النوستالجيا ينبغي أن ينفذ خطابهم الشعري، أو السياسي، إلى دراسة الأسباب التي غيبت الكاريزمات السياسية، والفكرية، والثقافية، والفنية، والرياضية، مثل د. حليم، وهاشم ضيف الله، ومحمد كرار النور، لننتهي إلى الكاردينال، وآدم سوداكال، وبرقو.
صحيح أن أستاذ كامل في قصيده النوستالجي ليس مطالباً ضرورةً بدراسة ما نجم خطأً في تجربة دولة ما بعد الاستقلال. ولا يحق من ناحية أخرى قراءة الأدب في كل مرة بمرجعيات سياسية فقط. ولكن الأديب الحق ليس محايداً حتى لو تناول الموضوع العاطفي ذلك لأنه يصدر من تركيبة فكرية معقدة من المفاهيم، والتصورات، لهذه العاطفة سواء كان التناول بخلفية الحق، والخير، والجمال، أو بصورة المدرسة الأدبية العبثية لصامويل بيكيت.
الأحوال في بلادنا تسير دائما للوراء. ففي اللحظة التي كان جيل كامل يتنعم بخرطومه البهية ربما كان هناك واحد من جيل الاستقلال ينعي زمان الإنجليز. ولماذا نذهب بعيداً؟ فمقولة "ضيعناك ورحنا معاك" التي قيلت بعد انقضاء أجل عبود تحكي عن نوستالجيا عن زمن مضى ثم خلفه خراب مظنون في الستينات. هل يمكن قياس فترات الرفاهية النسبية في بلادنا بقوة عملتها الوطنية؟ ففي وقت كان فيه الدولار يعادل ثلاثة من الجنيهات كان وضعها يمثل "بحبوبة" للأفندية. وحينما تدنى الجنيه قبل أن يسعى الترابي لإنقاذه كما زعم ممثله العقيد صلاح كرار كانت أوضاع ما قبل الانقلاب مغرية لأي نوستالجي الان ليؤلف قصيدة قافيتها تؤكد بأن الفرق الحادث بين الخدمات التي تقدمها دولة الصادق ودولة البشير في أيامها الاخيرة هو فرق السماء والأرض. غير أننا عثرنا على إسلاميين نوستالجيين يحنون إلى زمن البشير - وربما خبزه - كون أن البلاد اختطفها حميدتي الذي كأنه هبط إلينا فجأةً من القمر. كامل التضامن مع الشاعر الرقيق كامل٫ وهو يحن إلى خصب حياته الباكرة. ومع ذلك التحية لكل نوستالجي لا ينسى عذابات المتضررين من الماضي الجميل.
suanajok@gmail.com