هكذا عاش ورحل محجوب

 


 

د. زهير السراج
14 February, 2024

 

زهير السراج

manazzeer@yahoo.com

رحل عن عالمنا اليوم استاذنا وعميد الصحافة السودانية واحد رموز الصحافة في العالم والمناضل الجسور منذ صباه الباكر ضد الاستعمار البريطاني والانظمة الدكتاتورية والظلم، والوطني الشفيف الاستاذ (محجوب محمد صالح) رئيس تحرير جريدة الايام ومدير مركز الايام للدراسات الثقافية والتنمية الذي افنى عمره في خدمة الوطن والصحافة ولم يبخل عليهما بفكره الواسع وقلمه الجرئ ومقالاته التي تتفجر ينابيعا من الحق والحكمة والصراحة والشجاعة عبر عموده الاكثر شهرة في الصحافة السودانية والعربية (اصوات واصداء) الذي اسهم بقدر كبير في رفع درجة الوعى وتنوير الرأى العام ومناهضة الظلم ومكافحة الفساد في السودان وتعريف العالم بقضايا الانسان السوداني والدفاع عن حقوقه مما اهله للحصول على العديد من الجوائز العالمية في مجال العمل الصحفي وحقوق الانسان منها جائزة مؤسسة فردريش آيبرت لحقوق الانسان في عام ٢٠٠٤ بالمشاركة مع السياسي الحاذق والقاضي البارع والمحامي الكبير مولانا (ابل ألير) وجائزة القلم الذهبي في عام ٢٠٠٥ من الجمعية العالمية للصحف ومقرها باريس وجائزة نايت والمركز العالمي الصحفي بواشنطن في عام ٢٠٠٦، كما حصل على الدكتوراة الفخرية في الاداب من جامعة الزعيم الازهري في نفس العام وعلى الدكتوراة الفخرية من جامعة الاحفاد للبنات في عام ٢٠١٢، واختاره مجلس امناء جائزة الطيب صالح العالمية للابداع الكتابي شخصية العام في عام ٢٠١٣ وغيرها من الجوائز الوطنية والعالمية.

ولد الاستاذ محجوب في عام ١٩٢٨ بمدينة الخرطوم بحري وتلقى فيها دراسته الاولية والوسطي والتحق بكلية الخرطوم الجامعية في عام ١٩٤٧ والتي كان فيها سكرتيرا للطلاب ولقد شهدت الفترة التي تولى فيها السكرتارية نضالا مستعرا ضد الاستعمار البريطاني مما ادى لفصله.

بدا الاستاذ محجوب حياته العملية في صحيفة سودان ستار الناطقة باللغة الانجليزية في عام ١٩٤٩، والتحق بعدها بصحيفة السودان الجديد قبل ان يؤسس مع الاستاذين بشير محمد سعيد ومحجوب عثمان صحيفة الايام التي صدر اول اعدادها في الثالث من اكتوبر ١٩٥٣ وعمل مدير لتحريرها قبل ان يصبح رئيسا للتحرير بعد وفاة الاستاذ بشير محمد سعيد وظل رئيسا لتحريرها حتى وفاته.

ولقد ظلت الصحيفة تتعرض للعقوبات والايقافات بسبب جرأتها في مكافحة الدكتاتورية وتعرية الفساد والوقوف مع قضايا المواطنين، خلال الحقبة الاستعمارية والحقبة العسكرية الاولى وتعرضت للنزع من اصحابها في الحقبة العسكرية الثانية، قبل ان تعود اليهم بعد ثورة ابريل ١٩٨٥ واحتلت المركز الاول في التوزيع الذي تجاوز المائة وخمسين الف نسخة يوميا خلال سنوات الديمقراطية من ١٩٨٥ وحتى ١٩٨٩، وظلت تتصدر الصحف وتناضل من اجل قضايا المواطنين حتى اوقفت عن الصدور بعد انقلاب الجبهة الاسلامية في يونيو ١٩٨٩، قبل ان تعود الى الصدور في بداية الالفية الثانية، ولقد كان لى شرف العمل بها وكتابة عمودي (مناظير) بالصفحة الاخيرة والذي تسبب للاستاذ محجوب في الكثير من الاستدعاءات الامنية والاعتقالات والمحاكمات ولكن لم يحدث ابدا انه تذمر او شكا او اعترض على كتاباتي، بل ظل يشجعني ويحثني على الكتابة وتعرية فساد نظام الحركة الاسلامية والجرائم والانتهاكات التي ظل يمارسها طيلة فترة حكمه.

اذكر انني كنت احد الصحفيين الذين دعوا لحضور ندوة لمدير جهاز الامن (صلاح قوش) بمقر الجهاز خلال عام ٢٠٠٢ (وكان الاستاذ محجوب حاضرا ايضا) تحدث فيها عن جهاز الامن واقسامه وتخصصاته واعماله، وقال انهم قرروا التخلى عن السرية وتعريف الرأى العام بما يقدمونه من خدمات امنية لصالح الدولة لا يعرف الناس عنها شيئا، وسمح للصحفيين بنقل ما قاله للرأى العام (لانهم لا يفعلون شيئا يخافون منه)، فكتبت عدة مقالات تحت عنوان (اسرار جهاز الامن) في عمودي بالصحيفة، وما ان نشر المقال الثاني حتى اتصل مدير ادارة الصحافة بجهاز الامن العميد (محمد حامد تبيدي) بالاستاذ محجوب طالبا وقف المقالات فرفض الاستاذ محجوب وقال له انه لا يتلقى اوامر من احد واذا اراد جهاز الامن ايقاف تدفق الاسرار والمعلومات التي انشرها فليوقف الصحيفة ولكنه لن يوقف نشر المقالات، وظلت المقالات تنشر حتى اكتملت وبلغ عددها خمسة مقالات نشرت تباعا واحدثت الكثير من الضجة انذاك، ووصلنا ان صلاح قوش علق عليها بانه لو كان يعرف انني وصحيفة الايام سنتجرأ بنشر ما قاله لما قدم لنا الدعوة بالحضور او قال ما قاله او سمح بنشره، وهدد بمعاقبتنا وهو ما حدث لاحقا بالبلاغات والاعتقالات والمحاكمات في قضايا ومواضيع اخرى، ولكن لم يثن ذلك الاستاذ محجوب عن عهده الذي عرفناه عنه بالصدع بالحق والدفاع عن قضايا المواطنين ومكافحة الدكتاتورية والفساد والظلم، وهكذا كان طيلة حياته التي امتدت لفترة ٩٦ عاما قضاها كلها في الدفاع عن الانسان السوداني حتى وفاته ظهيرة اليوم الثالث عشر من شهر فبراير عام ٢٠٢٤ بالعاصمة المصرية القاهرة التي انتقل للاقامة بها بعد اندلاع الحرب العبثية في السودان في ١٥ ابريل ٢٠٢٣، وظل ناقدا لها ومطالبا بايقافها وحماية الوطن والشعب من شرورها وتدعياتها الخطيرة كعهده دائما في الدفاع عن السودان والانسان السوداني.

لم تقتصر مساهمات الاستاذ محجوب على العمل الصحفي فقط، ولكنها شملت مئات بل الاف الدراسات والمحاضرات والندوات المكتوبة وغير المكتوبة عن السودان وقضاياه المتشعبة والمعقدة والمستمرة، كما له العديد من المؤلفات البارزة منها تاريخ الصحافة السودانية في نصف قرن، اضواء على قضية الجنوب، مستقبل الديمقراطية في السودان، دراسات عن الدستور السوداني (الجزء الاول)، دراسات عن الدستور السوداني (الجزء الثاني) وغيرها.

فقدنا بوفاة الاستاذ محجوب .. النور الذي كان ينير لنا ولغيرنا طريق النضال، ويغرس فينا قيم الحرية والديمقراطية والدفاع عن حقوق الانسان السوداني ومحبة السودان. ومن اجله تذرف الدموع السخينة كما تذرف على الوطن والشعب الذي انجبه واحبه واخلص له ورحل عنه وهو يعاني من ويلات حرب عبثية فرضت عليه وقتلته وشردته وقهرته، ولكن لن يفت ذلك في عضده وسيظل صامدا ومتمسكا بثوريته ونضاله والمبادئ المغروسة في جيناته، وهو حتما سينتصر ويعود ليعمر وطنه من جديد ويكتب صفحة اخرى من صفحات المجد الذي يليق به، كما سيبقى الاستاذ محجوب خالدا في ذاكرة الشعب الذي لن ينساه ابدا وسيظل يتمسك بالمبادئ والقيم التي زرعها فيه.

رحم الله الاستاذ محجوب رحمة واسعة واسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن اولئك رفيقا، وألهمنا واسرته وابناءه واصدقاءه وتلاميذه وقراءه والشعب الذي انجبه واحبه.. الصبر وحسن العزاء. خالص التعازي القلبية لابنائه عادل ونادر ووائل وسامر وابنته سوسن، ولصديق عمره وصفيه استاذنا الجليل بروفيسور (على شمو) اطال الله عمره وافادنا من علمه الغزير. انا لله وانا اليه راجعون.

 

آراء