هل تعود صحافة التعبير بالحذاء للواجهة ؟! … (2من 2)

 


 

 

(مدارات وأجراس)

اعتذار الصحفية صفاء الفحل، خطوة فى الاتجاه الصحيح .
واجبنا فى الصحافة، احترام الكرامة الإنسانية، وتشجيع ثقافة الاعتذار، والتمسُّك الصارم بقيم ومعايير الصحافة الأخلاقية !.

مدار أوّل:
"إذا ما كُنت ذا فضلٍ وعِلمِ ... بما اختلف الأوائِلُ والأواخِر ... فناظِر من تُناظِرُ فى سُكونٍ ... حليماً، لا تلِحُّ ولا تُكابِر" ((الإمام الشافعي))
-10 -
تقول – وتؤكّد - الواقعة المشهودة، والحكاية والرواية الموثّقة، فى مقاطع (فيديو) واضحة المعالم، بعد أن عرّفت الصحفية صفاء عثمان الفحل عن نفسها، وجِهة عملها، فى المؤتمر الصحفي الذي عقدته يوم 5 أبريل، بوكالة سونا للأنباء، بالخرطوم مجموعة (الحرية والتغيير – الميثاق الوطني)، الداعمة للشراكة مع سلطة انقلاب 25 أكتوبر 2021، فاجأت – صفاء – الجميع، بقولها : "بصراحة أنا ما عندي سؤال، لكن عندي رسالة دايرة أوّصلها للتوم هجو، من الشعب السوداني" !... ثُمّ قذفت بحذاءها - وبسرعة البرق - فى اتجاهه، واتجاه من يجلسون معه، فى المنصّة الرئيسية، و"حدث ما حدث" !.
-11-
تلقّف جار السيد التوم فى المنصّة، الحذاء، ووضعه بجانبه على الأرض - رُبّما - كـ"معروضات"، وعلّق على وجه السرعة، السيد مبارك أردول - الذي كان يجلس على يمين التوم هجو- بعبارة مُقتضبة قائلاً :"الرسالة وصلت" !، فيما احتفظ السيد التوم هجو بهدوئه، مكتفياً بإبتسامة عريضة، خرجت بصعوبة، وعبارة سرت عبر المايكرفون، بصوتٍ خافِت "خلّوها" ! (الفيديو متواجد بكثافة فى الميديا الإجتماعية)، والتعليقات – من كل جنسٍ ونوع - موجودة فى العديد من وسائط التواصل الإجتماعي، وما أدراكما التواصل الإجتماعي، وردود الفعل على الحاثة، مبذولة بكثافة فى الصحافة التقليدية، وغير التقليدية، وربّما تتبعها بمرورالزمن، تعليقات، واستطرادات، وكتابات - كثيرة أو قليلة، لا فرق - تتوزّع بين الاحتفاء والإشادة، والرفض والإدانة !.
-12-
مرّت ساعات طويلة، ضجّت فيها الأسافير، بحادثة التعبير الصحفي عن الرأي بـ(الحذاء)، رُبّما، لكونها الحادثة الأولي "الموثّقة"، من نوعها سودانيّاً، وانقسم الناس حولها، وبخاصةً فى مجتمع الفيسبوك والواتساب العريض، بين التاييد واظهار الغبطة، و"الشماتة" فى المقذوف بـ(النعال)، بل، ذهب البعض، لتصوير الحدث، بأنّه "بطولة"، وبين الإعتراض، والنقد البنّاء، والموضوعي للسلوك المرفوض، وتباينت الآراء والمواقف بين أصحاب وصاحبات المعسكرين، فيما اعتصمت مجموعة ثالثة، بالصمت الذي ليس فيه "كلام"، و"الطناش"، وكأنّ الأمر لا يعنيها فى شيء – من بعيدٍ أو قريب - وآثرت مجموعات أُخر، الاختفاء والاختباء تحت لافتة الـ(حياد)، فى أمرٍ لا يُمكن الحياد فيه، وفق معايير "الأتيكيت" والذوق السليم، والمهم والأهم قيم ومفاهيم الصحافة النظيفة !.
-13 -
بين هذا، وذاك، بدأت تحرُّكات عاجلة وسريعة فى المجتمع الصحفي، ورموزه المعروفة، انتبهت لضرورة وأهميّة ضمان السلامة الشخصية للصحفية صفاء، وعدم تعرُّضها لأيّ شكلٍ من أشكال العنف خارج القانون، أو نزعات الانتقام، أو حملات "التنمُّر"، ونبّهت لحمايتها من أيّ شكل من أشكال العُنف خارج القانون، ومكائد الأذي، والإيذاء النفسي والبدني، فيما، تداولت الأسافير روايات وقصص تحكي عن اختفاء الصحفية صفاء "قسريّاً"، بينما ظلّ هاتفها مُغلقاً !.
-14-
دخلت اللجنة التمهيدية للصحفيين الخط، بالسرعة المطلوبة، وأصدرت لجنتها الإعلامية تصريحاً صحفياً مقتضباً، يستجيب للوضع الراهن بمهنيّةٍ عالية، وظلّت قيادة النقابة، تتابع الموقف بصورة لصيقة - (نص التصريح الصحفي موجود فى الأسافير، وهو بتاريخ 5 أبريل 2022) - وهبّ المحامون، وانتظمت المحاميات، فى جهود البحث عن الصحفية "المفقودة"، ولتقديم العون القانوني المطلوب للصحفية صفاء الفحل، وفى البال والذاكرة، تجربة العنف الذي تعرّض له الصحفي العراقي مُنتظر الزيدي، الذي قذف بجوزي حذائه الرئيس الأميريكي جورج دبيلو بوش، فى مؤتمره الصحفي، ببغداد، بتاريخ 14 ديسمبر 2008.
-15 -
وانتهت – بعد ساعات - الحكاية والرواية، بأخبار "عاجلة"، مفادها اطلاق سراح الصحفية صفاء الفحل بالضمان، بعد أن قُيّد فى مواجهتها بلاغ تحت المادّتين (76 و77) من القانون الجنائي السوداني، لسنة 1991.. وهما على التوالي: ((الاخلال بالالتزام القانوني تجاه شخصٍ عاجز)) و((الإزعاج العام)) .. وتُقرأ المادة 76 ((من يكون مكلّفاً بمقتضي التزام قانوني برعاية أيّ شخص عاجز بسبب صِغر سنّه أو اختلال قواه العقلية أو النفسية أو مرضه أو ضعفه الجسمي، ويمتنع قصداً عن القيام بذلك الالتزام، يُعاقب بالسجن مُدّة لا تجاوز ستّة أشهر، أو بالغرامة، أو بالعقوبيتين معاً)) وتُقرأ المادة 77 (( "1" – يُعد مرتكباً جريمة الازعاج العام من يقع منه فعل يُحتمل أن يسبب ضرراً عاماً أو خطراً أو مُضايقة للجمهور، أو لمن يسكنون أو يشغلون مكاناً مجاوراً أو لمن يباشرون حقّاً من الحقوق العامة – "2" – يجوز للمحكمة اصدار أمر للجاني بايقاف الازعاج وعدم تكراره، إذا رأت ذلك مناسباً، كما يجوز لها مُعاقبته بالسجن مُدّة لا تجاوز ثلاثة أشهر، أو بالغرامة، أو بالعقوبيتين معاً)).
-16 -
ثمّ، تبع ذلك بفترة - وجيزة - ظهور الصحفية صفاء، فى (فيديو) آخر"مُسجل"، تُعلن فيه، وعبره، بشجاعة نادرة المثيل (اعتذارها) عمّا بدر منها فى المؤتمر الصحفي، وقالت فى التسجيل، وبالحرف الواحد : " السلام عليكم.. أنا صفاء الفحل، صحفية.. آآآآآ، أنا اليوم حضرت لي مؤتمر صحفي فى سونا، وبدر منّي إنّو ...آآآآ، يعني، شالتني (الهاشمية) أوالروح الثورية، يعني، إنو أنا رفعت الجزمة، لي دكتور هجو.آآآآ، فنحن دي ما الحرية والسلام والعدالة، النحن بنطالب بيهم.. وأنا بعتذر لكل الزملاء الكانو موجودين، وكل الضيوف الكانوا موجودين، وبعتذر للمنصة، وبعتذر للتوم هجو، كزول، كعُمُر" ((الفيديو موجود فى الأسافير)) !.
-17-
هذا الاعتذار الواضح والصريح والجريء، قلب الموازين فى الموقف من حالة التعبير الصحفي عبر القذف بـ(النعال)، وهو خطوة فى الاتجاه الصحيح، وهذا، ما يجعل كاتب هذا المقال، يُنبّه لـ(ثقافة الاعتذار)، وهي (ثقافة) ينبغي، ويتوجّب علينا، تكريسها وتعزيزها فى مجتمعنا العام، والمجتمع المدني، ومجتمعنا الصحفي، على وجه الخصوص!، إذ من الممكن، والمُحتمل، إن يُخطيء المرء – رجلاً كان أم إمرأة - ولكن، من غيرالمقبول، الاصرار على الخطأ، أو التمادي فيه، أو تشجيعه أو الاحتفاء به، وهاهي الصحفية صفاء، "تقطع قول كل خطيب/ة"، وتضرب المثل، بإعتذارها العلني، عمّا اعتبرته سلوكاً خاطئاً صدر منها فى حالة "هاشمية"، وتقوم بالاعتذار العلني، وهذا، ممّا يُحمد لهذه الصحفية الشابّة، وهي فى بدايات مشوارها الصحفي !. فمن مكرمات ثقافة الاعتذار تعزيز الثقة فى النفس، واعادة كرامة الشخص الآخر، ورد الاعتبار له ولكرامته الإنسانية.
-18-
ليس من مهام هذا المقال تقصّي الأسباب والنتائج التي تترتّب عليها مسألة لجوء المواطنين عموماً، والمواطنين الصحفيين، والصحفيين والصحفيات "المحترفين" – على وجه الدقّة والتحديد - للتعبير عن مشاعرهم/ن، وآرائهم/ن المختلفة تجاه الآخر، والمختلف، عبر أشكال عنيفة، بما في ذلك، قذف منصّات المؤتمرات الصحفية والجالسين فيها، بالأحذية!
-19 -
ولسنا – هنا - بصدد إجراء تشبيهات ومُقارنات بين ظروف وملابسات حادثة رمي حذاء مُنتظر الزيدي، للسيد جورج بوش، وحادثة رمي حذاء صفاء الفحل، للسيد التوم هجو وصحبه، بقدرما يهمّنا فى هذا المقام، التنبيه لمعايير وقيم الصحافة الاخلاقية واخلاقيات الصحافة، والموقف من السلوك الصحفي، فى حالات الغضب والحزن، وحالات الفرح والإطمئنان والإرتياح والإنشراح، وفى البال أنّ فكرة، وظاهرة، "القذف بالأحذية"، لم تهبط من السماء، ولكنّها، بعض من سلوكيات مجتمعية غريبة – يجب أن تواجه بالرفض الواضح والصريح – لكونها تُحط من الكرامة الإنسانية، رُغم ما يُقال من أنّها عادة "مُتجذّرة" فى المجتمع العراقي، وبالطبع، لا يخلو السودان، من مجتمعات - ظلّت وما زالت - تمارس نفس السلوك المشين، عند الغضب، والأخطر – بلا شك – أن تدخل مثل هذه اللغة، قاموس التعبير الصحفي !.
-20 -
نقول هذا، دون أن نقع فى فخاخ التبرير والتحيُّز والتمييز، وتشجيع، وممارسة خطاب الكراهية، و"التعبير العنيف"، وننطلق فى كل هذا وذاك، من قناعاتنا الراسخة فى أهمية حرية التعبير، وحمايتها، والدفاع عنها، وفق مبدأ حريّة التعبير وحرية الصحافة، المكفول فى المواثيق الدولية والإقليمية، بعيداً عن ارتكاب جريمة الصمت أو شبهة التواطؤ فى تمرير أيّ ممارسات حاطة بالكرامة الإنسانية، وداعية للـ"تنمُّر" على الآخرين والأُخريات، وغيرها من السلوكيات، ممّا تجرِّمه وتُحرّمه منظومة حقوق الإنسان الدولية، ولهذا يتوجّب علينا أجمعين، التمسُّك الصارم بمبدأ الحفاظ والمحافظة على الكرامة الإنسانية للجميع، وقيم ومعايير الصحافة الأخلاقية !.
-21-
ولن نمل، مواصلة تبشيرنا بمهام وواجبات الصحافة المهنية والإحترافية فى تهذيب النفوس والاصلاح المجتمعي، وسنظل ندعو لتبنّي وتفعيل (قواعد السلوك المهني) و(مواثيق الشرف الصحفي)، التي يجب أن يلتزم بها جميع العاملين والعاملات فى مهنة الصحافة، فهي – بلا شك – من أهم مطلوبات حزمة أدوات الصحافة النظيفة، و"عِدّة الشُغُل"، وتفصّلها علوم وفنون أخلاقيات الصحافة، والصحافة الأخلاقية، التي ننصح زملاءنا وزميلاتنا فى مهنة البحث عن الحقيقة، التزوُّد من معارفها وخيراتها الوفيرة.
-22 -
وبمثلما لم نتردّد فى رفض وإدانة حادثة منتظر الزيدي، فى ذلك الزمن القديم، لن نتردّد – اليوم - فى اتخاذ نفس الموقف من حادثة حذاء صفاء الفحل، وننبه لأهمية الحفاظ على الكرامة الإنسانية للصحفية صفاء، ولحقّها فى المثول أمام قاضيها الطبيعي، وحقّها فى التمتُّع بالتقاضي – بشقيه، الجالس والواقف - الذي تُكفل فيه معايير المحاكمة العادلة، إذا ما رأي المتضرّر/ ين "الشاكي/ين" اللجوء للتقاضي، فالحق فى التقاضي، حقٌّ من حقوق الإنسان، يجب أن يكون مكفولاً للجميع !.
-23 -
نختم بالقول : لم يحضر مُنتظر الزيدي عصر "التغريد" (التويتري) ولا زمن انتشار ثقافة "الهاشتاقات" و"التريندات"، رُغم أنّ "تويتر" تاسس فى عام 2006، كما لم يحضر طُرق وتقنيات زيادة "اللايكات" فى الفيسبوك، والفرق بين تأثير حادثة الصحفي الزيدي، حادثة الصحفية صفاء الفحل، يكمن فى أنّ الحادثة الثانية، جاءت فى عصرٍ مختلف، أصبحت فيه الميديا الإجتماعية هي مُشعلة المواقف، وناشرة وناقلة وموزّعة الأخبار، إن لم نقل سيّدتها، ولهذا، من المتوقّع أن يكون التاثير أكبر، والتفاعل أعظم، وأقوي، وأوسع انتشاراً، فى حالتي الـ(مع ) والـ(ضد).. ولربّما تشتعل – وستظل – (السوشيال ميديا) لفترة ليست بالقصيرة، فى التفاعل مع هذا الحدث، وهذا يحتاج لصحافة "ميديا" تستوعب أكثر، واجبات ومهام (صحافة الأزمات)، و(صحافة السلام) أو صحافة "إطفاء الحرائق، لا إشعالها" والتي من واجباتها وخصائصها، "صب الماء فى النار، بدلاً عن صب الزيت" !... وهذا حديث يطول!.
جرس أخير:
"اغضب ، ولكن بعقلٍ،،، لا بحُمقِ هوى ... ولُم، وعاتِب،،، ولكن، بيِّنِ السّببا ... إساءة القول ليست حجّةً أبداً ... ولا الشتائم تُعلي القدر والرُتبا" ((أحمد شوقي))

فيصل الباقر
faisal.elbagir@gmail.com

 

آراء