هل تُراه آذان في مالطا

 


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

  يشهد الله أننا تعبنا ، و يشهد الله أننا أخذنا جرعات تفوق طاقة البشر من أذى الديكتاتوريات العسكرية و عبث الحكومات الحزبية ، و يشهد الله أننا لم نتعلم مما جرى و لم نتعظ مما حدث، فبقينا لست و ستين سنة ندور في حلقة مفرغة، نكرر نفس الأخطاء ، و نجرِّب نفس الحِيَل الفاشلة ، و يترأسنا ،طوعاً أو كُرهاً، أقزام ، و ورثة أمجاد تاريخية ، و كهنة خزعبلات صوفية،أو عبدة عقائد سياسية تأبَّت علي الإندياح حتى في مواطنها الأصلية و بيآتها الفكرية.

  نحن من جيل شهد بأم عينيه مولد دولة السودان الحديثة ، و سالت دموعه فرحاً و وهو يقف في شارع القصر وسط الجموع الشعبية يرى عَلَم بلاده ثلاثي الألوان يصعد سارية القصر الجمهوري في كبرياء ، في تزامن بديع مع إنزالٍ لعَلَمي بريطانيا و مصر ، تجسيداً بصرياً لميلاد دولة مستقلة ، أراد الله لها أن تكون أول دولة إفريقية مستقلة جنوب الصحراء الكبرى.

  بكينا يومذاك و إحتضنا بعضنا مهنئين أنفسنا و غيرنا  دون أن يخطر ببالنا للحظة أصول و فصول مَن تلاقت معهم أنفسنا قبل اجسادنا ، من القادمين من كل بقاع الوطن الغالي للمشاركة في تلك اللحظة التاريخية ..

   و لكن ما لبثنا ، كأمة أو كشعب ، أن غشيتنا الغفلة ، و عبثت بنا الأنانية ، و نمت فينا جرثومة رفض الآخر ، و إحتقار الديمقراطية التي ظنناها وسيلة سعادتنا و إستقرارنا و نهضتنا . أصبحت مؤسساتنا الحزبية خيالات مآتة تُتَخَذ بإسمها قرارات فوقية في دواوين السيدين الجليلين المهدي و الميرغني ، و أصبحت برلماناتها تجيز فصل نواب منتخبين ديمقراطياً ، و رئيس وزرائها يُسَلِّم الحكم للعسكر في وضح النهار و لا يُحاسَب ، و شباب البيوتات الطائفية لا يستحون من طلب الرئاسة و السلطة لأنفسهم دون تجربة و دون إعتبار لمؤسسية أو لتقاليد و نظم .ثم أتت ثالثة الأثافي عندما تسلَّم العسكريون الحكم بداية بدعوة و إلحاح من رئيس وزراء منتخب ، في ظروف لا يزال البعض يقوم بتغبيشها لكي لا يلحقهم طرف السوط ، و لكن هيهات !!! و تكررت من بعد إنقلابات نفذها عسكريون لكن أثبتت الأيام أصابع أحزاب مدنية إستسهلت الوصول للحكم عبر البندقية و وجدت ضالتها في عسكريين مغامرين .

   ثم ثار الشعب مراراً لتصحيح المسار و لوقف العبث ، بحثاً عن حَلٍ ناجِعٍ و نهائي للعبة الكراسي بين الديكتاتوريات العسكرية القابضة و الحزبية  المدنية العابثة. و من المؤسف أن ستاً و ستين سنة من التجريب لم تُفلح في إصلاح عقلية و ممارسات أي من الجانبين العسكري و المدني. فمثلاً مَن كان سيصدق أن ثورة ديسمبر المجيدة بكل زخمها و عظمتها و تضحياتها ، يمكن أن ينقلب عليها العسكر قبل حتى أن تكتمل الفترة الإنتقالية ، و قبل أن تجف دماء شهدائها و تندمل جراحات أبطالها ، و  يُعرف مصير مفقوديها !!! إنها العقلية العسكرية التسلطية التي لم تُفلِح عقود الإستقلال الستة في مسح ما ترسخ في عقلها الباطن و عقيدتها الباطلة بأن المدني غير جدير بالحياة ، دعك من أن يكون جديراً بتسنم السلطة و إدارة شؤون البلاد بديمقراطية شعبية ثبت أنه ليست لها موقع في عقلية و ضمير العسكريين قيادة و أفراداً.. و محزن أن العسكريين في تيههم  المؤسف هذا ، غَشَتهُم طامة أخرى جعلتهم في سبيل حماية أنفسهم يقبلون وجود ميليشيات مسلحة جاهلة قبلوها أولاً كعصابة غير منضبطة أطلقوا يدها لقتل مناوئين في الأقاليم البعيدة ، لكن إستأسدت المليشيات تدريجياً ، و غزت الخرطوم و وشَّح أفرادها  كتوفهم بالشارات العسكرية و النياشين غير المستحقة ، و أصبحوا اليوم و يا للأسف يتلقون التحية و الإنحناءة ممن كنا نظنهم ضباطاً مهنيين عظاماً  !!!

و لم تكن الصفحة المدنية بأفضل حالاً..فالأحزاب ما زادتها الأيام إلا تشرذماً  و ضعفاً ، و كان ذلك إما بعوامل ذاتية نتجت عن غفلة غَذَّتها حقيقة عدم رسوخ الديمقراطية في مؤسساتها ،و غلبة الطاعون الوراثي فيها، و   في ذلك يتساوى الجميع يميناً و يساراً و وسطاً ، أو بفعل فاعل خارجي ، يكره الديمقراطية كنظام حكم شوري يصعد عتباته مَن تُمَيِّزُه مؤهلاته ، و تقبله الأغلبية، دون إعتبار لحسب أو نسب أو لجذور إجتماعية خاصة. لهذا شهدت الستون سنة الماضية تمزقاً غير طبيعي في الكيانات السياسية التقليدية و المستحدثة..و زاد الطين بللاً أن الخلافات بين فتات الجسم الحزبي الواحد أصبحت أقسى ، و التخوين أصبح يمارس كمتلازمة  طبيعية للحياة السياسية ، لم تسلم منه الأحزاب الاصلية في نفسها و لا  في ما تفرع منها بسبب الإنشقاقات .

  ليس هذا وحده ما هدَّ حيل الاحزاب ، بل تنامى في صفوفها الشعور بإحتكار الحقيقة و بوحدانية إمتلاك الرأي السديد..فاصبح في العموم، كل ما صدر أو سيصدر من الآخر  فهو مرفوض جملة و تفصيلاً و بدون تقديم حيثيات أو نقد موضوعي . أصبح الكل يرفض الحلول الوسطى، و يستهزئ بما تتطلبه السياسة من أخذ و عطاء ، و من خطط ممرحلة تتوزع منطقياً و زمانياً بين ما هو قصير أو متوسط أو طويل المدى..

    إن لقِصَر الفترات الديمقراطية التي تلت  ديكتاتوريات عبود و نميري و البشير دور رئيسي في ما أصاب المؤسسات الحزبية من وَهَن و عدم رسوخ لمفاهيم و ممارسات الديمقراطية التي ،شئنا أو أبينا ، هي أفضل أنظمة الحكم و تنظيم شؤون المجتمعات.

   إذا كان هذا هو حصادنا المُر عسكرياً و مدنياً ، و مصدر بؤسنا ماضياً و حاضراً ، فهل هو قَدَرٌ حتمي لا فكاك منه و لا خيراً يُرجى من ورائه و بالتالي ليس من بصيص أمل للمستقبل ؟حتماً هنالك أمل أصبحنا نراه رأي العين يتبلور أمامنا في هيئة لجان و تنسيقيات شبابية للمقاومة، تملأ الساحة في إستقلالية محمودة ، و تقاوم في صمت  محاولات  حزبية يائسة ، يميناً و يساراً ، تحاول جاهدة أن تعيق حركتها و تلون مسيرتها و تتخذها مركباً لمآربها .إن هؤلاء الشباب المقاومون هم الحل و هم البناء الذي يستحق بتأهيله و تضحياته و رؤاه أن يقوم عليه سودان الغد علي أنقاض سودان قديم ظل يدور في حلقة مفرغة منذ الإستقلال..تابعنا هؤلاء الشباب بعيون ثاقبة و عقول مفتوحة.رأيناهم يتعثرون و لكن سرعان ما يقفون..شهدناهم يَتَحَدُّون الموت بجرأة أدهشتنا نحن آباءهم قبل أن تُدهِش العالم شعوباً و مؤسسات و حكومات..ثم ها نحن نراهم في الفترة الأخيرة يظهرون دون وَجَل في المنابر الشعبية العامة و المنتديات و أجهزة الإعلام المحلية و الإقليمية و الدولية و في الوسائط الإسفيرية الحديثة ، يعبرون بجرأة مدهشة عن رؤى نابعة من نضج وطني و سياسي يبدو للبعض أكبر من أعمار هؤلاء الفتية..سمعناهم في ندوات عامة في الجامعات  و  في أحياء أمدرمان قديمها و حديثها ،و في الخرطوم و بحري و في مدن السودان المختلفة بورتسودان و مدني و سنار و الفاشر و الجنينة و نيالا و غيرها.أدهشونا و هم يعبرون بقوة و تفاؤل عن تطلعاتهم و رؤاهم في  مدن الشمالية و نهر النيل و كسلا و القضارف و في الدويم و كوستي و غير ذلك كثير من ربوع أرضٍ كانت تغطي مليون ميل مربع و جديرة بأن تعود يوماً إلى ما كانت عليه مساحة و قدراً إقليمياً و دولياً...إنهم فتية يمثلون كُتَلاً شبابية متراصة  تعرف ما تريد  بل أصبحت تتبنى شعارات وطنية توحيدية عَبَّرت عنها  بعديد مواثيق تمثل جهوداً فكرية مميزة تنتظر التوحيد و قليلاً من الصقل و الترتيب ..ليس هذا فحسب بل أصبحوا يصيغون  شعارات  تختصر الحل مثل صيحة : (العسكر للثكنات و الأحزاب للإنتخابات و السلطة للتكنوقراط) التي تمثل خريطة طريق لا ينكر جدواها إلا مكابر أو ذو غرض.

إن شباب المقاومة هم الأقدر و الأجدر بتقدم الصفوف و إلتقاط القفاز لإنقاذ الوطن و الإنطلاق به إلى الأمام في طريق النهضة و الإستقرار. لقد أنجزوا الثورة ،و اكتووا بنيرانها ،و تحرروا تنظيمياً عندما لمسوا عجز الاحزاب، و غياب النقابات و التنظيمات المهنية ، و استشعروا بقوة خطل و خطورة إستمرار الدور المدمِّر للعسكر في إدارة و حكم السودان حالياً و مستقبلاَ، و لامس وجدانهم الشعور القومي المتنامي بأن القادم  للسودان لا بد أن يكون شبابي الهوى و الرؤى و الإدارة..

   لكن مع كل الزخم المستحق في حقكم أيها الثوار  الشباب ، لا بد من تذكيركم أنكم جزء من كل ، و أنكم ما مقطوعين من شجرة، و عليكم أن تأخذوا في كامل الإعتبار حقيقة أنكم إمتداد لتاريخ طويل، و نتاج مباشر لأجيالٍ  تعاقبت منذ إنهيار الدولة السودانية في سفوح جبال كرري..لقد خاطبتكم  من قبل بهذا المعنى في رسالة أبوية تستنهض فيكم روح الإنتماء الجمعي لوطن ذي تاريخ عظيم ، و لآباء ذوي كسب لا يمكنكم شطبه أو إنكاره ، بل من المفيد تبني إيجابياته و نقد  إخفاقاته موضوعياً و علمياً ..قلت لكم في تلك الرسالة :


< أنتم تملكون الحاضر بجدارة و بسالة، و أنتم قادرون علي التنظيم و علي التخطيط المتقن لمستقبل وطن نعتز كلنا بالإنتماء إليه، و نفتخر و نحتفي بتاريخه الحضاري الذي لا يزال يدهش الباحثين..سيروا  في طريق الثورة بعون الله و حفظه ، و لا شك أنكم ستصلون إلى ما تبتغون ، و ستحققون لوطنكم ما تحلمون.. لكنكم من وجهة نظر أبوية  تحتاجون وقفة  مع النفس لمراجعة قوائم الرفض  التي تمتلئ بها جوانحكم، من أجل أن تمسحوا صفحات كَرَاهية غير مبررة وُضِعَت بخبث في طريق بعثكم الثوري المجيد..

   ليتكم تبدأوا بأن لا تَبخَسُوا للأجيال السابقةأشياءَهم. فلقد عاشت تلك الأجيال ظروفاً لم تعيشوها ، و تحكَّمت في حركاتهم و توجهاتهم مُحَدِّدَات لا قِبَل لكم بها في وقتكم الحالي . و رغماً عن تلك الظروف و المُحَدِّدَات كان لتلك الأجيال كَسْبُها  السياسي و الوطني الذي يجب أن لا يجد منكم إنكاراً أو تنكراً لأنه مسجَّل في تاريخ أمتنا ، و يأتي علي رأسه ما يشهد به علم الإستقلال ثلاثي الألوان الذي جاء معلناً عن إزاحة حكم إستعماري بغيض ، و مبشراً بميلاد أول دولة أفريقية مستقلة جنوبي الصحراء. و توالى لتلك الأجيال كسبها النضالي دفاعاً متكرراً و مستميتاً عن الديمقراطية و الحكم المدني مما تشهد به سجون نواقيشوط و شالا و سواكن و كوبر و الابيض و كسلا و غيرها ، و تسجله معتقلات  موقف شندي  و قلاع الأمن في الخرطوم و أمدرمان و عطبرة و مدني  ،مثالاً  لا حصراً، و  بيوت أشباح كريهة هنا و هناك شهدت ما لا عين رأت و لا أذن سمعت من صنوف القتل و التعذيب و الإذلال..

و بجانب هذا و ذاك فإن لتلك الأجيال كسب آخر تَمَثَّل في صمود خرافي لحركة تشريد وظيفي و تهجير ليس له مثيل في التاريخ، بقيت آثاره الجسدية و النفسية في كل زوايا المجتمع، و تمثلت  في تشتت غير مسبوق لأبناء و بنات شرفاء و أسر شريفة ظلت  تعج بهم الدروب في كل أركان الارض، و ابتلعت بعضهم البحار  و المحيطات و الصحاري..

إنه كسب نضالي دفع ثمن بعضه عظماء صعدت أرواحهم الطاهرة في المشانق و الدِروات و في وادي الحمار و في ودنوباوي و الجزيرة أبا ومعسكر العيلفون، و في  ربوع دار فور و جنوبي كردفان و النيل الأزرق، في بورتسودان و الشمالية و نهر النيل و في  جنوبنا الذي ذهب مبكياً عليه بعد أن روت أرضه دماء أجيال من العسكريين و المدنيين دفاعاً عن وحدة وطنية نشدوها ،  كما سالت دماء عسكريين آخرين  قدموا أرواحهم في الحرب العالمية الثانية مساهمة في تمهيد الطريق ليكسب السودان حريته و إستقلاله.

   إن بناء الأوطان عمل تراكمي للأجيال المتلاحقة و المتجايلة تتحكم فيه ظروف متباينة و يتطلب آليات تختلف بإختلاف تلك الظروف. لهذا ليس من الحكمة أو العدل تبعيضه  بشطب بعضه، أو إنكاره ككسب وطني لبعضه الآخر  دون تمحيص و فهم عقلاني للظروف المحيطة ،و كمجرد إستجابة آلية غير عقلانية لعمليات غسيل مخ مقصودة تستهدف وضع حواجز وهمية بين جيلكم الثائر و الأجيال السابقة  التي لا ينكر عاقل أن لها أخطاء و عيوب تستوجب الإبراز و التحليل علي ضوء الظروف المحيطة آنذاك،  لأن معرفة الخطأ هي مكسب في حدِّ ذاته ، ما دمنا نؤمن في تراثنا القومي بأن(العترة بتصلح الدرب) و تفتح العيون لمواضع الخلل ، و لكنها حتماً لا تلغي التاريخ و لا تحاكمه بالإشاعات.

   فيا أيها  الديسمبريون الأماجد لا تبخسوا الأجيال السابقة أشياءهم ، و لا تنكروا مكاسبهم ، و لا تستهينوا بتجاربهم ، فأنتم جزء من عقد فريد ، و من متوالية زمنية  مجيدة تمتد لآلاف السنين ، فلا تجعلوها وليدة شهور و منقطعة جذور..ذلك جرم لا يليق بالثوار بناة السودان الجديد ، حملة رايات ثورة ديسمبر المجيدة ،أحفاد ترهاقا و بعنخي و الكنداكات و المهدي و الميرغني و علي دينار و المك نمر  و الازهري و المحجوب و عبدالخالق و قرنق و فاطمة و السارة و بلقيس...إنكم أبناء و بنات وطن عظيم ممتد تاريخاً و كسباً وطنياً،  فلا تُقَزِّمُوه ، و لا تنكروا لأجياله المتعاقبة كسبها، مع الإحتفاظ بحقكم كاملا لنقدها ،ففي ذلك سبيل لتجلية الرؤى و تصحيح  المسار  و القفز بثقة نحو وطن جديد تستحقونه بجدارة . تذكروا  دائماً أن الأمم لا تُبنَى بالجحود ،و الهدم، و النكران غير العقلاني لكافةجهود آخرين سابقين أو متجايلين، فلكل جيل كسبه و موقعه في تاريخ أمته.>

بجانب هذا دعوني أختم بتذكيركم بأهمية إندماج تنسيقياتكم في تنظيم قومي موحَّد، تنبثق عنه هيكلة رأسية و قيادة مركزية لتتسلم السلطة و تفتح صفحة جديدة مشرقة في تاريخ وطن نفخر بالإنتماء إليه.

  و الله و الوطن من وراء القصد.

بروفيسور

مهدي أمين التوم

29 يونيو 2022م


mahditom1941@yahoo.com

 

آراء