كلما احتقنت الأجواء، وكلما تصاعدت المواجهة بين الشارع والنظام في الخرطوم بالتحديد، كلما برزت الدعوات لرد العنف بالعنف وترتفع شعارات "الانتفاضة المحروسة" و"ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة" و"داوني بالتي كانت هي الداء" و"الإخوان جبناء، وبمجرد لعلعة السلاح سيلوذون بالفرار كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة." وكل هذه الدعوات هي عبارة عن فخاخ يجيد النظام نصبها عسى أن تتخلى الجماهير عن نهجها الغاندوي (نسبة للمهاتما غاندي) الصبور: "سلمية سلمية"، و ما أن تمتشق الجماهير السلاح الناري إلا تجد نفسها كجيش الخليفة عبد الله في كرري أمام قوات كتشنر الغازية التي تفوقها عدة و عتاداً و تدريباً وإمكانيات لوجستية - overkill.
إن الصمود السلمي في شوارع مدن السودان، خاصة الخرطوم، هو المفتاح السري للنصر المؤزر، بمثلما نجحت الحركة الهندية بقيادة غاندي وجواهر لال نهرو، وانتزعت استقلال بلادها من الإمبراطورية البريطانية التي لم تغب عنها الشمس، وبمثلما نجح المؤتمر الإفريقي بزعامة نلسون مانديلا في تفكيك دولة الفصل العنصري الفاشستية في مطلع التسعينات، وبمثلما نجحت ثورات الربيع الأوروبي في تركيع الإتحاد االسوفيتي "العظيم" وتفتيت المنظومة االشيوعية بثمان دول أخرى بشرق أوروبا - المجر وبلغاريا وبولندا والمانيا الشرقية وتشيكوسلوفاكيا ورومانيا ويوغسلافيا وألبانيا، أيضاً في مطلع تسعينات القرن العشرين.
إن الاستسلام لنزعات العنف المضاد لإرهاب الإخوان المسلمين هو الدخول في شباك الحروب الشرق أوسطية الداعشية والغبرائية التي تستمر عادة لمئات السنين، والتي يدل عليها ما ظل يحدث في سوريا منذ سبع سنوات، وفي ليبيا واليمن. وفي الحقيقة، يختلف الشعب السوداني عن الشعوب المقهورة الأخرى بالمنطقة، فهو يستند على إرث حضاري ضارب في أعماق التاريخ، وعلى تقاليد دولة مسيحية مستقرة حكمته لألف عام، وعلى تقاليد إسلامية صوفية عمرها خمسمائة عام، أورثته الأخلاق النبيلة كالإثرة وحب الجار وعدم التكالب الذي يبلغ حد الزهد في عرض الدنيا، وأورثته المكون الأساس للمقاومة السلمية - وهو الشجاعة الأدبية و الشفافية والبعد عن الغدر والطعن من الخلف والعدوان والفجور في الخصومة.
ولا شك أن العالم سوف يهب لنجدة السودانيين لو استمروا في كفاحهم السلمي وعصيانهم المدني؛ أما إذا تحول السودان لبؤرة أخرى كالصومال أو اليمن أو سوريا، فإن الإهمال سيكون مصيره المحتوم. لقد ملت الدنيا هذه الحروب على السلطة التي تحرق الزرع والضرع وتبيد مدناً بأكملها وتحيل سكانها إلى أسراب من الفارين والمتكدسين بالثغور الأوروبية طلباً للجوء.
لذلك، فإن الدعوة للرد على بطش النظام باستخدام السلاح...دعوة خطيرة وغير مضمونة العواقب. وكذا الحال بالنسبة للانقلاب العسكري الذي يرى البعض بأنه قد يأتينا بالمستبد العادل، أو بشخص مثل سوار الذهب، يجلس هنيهة على كرسي الحكم، ثم يسلمه للاحزاب. لقد جرب أهل السودان حكم العسكر ثلاث مرات، آخرها هذا الجحيم الذين ظلوا يرزحون تحته منذ ثلاثة عقود. وليس في تجاربنا أو تجارب أي من الشعوب العربية والإفريقية التي حكمتها أنظمة عسكرية ما يغري بالاستسلام لها، ولو ليوم واحد.
ما هو الحل إذن؟ يبدو أن الحل قادم ليس من أقلام المنظرين بالأسافير، إنما من الشارع نفسه. إن الحركة التلقائية التي بدأت منذ 19 الجاري ما انفكت صامدة وصاعدة إلى مستويات أعلى، ولا تخضع لأي من النماذج الكلاسيكية التي جربناها في ثورة أكتوبر 1964 وانتفاضة أبريل 1985، إذ أنها تستلهم الإرث الثوري الكامن في أعماق الشارع السوداني، وفي نفس الوقت تأخذ حذرها من أخطاء الماضي - من الغفلة والثقة الزائدة في المؤسسة العسكرية وتسليمها زمام الحكم ظناً بأنها ستعيده لأربابه الأصليين – اي الساسة المدنيين – بأقرب وقت ممكن، ومن قبول التيارات الفاشستية باعتبارها كيانات مدجنة وراضية بالتعايش والتنافس النزيه مع الأحزاب الأخرى، إذا بها دائماً تتمسكن فتتمكن وتتآمر على الديمقراطية وتنقلب عليها وتكشر أنيابها ضد باقي خلق الله وتسومهم خسفاً وبطشاً لا يرحم.
لقد نشات في الأيام القليلة الماضية مجموعات عبقرية من المثقفين الثوريين الذين يدعون لإتخاذ كافة الإجراءات التي سوف تحول دون سرقة الثورة ودون تحويل النظام الراهن إلى (الإنقاذ رقم 2)، ودون الامتثال للفرية الكبرى التي تقول (جيش واحد شعب واحد). إنها ثورة شعبية سلمية مدنية، تدعو لتفكيك دولة الاستبداد ولاسترجاع الديمقراطية، ولن يكون ذلك عن طريق تسليم الرسن مرة أخرى لثلة من العسكر نكتشف لاحقاً أنهم غواصات للإخوان المسلمين، ويعيد التاريخ نفسه للمرة الألف.
إن إدارة التغيير سوف تنبع من الشارع، ومن بطنه سوف تاتي الآليات التي ستستلم السلطة من النظام الراهن وترسي قواعد وإجراءات المرحلة الإنتقالية، بإذن الملك العلام. والسلام.