هل سيصمد الشارع السوداني؟؟ ما هي الجهة التى ستشرف على إنزال النظام وترتيب الأوضاع الإنتقالية؟

 


 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

يكاد المراقبون أن يجمعوا على أن الإنتفاضة الجادة الجارية حالياً بالعديد من الحواضر السودانية عبارة عن حراك تلقائي عفوي، بلا تدبير مسبق من جهة مركزية، وفي غياب الحركة النقابية والجماهيرية التى نسقت وفاوضت بإسم قوى الإنتفاضة في التجارب السابقة، ولذلك فهي مفتوحة على كافة الإحتمالات. وفيما يشبه (علوق الشدة) حث الكاتب التقدمي عبد الله على ابراهيم منسوبي المهن والكارات المختلفة على عقد جمعياتهم العمومية في هذه الأيام بغرض انتخاب قيادات جديدة، بعيداً عن تأثير الدولة التى اختطفت الحركة النقابية منذ تسنمها السلطة قبل ثلاثين سنة، ودجنتها وحورتها وزيفت إرادتها وجعلتها تسير خلف النظام مطأطئة روسها كنفر من الزومبيز (أو الجن المستأنس - البعاعيت). وبهذه الطريقة تكتمل شروط الإنتفاضة التى لا يراها صديقي ع ع إبراهيم ناجحة بدون البنيات والتشكيلات النقابية المعروفة تاريخياً؛ وأوشك الأستاذ أن يشير إلى الفراكشن الذى يربط بين فصائل الحركة النقابية، وبينها وبين الحزب، والذى بدونه لا تكتمل الصورة.

وحديث عبد الله منطقي، فبدون حركة نقابية وجماهيرية نابعة من القواعد فإن الشارع يصبح كحية مقطوعة الرأس، ولكنه في اللحظة الحرجة الحالية، وبعد أن تحرك قطار الثورة بزخم يفوق انتفاضة أبريل وثورة أكتوبر، يصبح مثل هذا الحديث anachronistic، مجرد تنظير فات أوانه وwishful thinking، إذ يتعذر في مثل الظرف الراهن أن تجد كل نقابة وقتاً ومكاناً وألية تستجمع بها عضويتها وتنخرط في إجراءات ومداولات مؤتمرات فرعية أو شاملة وعامة تتوصل فيها لبرامج وأطقم قيادية بشفافية واحترافية وديمقراطية، مع انتشار الكجر وعيون الرقيب والتيارات اليمينية والإنتهازية والإسلاموية التى لن تخلو منها أي نقابة في بلادنا ظلت طوال الثلاثة عقود المنصرمة تحت هيمنة النظام الإخواني الأخطبوطي المتشبث. وكيف تترك قيادات وكوادر النقابات مكانها في الشارع الملتهب وتنزوى هنا أو هناك لتنجز مؤتمراتها، ثم تعود مرة أخرى لتلحق بحركة الشارع. هل ستجدها كما تركتها، أم أن انشغال القوى النقابية بمؤتمراتها سيترك فراغاً، وربما يشل حركة الشارع كلية، وتكون الإنتفاضة قد همدت ذاتياً وتفرق شملها وأصبحت في حاجة لمعجزة جديدة لقدحها مرة أخرى؟

ومن ناحية أخرى، فإن استمرار الشارع بصورته الحالية، أي بدون تنسيق من قبل جهات نقابية وسياسية تعرف ما تريد ولها خريطة طريق واضحة المعالم تسير بموجبها، فإنها تصبح صيداً سهلا للنظام القمعي المتمرس في فض المظاهرات وإجهاض الإنتفاضات بالعنف وبالمكر وبسلاح الإشاعة وسياسة فرق تسد...إلخ. إذن، نحن نحتاج فعلاً لجهة تضطلع بعمليات التنسيق والاتصال والتغطية الإعلامية والربط بين الخيوط المبعثرة بين المدن السودانية المتناثرة بين الفاشر وبورتسدان، وبين دنقلا وكوستى، بالإضافة للتفاوض مع القوات النظامية كما هو متوقع وكما حدث إبان انتفاضة أبريل 1985 وثورة أكتوبر 1964. فلا بد أن الجيش سوف يتدخل، ثم يتلفت يمنة ويسرى بحثاً عن ممثلين للشارع المنتفض لكي يتباحث معهم حول المخرج والبديل. وفي غياب النقابات والمنظمات الجماهيرية المنتخبة ديمقراطياً، أرى ألا مفر من أن تتولي الأمر قيادات الأحزاب المعارضة المعروفة حالياً بالإضافة للحركات المسلحة. هذه القوى موجودة على الأرض وظلت تقاوم النظام الإرهابي الراهن ببسالة وبكافة الوسائل في السنوات الأخيرة - خاصة حزب المؤتمر السوداني والحزب الشيوعي وحزب البعث وحزب الأمة جناح مريم ورباح والحزب الإتحادي جناح الجكومي ونقابة الأطباء واتحاد ضحايا سد كجبار والتجمع النقابي، بالإضافة للمجموعات الشبابية الإسفيرية المعروفة (قرفنا..إلخ)، وممثلي حركات دارفور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق الذين لم ينجح النظام في رشوتهم واستقطابهم.

عل كل حال، رأيي الشخصي هو أن حركة الشارع يجب ألا تتوقف هذه المرة حتى زوال النظام؛ ولنا في الشعب المصري قدوة - عندما تحصن بميدان التحرير في يناير 2011 ولم يخرج منه إلا بعد ذهاب نظام حسني مبارك. فإذا عادت الكوادر لبيوتها فإن قوات الأمن ستلتقطها واحداً واحداً لتشل حركة الشارع تماماً. وإذا خمدت الإنتفاضة، كما حدث في سبتمبر 2013، فإن النظام سوف يتنفس الصعداء ويحسب أنه قد انتصر وسوف يسدر في غيه مستخفاً بالشارع وبالشخصية السودانية ومقدرتها على الصمود، لا سيما وهذا النظام قد شب وشاب بعقلية شرق أوسطية عروبية إسلاموية غريبة على ثقافة وتقاليد أهل السودان، تمقت الشعوبية (الوطنية) وتدين بالولاء لأمة هلامية موجودة فقط في مخيلة الإخوان المسلمين - تلك العقلية التى جعلته لا يتورع من الفتك بأبناء وبنات السودان بلا أدنى رحمة طوال فترة حكمه البئيسة. ولا مفر من أن تستمر الإنتفاضة، وإذا لم تبرز قيادات حزبية ونقابية من التشكيلات المذكورة، فإن الشارع سوف يفرز مناديبه من جوفه كما فعلت جماهير ميدان التحرير. وبالطبع، يتعين علينا أن نستفيد من أخطاء أصدقائنا المصريين، وأهمها التساهل والغفلة إزاء تنظيم الإخوان المسلمين الذى تمسكن فتمكن، ولم يستطع الشعب المصري أن يتخلص منهم إلا بانتفاضة شعبية شاملة أخرى في يونيو 2013، وهذه بدورها كانت تحمل في أحشائها هفوة كبرى - وهي انطلاء المؤسسة العسكرية على الشارع، وتمسكنها حتى تمكنت وانقلبت إلى ملك عضود، إلى نظام دكتاتوري عسكري آخر لا يختلف كثيراً عن نظام حسني مبارك البائد.

فلنأخذ كل ذلك فى اعتبارنا، ونعض الجمر ونصمد بالشوارع بطول نفس، في شمم وإباء سوداني أصيل، وبلا أدني تردد أو تخاذل.
إن النصر معقود لواؤه بشعب السودان.

عاشت انتفاضة ديسمبر الظافرة بإذن الملك العلام.

والسلام.

الفاضل عباس محمد علي
Fdil.abbas@gmail.com

 

آراء