هموم في كل الإتجاهات … بقلم: د. عمر بادي
عمود : محور اللقيا
(( هل يمكن لوطن أن يلحق بأبنائه أذيً لا يلحقه حيوان بنسله ؟ و كيف لا تقبل قطة , مهما كثر صغارها , أن يبتعد أحدهم عنها , و لا ترتاح حتى ترضعهم و تجمعهم حولها , بينما يرمي وطن أولاده إلى المنافي و الشتات غير معني ِّ بأمرهم ؟ )) ... أحلام مستغانمي , في روايتها ( عابر سرير ) .
كنت أود أن أفرد مقالتي هذه إلى مجريات الأحداث في الساحة و التي تتمثل في الوعيد الثلاثي كما أسماه البروفيسور الطيب زين العابدين , و أيضا تتمثل في إجتماعات تحالف أحزاب جوبا التي آزرت حزب الأمة القومي في تعدي قوات الأمن عليه و ضرب أعضائه بالهراوات عند خروجهم من دارهم و قد كانت بينهم الدكتورة مريم الصادق المهدي , مما أدى إلى كسر ساعدها و عضدها و إصابتها بكدمات في الرأس , و ها هم يجتمعون للتحضير لعقد المؤتمر السوداني الشامل المقرر له الثلاثين من ديسمبر الجاري . أما الوعيد الثلاثي فشرحه كالآتي : الوعيد الأول هو ما قاله رئيس الجمهورية السيد عمر البشير في خطابه في عيد الحصاد في القضارف من أنه بعد إنفصال الجنوب سوف يتم إعلان السودان كدولة عربية إسلامية و سوف يتم تطبيق الشريعة الإسلامية على الجميع مع إعتماد الدستور الإسلامي كدستور دائم للبلاد و إعتبار اللغة العربية اللغة الرسمية للبلاد , و هذا الوعيد موجه للعلمانيين و للمسلمين الليبراليين و لغير المسلمين و لذوي الأعراق غير العربية . الوعيد الثاني هو ما قاله النائب السيد علي عثمان محمد طه في خطابه بمناسبة عيد الإستقلال و قد إستعرض فيها قوات الأمن النظامية بأنواعها المختلفة , عملا بالمثل : ( دق القراف خلي الجمل يخاف ) فشدد على الذين يتلاعبون بأقوات الناس و يطلقون الشائعات و يثرون بالحرام و أبان أن تلك القوات سوف تتصدى لهم و كرر الوعيد بإستعمال القوة وبالسيف البتار ! أما الوعيد الثالث فهو ما قاله السيد مدير جهاز الأمن و المخابرات الفريق محمد عطا في ندوة الأمن و السلم و التي شن فيها هجوما على أحزاب المعارضة و طرحها لإسقاط النظام ( يقصد طرح السيد الصادق المهدي رئيس حزب الأمة القومي ) و توعدهم شراً و كذلك توعد المتاجرين بالدولار الذين رفعوا قيمته .
كنت أود أن أكتب عن كل هذه الأحداث بشيء من التفصيل و التحليل و إلى ما سوف تجره من ردود أفعال تزيد السودان تفتتا , و لكن آثرت أن ألتفت إلى ما وصلني في بريدي الإلكتروني من رسائل في غاية التأثير , تطلب مني المساعدة في إسماع الراي العام ما يحدث في بعض القضايا التي تخص شرائح من الشباب الخريجين و حديثي التوظيف .
لنبدأ بالفنيين , يقولون إنهم قد أخضعوا للجان المقابلات و الإختيار حتى وصلوا أخيرا إلى مرحلة التعيين , و تقلص عددهم إلى الثلاثمائة و خمسين فنيا . لقد كان تعيينهم متوقعا أن يكون في الهيئة القومية للكهرباء, و لكن لسؤ حظهم فقد سبقه القرار الوزاري بتحويل الهيئة القومية للكهرباء إلى أربع شركات مع إضافة هيئة تنفيذ السدود كشركة خامسة تعمل كلها تحت مظلة وزارة الكهرباء و السدود . يقولون إنهم قد تركوا وظائفهم القديمة بعد أن صار تعيينهم قاب قوسين أو أدنى و لكن لا يدرون الآن إلى أين يتجهون . لقد أحالتهم شركات الكهرباء الجديدة إلى وزارة الكهرباء و السدود و هناك قابلوا السيد وزير الدولة بالوزارة الذي لم يعطهم وعدا قاطعا بل أمرهم بالإنتظار , و صارت الشهور تترى و هم على ( رف ) الإنتظار ! بينما شهاداتهم في حوزة الوزارة . بجانب هؤلاء الثلاثمائة و خمسين , يوجد الآن في وزارة الكهرباء و السدود ألف و ثمانمائة فردا من العاملين في ما كان يسمى بالهيئة القومية للكهرباء و قد تنازلت عنهم شركات الكهرباء الجديدة و إعتبرتهم ( فائض عمالة ) و زجت بهم إلى وزارة الكهرباء و السدود , و لا تدري الوزارة ما تفعله بهم , فخيرتهم بين التقاعد الإختياري مع صرف مكافآت لهم أو أن يستمروا دون أعباء مع صرف رواتبهم في نهاية كل شهر ! هذه الإختناقات الوظيفية غير المدروسة و غير المخططة إلى أين ستقود ؟ حتما ستقود إلى نوع جديد من إحالات ( الصالح العام ) مع فقدان الأمل للخريجين الجدد في إيجاد وظائف عمل تنفعهم و تنفع ذويهم بعد مجاهدات سنين الدراسة , و هكذا سوف تستمر وتيرة الهجرة .
نفس الشيء يحدث للأطباء نواب الأخصائيين و الذين إستمرت قضيتهم دون حل جذري حتى الآن , فمن الرفض الكامل لمطالبهم العادلة و إلى مسيراتهم و إعتصاماتهم , ثم الوعود الخلبية لهم , ثم التصدي لهم بالفصل عن العمل و التشريد و الضرب , ثم التلبية الجزئية لبعض مطالبهم بعد دخول الوساطات , و حاليا يعانون من عدم منحهم العلاج المجاني و من تأخير العلاوة الموحدة و من إيقاف العلاوة الشخصية و هذه الأمور تمثل أهم بنود إتفاقهم مع وزارة الصحة . لقد قرر الكثيرون من الأطباء نواب الأخصائيين الإستقالة من عملهم و الهجرة إلى خارج الوطن لتدني رواتبهم , و قد تم إستيعابهم في دول الخليج العربية , رغم العجز الحاد في نواب الأخصائيين في مستشفيات السودان .
في كلتا حالتي الفنيين و الأطباء سوف يظل السودان يعاني من هجرة الكفاءات أو ما يعرف بالتصريف العقلي Brain drain , فقد فقد خيرة أبنائه من العلماء و المتخصصين و الخبراء , جراء السياسات الخاطئة و التضييق المتعمد , فإلى من أرفع حالة هؤلاء و من أناشد ؟ فليكن الله في عون الجميع .
(ombaday@yahoo.com)