هوامش حول أسئلة اتفاق مسار شرق السودان

 


 

أحمد ضحية
7 January, 2023

 

لا شك أن الأزمة التي ظلت تعصف بشرق السودان، منذ تفجر ثورة ديسمبر المجيدة، بقدر ما هي امتداد لإرث التهميش، فهي من الجهة الأخرى أزمة ناتجة عن تكتيكات الحركة الإسلامية، خلال ثلاث عقود من تسييس الادارة الأهلية.
الأمر الذي جعل الادارة الأهلية بعد انطلاق الثورة، تقفز على قضايا التهميش في الشرق لتصبح مكوناً أصيلاً من مكونات الثورة المضادة، التي تسعى لاستعادة نظام الحركة الإسلامية الاستبدادي، باتخاذها لشرق السودان قاعدة لخنق الثورة السودانية، عبر الأنشطة التآمرية لبعض أعضاء مجلس نظارات البجا المتواطئين مع الفلول وقوى الانقلاب.
لكن بتوقيع القيادة الانقلابية للجيش على الاتفاق الإطاري في ٥ ديسمبر من العام الحالي نتيجة للضغوط الأمريكية الشاملة، أُصيبت هذه القوى المضادة للثورة جزئياً بالشلل، خاصة بعد أن فشلت ضغوطها على قيادة الجيش، لمنعها من التوقيع على الاتفاق الإطاري، رغم سعيها الحثيث الآن، في التسلل عبر نافذة ما يسمى بالكتلة الديمقراطية، لتصبح جزء من الاتفاق الإطاري، لتفريغه من محتواه وضربه من داخله، بعد أن فشلت ابتداء في اجهاضه.
منذ أن تم أغلاق ميناء بورتسودان اواخر العام قبل الماضي لأكثر من أربعين يوماً نتيجة تواطؤ مجلس نظارات البجا مع المكون العسكري لخنق حكومة دكتور حمدوك، والتمهيد لانقلاب قائد الجيش. أخذ الحديث عن (اتفاق مسار الشرق) الذي وقعه (حزب مؤتمر البجا، بقيادة أسامة سعيد. وحزب الجبهة الشعبية المتحدة للتحرير والعدالة، بقيادة خالد شاويش) يتجدد ويثار حوله الكثير من الدعاية المضادة المضللة، رغم أن الاتفاق حقق للشرق مكتسبات مقدرة في مجالات الخدمات والسلطة التشريعية والتنفيذية على مستوى شرق السودان وعلى المستوى القومي. على الرغم من فشل المحاولات التي سبقت الاتفاق لعقد مؤتمر جامع لأهل الشرق للخروج برؤية وموقف موحد من قضايا شرق السودان.
ظل مجلس نظارات البجا بقيادة محمد الأمين ترك متنازعاً في مواقفه، فبينما يشيد (نظرياً) بالتعايش السلمي (الذي كان) بين قبائل شرق السودان، إلا أنه (عملياً) ظل يختط توجهاً عنصرياً ضد مجموعات الشرق الأخرى، كوصفه للبني عامر والحباب بأنهم (ليسوا مواطنين سودانيين)، الأمر الذي تسبب في نشر خطاب كراهية أدى إلى اقتتال أهلي وحرق لمساكن الأهالي، راح ضحيته كثير من الأبرياء، خاصة من البني عامر والحباب.
واستمر بعض قادة ما يسمى المجلس الأعلى لنظارات البجا، يصف اتفاق مسار الشرق بـ"مسار اللاجئين" (في إشارة عنصرية واضحة إلى أن مَن وقّع على المسار من طرف حزب "الجبهة الشعبية المتحدة للتحرير والعدالة" خالد شاويش، ليس سودانياً). وفي رفض عنصري غير مبرر وسعي دؤوب لإلغاء المسار وفقاً لتوصيف مجلس محمد الأمين ترك بأن الموقعين على اتفاق المسار هم من غير البجا، رغم أن المسار عالج قضايا الشرق بموضوعية وتجرد لصالح كل المكونات المجتمعية في شرق السودان.
وفي السياق نفسه كان سيد علي أبو آمنة الأمين السياسي لمجلس ترك، قد هدد أكثر من مرة بأنه حال لم يتم إلغاء مسار الشرق فإن (حرباً كونيةً ستحدث في شرق السودان)، على حد تعبيره!
شهد شرق السودان في عام ١٩٩٧ حرباً لا تزال آثارها حاضرة. فقد هُجّر سكان منطقة جنوب طوكر، وهي منطقة فيها أكثر من خمسة عشرة قرية ومدينتان (عقيق وقرورة) إلى بورتسودان، وعدد هؤلاء قرابة ستون ألف مواطن. ولم يُعاد توطينهم بسبب تلك الحرب، ولا يزالون يعيشون على أطراف الأحياء العشوائية في مدينة بورتسودان.
ولأن الناظر ترك وأتباعه لا يعتبرون هؤلاء المهجرين جزءاً من البجا في شرق السودان، فهم يدرجونهم تحت اسم اللاجئين، ولايهام وتضليل الرأي العام السوداني يفسرون إحدى مواد اتفاق مسار الشرق القاضية بعودة هؤلاء المواطنين المهجّرين من منطقة جنوب طوكر، بأنها مادة قاضية بتوطين اللاجئين في السودان.
بل ويطالبون بتخصيص منبر تفاوضي لما يسمى المجلس الأعلى لنظارات البجا، بعد إلغاء مسار الشرق، بل و يمضون أبعد من ذلك للمطالبة بحكم ذاتي، ومؤخراً بعد الاتفاق الاطاري أخذوا يلوحون بالانفصال!
فإذا كانوا في مطلبهم الداعي إلى إلغاء المسار يحتجون بأن شرق السودان لا يشهد حرباً ولا حتى آثاراً للحرب، فكيف يطالبون بتخصيص منبر تفاوضي وحكم ذاتي لمجلسهم؟ وكيف يلوحون بالانفصال وينضمون في الوقت نفسه لما يسمى بالكتلة الديمقراطية التي تضم في أغلبها قوى الثورة المضادة؟
وفي الحقيقة ضمن مسار الشرق في المبادئ العامة للملف السياسي (الفصل الأول)(٢) المشاركة الفاعلة والمنصفة لشرق السودان في السلطة على المستوى القومي والولائي/الإقليمي والمحلي، وكافة أجهزة الدولة بما يتفق ومعايير التعداد السكاني والتمييز الإيجابي، مع مراعاة معايير التأهيل والكفاءة. و كذلك (٣) مشاركة المرأة بنسبة لا تقل عن ٤٠% في كل المستويات إلى جانب (٤) ضمان مشاركة الشباب بنسبة مقدرة.
اشتمل الاتفاق على كثير من المكتسبات التي من شأن تطبيقاتها العملية إنهاء حالة التهميش في شرق السودان. ونحن هنا لا نقول أنه اتفاق مثالي، لكن حتى الآن ليس لدى منتقديه نقاط ضعف محددة، يمكن الاعتداد بها.
إذن اتفاق مسار الشرق في تقديري الخاص عالج بموضوعية قضايا حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية، السلام الاجتماعي والحريات، المشاركة في السلطة في كافة مستوياتها، وتمثيل أبناء الشرق في الخدمة المدنية، وقضايا التعليم، والتنمية البشرية، الصحة، التنوع الثقافي، ودعا لمؤتمر جامع لقضايا الشرق يقام في إحدى ولايات الشرق، ولم يقصي الإدارة الأهلية كطرف في اللجنة العليا المناط بها تنفيذ الاتفاق.
كذلك عالج الاتفاق في الملف الاقتصادي والاجتماعي (الفصل الثاني) قضايا تنمية وإدارة الموارد الطبيعية والبنية التحتية، وقضايا الأراضي والسدود والمهاجرين، وقضايا الزراعة والغابات، وقضية صندوق تنمية الشرق، ومراجعة الحقوق والمشروعات السابقة.
واكد على ضرورة قيام مؤتمر اقتصادي في احدى ولايات الشرق، وعالج قضايا أخرى ذات أهمية خاصة، كوحدة الجيش السوداني والقوات النظامية بحيث يعكس تكوينها التنوع السوداني.
وعلى الرغم من افتقار مجلس ترك لأي قراءة نقدية موضوعية للاتفاق، إلا أنه لا يفتأ يطلق التهديدات من آن لآخر، مستهدفاً التعايش والسلم الأهلي في شرق السودان، وساعياً لتحويل الشرق إلى قنبلة موقوتة في مسار الانتقال والتحول الديمقراطي.
المجلس الأعلى لنظارات البجا بقيادة محمد الأمين ترك، هو امتداد عميق لنظام تسييس الإدارة الأهلية، الذي كرّسه نظام الحركة الإسلامية لتخريب الفضاء السياسي العام وتدمير الأحزاب، على مدى ثلاثين سنة، الشاهد على ذلك أن بعض قادة المجلس الأعلى لنظارات البجا، كانوا من رموز نظام البشير، أمثال سيد علي أبو آمنة الذي كان أميناً لشباب "حزب المؤتمر الوطني" في البحر الأحمر، وعبد الله أوبشار، مقرر ما يسمى المجلس الأعلى لنظارات البجا الذي كان معتمداً لمحلية سنكات على عهد نظام الحركة الإسلامية.
ما يسمى بالمجلس الأعلى لنظارات البجا كان جزءاً ناشطاً في النظام البائد للحركة الإسلامية وتحول بعد الثورة إلى عنصر من عناصر الثورة المضادة عبر نشاطه بالتواطؤ مع والي البحر الأحمر واللجنة الأمنية لولاية البحر الأحمر، التي كانت تسمح لمجلس ترك بعقد الندوات العنصرية في الأندية العامة في بورتسودان، إلى جانب تواطئه مع عبدالفتاح البرهان وكباشي بالانقلاب على حكومة الفترة الانتقالية بقيادة دكتور عبد الله حمدوك.
وسعي ترك الآن للتسلل خلال جسم حلفاء الانقلاب فيما يسمى بالكتلة الديمقراطية، هو امتداد لسلوك الثورة المضادة الذي ظل يمارسه بمجلسه منذ تفجرت ثورة ديسمبر المجيدة. كنتيجة لتعرض الانقلابيين لضغوط الولايات المتحدة بمشروع قرارها الصارم بالعقوبات الشخصية ضد كل من ساعد في انقلاب ٢٥ أكتوبر، إلى جانب مشروع القانون المتصل بديمقراطية السودان النشط على طاولة الكونغرس الأميركي.
إن الموقف الحازم لواشنطن من انقلاب البرهان وحلفائه من الفلول على الحكومة الانتقالية، و الضغوط الصارمة التي مارسها المجتمع الدولي على كثير من دول المنطقة. كل ذلك تضافر لتغيير قواعد اللعبة وأدى لحصار الانقلابيين وتمخض عنه تغييرات في المواقف الأمر الذي يفسر انضمام ترك لما يسمى بالكتلة الديمقراطية، كمحاولة لانقاذ مكونات هذه الكتلة الانقلابية من مصير مجهول، يضعها خارج المشهد السياسي ويغمرها بتراب النسيان، وربما يعرضها لعقوبات جنائية، جراء ما ارتكبته من جرائم تهدد الأمن القومي بإغلاق الموانئ والطرق.
لانسينغ، ميشيغان
١٢/٢٩/٢٠٢٢

ahmeddhahia@gmail.com
//////////////////////////

 

آراء