هيرمان كوهين والفرص الضائعة في السودان
الاحد: مبارك الفاضل: مؤرخ ام أقوال شاهد إثبات؟
دشن الاستاذ مبارك الفاضل الوزير والسياسي البارز الاسبوع الماضي كتابه الاول تحت عنوان (ماذا جري،؟ اسرار الصراع السياسي في السودان ١٩٨٦-٢٠١٦). وحفلت الندوة التي دشن فيها كتابه في قاعة الشارقة بحضور كثيف من ألوان الطيف السياسي. لم يكتب مبارك الفاضل بحس المؤرخ المحايد بل بحسابات السياسي الفاعل الذي ما يزال يستزرع ويحصد في حقل السياسة والشأن العام. يطغي علي الكتاب حس الرواية والسرد التاريخي من لدن عامل وفاعل في صناعة الاحداث ، لذا خلا الكتاب من العمق الفكري والتحليلي، لكنه اشتمل علي قدر كبير من المعلومات والاحداث كشفت عن قدرته في تدبير وصنع التحالفات وقيادة العمل السياسي في اوقات الأزمات بصورة براغماتية صارخة.
يتضح من اُسلوب السرد والكتابة ان إعداد الكتاب استغرق وقتا طويلا وفِي اوقات متقطعة لانه يغطي فترة تمتد لثلاثين عاما غنية بالاحداث الكبيرة والتناقضات، وقد ركز علي قضايا كانت تمثل في وقتها احداث الساعة لكن خبت أهميتها مع تقادم الزمن وبروز تحديات جديدة في العمل السياسي ،يعتقد مبارك الفاضل جازما انه يمثل الجيل الثالث في السياسة السودانية المتهم بالابتعاد عن التعاطي الثقافي والفكري مع قضايا السودان. فهو جيل تلا إنجازات جيل الاستقلال الاول و خيبات الجيل الثاني الذي فشل في سؤال النهضة والتعمير . بغض النظر عن اتفاقنا او اختلافنا مع الحيثيات الواردة في كتاب مبارك الفاضل الا انه يحمد له جرأته علي التاليف وشهود العصر احياء يمكن ان يردوا عليه ويقارعوه الحجة خاصة وانه أورد قائمة اتهام سياسية موجهة لخصومه. لكن ما يؤخذ علي الكتاب انه قدم مرافعة ذاتية للدفاع عن مواقفه وخياراته السياسية، وانه خلال ثلاثين عاما من العمل السياسي الدؤوب لم يرتكب خطأ ولم يحالفه سوء التقدير في اي مرحلة من مراحل حياته السياسية. ولم يقدم نقدا ذاتيا يعتد به كما ذكر الدكتور خالد التيجاني. وكنت أتوقع مراجعة دقيقة لاسباب فشل او افشال الديمقراطية وكيف الاستدراك علي الأخطاء الماضية وصناعة مستقبل افضل للسودان.
لم يتضمن الكتاب اسرارا من العيار الثقيل كما توقع البعض وله في ذلك مبررات اذ انه لا يزال فاعلا في الساحة السياسية تطغي عليه حسابات الربح والخسارة . لا شك ان اهتمام مبارك الفاضل بالتأليف والتوثيق هو جهد يستحق عليه الإطراء والتشجيع ، لكن اضعف من القيمة التاريخية للكتاب رغبة الكاتب في تقديم مرافعة للدفاع عن مواقفه وخياراته السياسية خلال ثلاثين عاما دون تقديم نقد ذاتي صادق وشفاف و مفتوح، وهو كما اشار الدكتور غازي يتميز بوضوح الرؤية، واظن انه يتميز بالقدرة علي تحديد الأعداء بدقة واستمالة الحلفاء و النهج البراغماتي في ادارة العمل السياسي، مع الاهتمام بتوفير عوامل النجاح وهي المال و وضوح الرؤية وبناء التحالفات. لم يغب من دفتر خصومته كالعادة الامام الصادق المهدي والأستاذ علي عثمان ، كما كشف ان اكبر الاختلافات مع الصادق المهدي هي الولاية علي مال التمويل الخارجي ، وهو ما أكده الاستاذ احمد عبدالرحمن في مداخلته ان الاحزاب السودانية كانت تعتمد علي التمويل الخارجي. ولنا عودة في هذا الجانب.
الخلاصة الخفية للكتاب تؤكد ان مبارك الفاضل لديه طموح سياسي واضح وتطلع ليصل الي قمة الجبل، فقد ذكر في الكتاب ان والده كان كثير الزهد والتواضع في تسنم العمل السياسي والقيادي رغم قربه من عمه السيد عبدالرحمن المهدي. كما كان لا يميل لنسبة اسمه الي المهدي ويعرف نفسه بالسيد عبد الله الفاضل.
ونهج مبارك قائم علي مخالفة هذا الأرث في العمل السياسي فهو ليس زاهدا كأبيه بل متطلعا ليصل الي قمة الجبل ، ويصل اسمه مقترنا بالمهدي لذا جاء اسم المؤلف في الغلاف ( مبارك المهدي) وليس مبارك الفاضل. لكنه وان اختلف مع إرث والده السياسي الا انه يري انه يشاركه صفة التواضع والبعد الانساني.
لنا عودة في قراءة تفصيلية عن فصول ومواضيع الكتاب. ،
الاثنين: هيرمان كوهين والفرص الضائعة:
اهتم المراقبون بتغريدة هيرمان كوهين في موقع تويتر الاسبوع الماضي و دعوته لرفع العقوبات وقال ان العقوبات فرضت للضغط علي الحكومة لطرد اسامة بن لادن، وقد انتفي سبب فرضها.
كان لهيرمان كوهين مبادرة هامة في تاريخ الحرب والسلام في السودان عام ١٩٩٣ عندما كان مسئولا عن ملف الارهاب في مجلس الامن القومي في عهد كلنتون
و لم تندم حكومة السودان علي شيء كما ندمت علي رفضها مقترح هيرمان كوهين الذي كان يقضي بسحب الجيش السوداني الي شمال حدود ٥٦ ووقف الحرب والانخراط في مفاوضات سلام
رفضت حكومة السودان المقترح تحت ارهاصات وانتصارات عمليات صيف العبور وقبل به جون قرنق وقال الشهيد الزبير محمد صالح نائب رئيس الجمهورية في وقت لاحق لو استقبلنا من امرنا ما استدبرنا لقبلنا مقترح كوهين. اذ ترتب علي رفضه استمرار الحرب وزيادة الدمار وحصد الأرواح و كرس ذلك لاستمرار عزلة السودان الدولية و قضي في نهاية المطاف لفصل جنوب السودان.
اذا قدر السودان قبول مقترح هيرمان كوهين عام ١٩٩٣ لكان حاضر السودان ومستقبله مختلفا تماما الان.
الادهي و الامر في علاقة هيرمان كوهين بالسودان انه تم التحفظ عليه في مبني الضيافة الرسمي بواشنطن ( بلير هاوس) تحت حراسة مشددة لوصول معلومات بواسطة عميل سوداني كان يعمل في الدفاع الجوي ان الحكومة السودانية ارسلت انتحاريين لقتله بواشنطن
بعد اعادة التحري مع العميل واختبار صدقه باستخدام جهاز الكشف عن الكذب ( بوليغراف) اتضح ان المعلومات التي قدمها لوكالة المخابرات المركزية كانت كاذبة ومزوّرة وفشل في اجتياز اختبار الجهاز ثلاث مرات
اضطرت وكالة المخابرات لابادة أكثر من ١٠٠ تقرير من أرشيفها كان مصدرها هذا العميل وشبكته وتم طرده من الولايات المتحدة دون منحه الحماية القانونية تحت قانون حماية الشهود او منحه اللجوء السياسي.
لا شك ان شهادة هيرمان كوهين تكتسب اهمية تاريخية لتعاطيه المبكر مع السودان خاصة وانه كان احد ابرز مهندسي فرض العقوبات علي السودان عام ١٩٩٧.
الثلاثاء: مجلس الاطلنطي واستراتيجية أمريكية جديدة مع السودان.
اصدر مجلس الاطلنطي للدراسات بالولايات المتحدة هذا الاسبوع تقريرا شاملا بمشاركة وإشراف خبراء ودبلوماسيين رفيعي المستوي تحت عنوان ( استراتجية لاعادة الارتباط والتعاطي مع السودان).
استغرقت الدراسة ثمانية عشرة شهرا بمشاركة فريق عمل خاص ضم افضل الخبراء الأمريكيين في شأن العلاقات مع السودان وافريقيا. يأتي علي رأسهم ثيموني كارني اخر سفير للولايات المتحدة في السودان وهو صاحب الخلاف الشهير مع سوزان رايس عندما امرت باغلاق السفارة في الخرطوم ونقلها الي نيروبي في عقد التسعينات، وكذلك المبعوثين السابقين ليمان ودونالد بوث والقائم بالاعمال الامريكي الأسبق السفير لاينر وغيرهم.
يتميز التقرير بالتوازن والشمول خاصة وهي معني بتقديم مقترح استراتيجية لإدارة الرئيس ترامب للتعاطي مع السودان في ظل متغيرات داخلية واقليمية ودولية عميقة. وما يميز هذه الاستراتيجية انها صادرة من خبراء تكنوقراط تقلدوا مناصب دبلوماسية رفيعة و لديهم سابق عمل وتجربة وخبرة مع السودان، وقد اشتمل نهج إعداد الاستراتيجية علي دراسات وابحاث وجلسات نقاش وزيارات ميدانية واستشارات مع خبراء قانونيين في قضايا العقوبات وغيرها. وهي بهذا تمثل افضل ما قدمه الخبراء و الاستراتيجيون في الولايات المتحدة الذين يغلبون نهج التعاطي والحوار علي خيارات العزلة والمواجهة والحصار كما يفضّل الناشطون .
ابرز توصيات هذا التقرير لبناء استراتيجية أمريكية شاملة تجاه الخرطوم هو ضرورة الاهتمام بالسودان كقوة إقليمية ناهضة سيكون لها دور وتأثير إقليمي من خلال موقعها الاستراتيجي، وان الحوار والتعاطي يجب ان يكون هو الوسيلة الافعل لبناء العلاقات بين واشنطون والخرطوم وذلك لتحقيق الأهداف الاستراتيجية للولايات المتحدة في السودان والقارة الافريقية من خلال دعم الاستقرار وتحقيق السلام ومكافحة الارهاب.
الخيار الوحيد الذي قدمته الاستراتيجية هو رفع العقوبات بصورة دائمة مما يمكن الولايات المتحدة من بناء قاعدة نفوذ و تأثير داخل السودان، و وضع معايير جديدة لقياس درجة التقدم والتعاون مع السودان بما يعزز النظر الايجابي للنظر في ازالة اسم السودان من قائمة الدول الراعية للارهاب و اعفاء الديون. ويكشف التقرير ان الامر التنفيذي لم يمس ثلاثة قوانيين أجازها الكونقرس وقانون حول التخصيصات المالية لكن يشجع الادارة للمضي قدما في وضع معايير لقياس التقدم وأوصي التقرير الرئيس ترامب التوجيه ببدء المراجعة ووضع المعايير لإزالة السودان من القائمة و اشعار الكونقرس بذلك.
يعترف التقرير بان العقوبات لم تعد وسيلة فعالة في تحقيق الأهداف المنشودة للولايات المتحدة ، وان اثارها السالبة اضرت بالمواطن العادي وليس النخبة السياسية. و تعد هذه هي المرة الأولي التي تستشهد فيها مؤسسة أمريكية بتقرير الامم المتحدة عن الاثر السالب للعقوبات في السودان خاصة في مجال الصحة والتعليم وحرمان الطبقات الفقيرة من حقوقها الاساسية . واكد التقرير دون لَبْس انه ليس من أهداف العقوبات تغيير القيادة السياسية في السودان . أوصي التقرير بمساعدة السودان واعادة إدماجه في النظام الاقتصادي والمالي الدولي والاهتمام بشرائح الشباب الذين سيكون لهم دور مستقبلي في حكم وقيادة البلاد من خلال التعليم والبرامج الثقافية وتنظيم الدورات والزيارات وتوفير المنح التعليمية.
من اهم توصيات التقرير لبناء استراتيجية أمريكية تجاه السودان هي تعيين سفير لواشنطن في الخرطوم علي ان يكتفي المبعوث الخاص بدور إقليمي أوسع بالتركيز علي جنوب السودان.
لا شك ان هذه الاستراتيجية التي جاءت نتيجة عمل مكثف من فريق العمل الذي يتكون من خيرة العقول والخبرات الدبلوماسية الامريكية في السودان ، تعد علامة بارزة ونقطة تحول في العقل السياسي لواشنطون تجاه السودان. فقد ظلت هذه الرؤية الايجابية تحملها و تعبر عنها أقلية في الماكنة البيروقراطية في واشنطون لعل ابرزهم السفير ثيموني كارني لكن تمت مواجهتهم والتضييق عليهم من قبل المسئوليين السياسيين بمساعدة وضجيج الناشطين وأعضاء الكونقرس المعاديين ومجموعات اليمين الديني. و ربما تكون هي المرة الأولي التي تتفق فيها مجموعة من السفراء و المبعوثين الخاصين و الخبراء في الشأن السوداني تحت مظلة مؤسسة بحثية مرموقة لاستصدار توصيات إيجابية لترقية العلاقات السودانية الامريكية علي قاعدة الحوار والتعاطي ونبذ العقوبات ووسائل الاكراه والإجبار السياسي.
حاول المبعوث الأسبق جون قريشن في عهد الرئيس اوباما ان يقدم رؤية إيجابية تقوم علي رفع العقوبات والتعاطي الايجابي تتفق مع توصيات هذه الاستراتيجية الا انه تمت الإطاحة بعد واستدعائه من الخرطوم بطريقة مهينة وتعيينه سفيرا لواشنطون في نيروبي قبل إعفائه مرة اخري.
رغم قرار الرئيس ترامب بتمديد اجل مراجعة الرفع الدائم للعقوبات لمدة ثلاثة أشهر، الا ان هذه الاستراتيجية سيكون لها الاثر الأكبر في وضع موجهات السياسة الامريكية تجاه السودان خلال الفترة القادمة
khaliddafalla@gmail.com