هَـل نسـيَ العـالم ثورة الـسّــودانييـن ؟

 


 

 

جمال محمد ابراهيم
(1)
حين ثار الشعب السوداني على الحكومة العسكرية لتي حكمت السودان لست سنواتمن 1058 وإلى 1964 ونجح في إسقاطها ، شهدت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ومن قبل أن يشهد العالم أجمع ، أوّل هبة شعبية تسقط حكماً شمولياً جاء عبر انقلاب عسكري. كانت المشاهد في تلك المنطقة حافلة بأنظمة شمولية قابضة جاء أكثرها عبر انقلابات عسكرية ، أو أنظمة أخرى عليها ملوك وأمراء وشيوخ، لا تقلّ شمولية عن تلك التي جاءت عبر الانقلابات العسكرية. ولأن وسائل التواصل والاتصالات لم تكن حاضرة بذات الوتيرة التي هعليها الحال الآن، فلم تلق أحداث ووقائع هبة السودانيين الضوء الإعلامي الازم الذي يلفت إليها أنظار العالم. لم يلفت أنظار السودانيين الثائرين غير صوت واحد حمل رد فعل لم يكن إيجابيا بالكامل ، وهو صوت الإعلام المصري . لربما القرب الجغرافي والعلاقات الراسخة بين البلدين هي التي فسرت اهتمام مصر والتي كان يقود نظامها الشمولي زعيم عظيم الشأن هو جمال عبدالناصر. ولأن الإعلام عموما لم تكن لها السطوة المؤثرة، فقد اعتمد نظام عبدالناصر الصحيفة الرسمية ورئيس تحريرها الأستاذ الراحل محمد حسنين هيكل لتكون هي صوت النظام الحتالكم ، وتكون كلمة الافتتاح التي يكتبها هيكل بمثابة الموقف الرسمي لمصر.

(2)
حين حملت افتتاحية صحيفة الأهرام كلمة هيكل الافتتاحية بعد نجاح الثورة السودانية في إسقاط النظام العسكري الشمولي ، عنوانا يقول: "ماذا بعد في السودان؟" ، فهم الشارع السوداني أن المقال عكس رد فعل سلبي على ثورة السودانيين وكأن شعب السودان انقلب على حكومة تتعاطف معها القاهرة ، فخرجوا على الفور في تظاهرات كبيرة وحاصرت السفارة المصرية في الخرطوم ، وحصبوا مبانيهابالحجارة وأسمعوها هتافات مناوئة لمصر ولقيادتها.
في الحقيقة أن ثورة أكتوبر 1964م هي المرة الأولى التي نجح فيها حراك شعبي في إسقاط حكومة عسكرية في منطقةٍ محتشدة بحكومات شمولية جاءت عبر انقلابات عسكريةً. إنها موسم "الربيع العربي" الأول الذي لم يتكرر إلا بعد قرابة نصف قرنٍ من ثورة السودانيين.
تلك الظاهرة تعكس أمرا واضحاً خلاصته أن الأنظمة الشمولية التي لا تعير الديمقراطية أو احترام إ{ادة الشعوب نظرا يذكر، هي التي سادت خلال تلكم السنوات ، وأنّ ثورة السودانيين كانت تسير في الاتجاه المعاكس تماما.
أما في انتفاضة السودانيين في ديسمبر من عام 2018م ، فهل بدت في عيون ذات ذلك الإقليم ، سائرة في ذات الاتجاه المعاكس الذي سارت عليه ثورة أكتوبر عام 1964م. .؟

(3)
الإجابة على هذا السؤال فيما يرى – وبلا تردد- هي نعـم. .
تنظر حولك في وسط وجوانب وأطراف ما يسمى بإقليم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ، سترى إدمان معظمها على التعاطي والتماهي مع أنظمة شمولية أو شبه شمولية لا تنظر كثير نظر جاد إلى أقدار شعوبها إلا بعض أفعالٍ تبدو كذرٍ للرماد في عيون تلك الشعوب ،أو بعضها سراب يحسبه الظمئآن ماء . ضعف تلك الجدية في تهيئة شراكة لتلك الشعوب في تســـيير شئون بلدانها، شكلت مغريات للطامعيـن في التحكّـم في أقــدار المنطقة وامتـلاك مقــدراتـها وقدراتها، بما يتجاوز السيطرة السياسية والاقتصادية ليصل إلى المقـدرات الفكـرية والثقافية لتلك الشعوب، فيكون القهر والانشعال بالصراعات والحروبات مدخـلاً شـــرعياً للتحكّم عن بعـد في أقـــدار ومصائر شعوب تتنفس وترى وتسمع، لكنها مغلوبة على أمورها. ذلك ما ترصده العين الفاحصة لتطور أوضاع ذلك الإقليم في العقود الأخيرة من القرن العشرين وفي خلال العقدين الأخيرين من الألفية الثالثة.

(4)
وإني أعود ثانية للثورة التي أسقطت نظام الإسلامويين في السودان ، هذا البلد الثري بالثروات الزراعية والواعـد لملء أفواه شعوب القارة والإقليم بالغذاء، والغني بالموارد النفطية والمعدنية في باطن أرضه بما يكفي الإقليم ويزيد، فإلى انتهى بها الأمر. للمرة الثانية تجد ثورة السودانيين التي أذهلت العالم أجمع، ما يشبه الإهمال من عناصرها الداخلية قبل الخارجية ، فجاء الطامعون لسرقة ثروات البلاد وتداعوا تداعي الأكلة على قصعات الموائد الشهية، أو تناهش الصقور على صغار الطير .
تكرّر لثورة السودانيين في عام 2018م، ما وقع لثورتهم الأولى عام 1964مو قبل أكثر من ستين عاماً . من الطبيعي أن لا تتماهى أنظمة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ، جلّها ينظر شذراً لمتطلبات الشعوب من حقها في إدارة شئونها وأحوالها، فبقي السودان مثلاً لطريد سار في اتجاهٍ معاكس لن يظفر فيه بتعاطف يذكر. لم يقف الأمر عند حدود الإهمال والتجاهل ، بل كثرت أصابع الطامعين من أقرب الأقربين ومن أبعدهم. تجاسر بعضهم يزيد أوار الخلافات ليس بالتشجيع والتحريض بل بتزويد أطراف الصراعات الناشــبة في السودان بالأســـلحة والذخائر والمُسيّرات . قال أطـراف تلـك الحرب عنها- ويا للعجب- أنها عبثـية . كــلا . إنـها حــربُ أغبياءٍ يتبارون في تدمير مقوّمات بلادهم ، سكانا وموارد وثروات ، ويفتحون صفحة دامية لممارسات إبادة جماعية عنصرية وإثنـيـة ، تقـتل وتذبـح على الهــوية واللـون واللســان. أكثر من نصف السـكان هم نازحون بلا موارد ، داخل البــلاد أو خارجـها، أوهـم لاجـئــون يكاد يلفـظهـم من ضيقٍ اللآئذون بهم في بعض بلدان الجوار.

(5)
الذي جرى ويجري في واحــدٍ من أكبر وأغنى بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وصحرائها هو السودان ، لا تقلّ كارثيته عمّا وقع شـبيهاً له في مناطق أخرى من أنحــاء العـالم ، سواءاً في أوكرانيا أو في قطاع غزة وهو جزء من دولة فلسطين المحتلة. إذ المتوقع أن بلتفـت المجتمع الـدولي للمآســي والكوارث ، وبذات القدر من الاســـتجابة لوقــف تصـعـيد الحروبات وضحاياها من قتلى ومن جرحى ، ومن إهلاك للزرع والضرع ولإفـناء للموارد
وللثروات .
ليس ثمة مفاضلة بين شعب و شعب ولا بين قتل وقتل ، ولا بين إهلاك وإهـلاك، إنما للبشرية ضمير واحـد لا يستيقظ هنا أو ينام هناك، ومـا نطــق الفرنســيون إلّا عــن حـق فـي توصيفهم لحرب السودان أنها الحرب المنسية، وليس في ذلك ما قد يغضب السودانيين ولا فيه ما يدين طرفاً من الإطراف، بل هو تذكير للإلتفات لكارثة إنسـانية على المجتمع الـدولي أن ينبري لمعالجتها بما في مواثيقه وتعهـداته ما يعزّز صحوة الضمير الإنساني لإيقـاف نزيف الدّم في كلّ مكان : في أوكرانيا وفي غـزّة أوفي الســودان ، بل في أيّ مكان تنتهـك فيه حقـوق البشر، أطفالاً ونساءاً ورجالا ، وتهدر استحقاقاتهم في الحياة. .

22/2/2024

jamalim@yahoo.com

 

آراء