والعناد أيها السادة والسيدات عنادان، عناد يري فيه الرائي بعين البصر القاصرة التي تصف الذي يقع مداها عليه ،بادئ الأمر، هلامياً غير مكتمل الصورة، ومختلط الهيئة والمعالم فيخاله من بعيد ما هداه الخيال إليه، بتأثير الرغبة والهوي والأمنيات أحيانا وبفعل البيئة الطبيعية المادية أو المحيط الثقافي الغالب أحايين أخري، فيجزم أنه شيء بعينه ويجادل بصحة دعواه قبل أن تتكشّف الرؤية الحقيقية ويحل اليقين محل الظنون؛ فيكون حاله كمن رأي شبحا بعيدا يتحرك فظل خياله رهين الواقع الذي يعيش فيه، واقع أثمن ما فيه الدواب والأنعام ،فرأي في الشبح البعيد عنزة صهابية العثنون ( ذقن للعنزة أصهب) ، مكتنزة يكاد لبنها يتدفق بلا حلب فصاح بصوت جهير : عنزة ورب الكعبة! فقال له نظارة أُخر، أحد بصراً ، وأكثر صبراً وروية ، من قرائن يرونها في الشبح البعيد: إن الأمر ليس كما يري فلعل ذلك البعيد طير من هذه الطيور الضخمة كطائر الرخ الذي تحدثت عنه الأساطير. استشاط الرجل غضباً من مقالتهم ولزم مقالته الأولي مزمجراً: قلت عنزة ..عنزة . ولم يلبث ذلك الشئ المحجوب عن اليقين القطعي بحكم المسافة، أن حلق في الفضاء الفسيح طائرا بجناحين لا تخفيهما خافية. فغلب العناد صاحبنا فلم يتزحزح عن زعمه فيتجمل بالإقرار كفعل العقلاء، بل صاح بالعبارة التي سارت بها الركبان في الزمان القديم والأسافير في زمان الناس هذا ولا ندري بم الذي ستسير به مخترعات التكنلوجيا غداً من وسائط الاتصال: عنزة ولو طارت ! . أما كيف تحولت العنزة إلي كروان يطير فنقول إنه الضرب الأول من هذا العناد النابغة الذي عنينا منذ حين! ومن هذا الضرب من العناد نوع حميد لا يترتب عليه الضرر علي بقية الخلق بل يظل صفة لمن يتصف به رجلاً كان أم امرأة يتندر الناس بها فيحاذرون من منقولات من يتصف بها ومن أحكامه علي الأشياء فيتثبتون فيما يروي عنهما إلا إذا تسللت مروياتهما إلي وسائط النقل الحديثة فألحقت بالأبرياء والبريئات الضرر وذاك أصل المقولة المتداولة: آفة الأخبار رواتها! لكن ضروباً من هذا النوع من العناد قاتلة مميتة منها ما روي عن طرفة بن العبد ذلك الشاب الشاعر المجيد الجموح الموهوب، بعد أن بلغه أن هجاءه عمرو بن هند قد بلغ مسامع الملك وأن الملك قد أضمر له الشر. قال طرفة يصف الملك بأبيات لا يصفح عن قائلها إلا حليم ذو سطوة أو نبي مرسل متأدب بأدب الخالق تسبق رحمته غضبه:
ليت لنا مكان الملك عمرو رغوثا ( نعاجاً) فوق قبتنا تخور يشاركنا لنا رخلان فيها وتعلوها الكباش فلا تنور
ثم عرج علي شقيق الملك واسمه قابوس ( وكان من شدة استهتار هذا القابوس بقداسة الحياة صاحب يوم بؤس) يهجوه قائلاً:
لعمرك إن قابوس بن عمرو ليخلط ملكه نوك (حمق) كثير لنا يوم وللكروان يوم تطير البائسات ولا نطير
يشير إلي يوم بؤسه الذي إذا صادف بشراً فيه أو حيواناً أو طائراً قتله. والجلي الواضح أن البائس الحقيقي ولد أو بنت آدم لا كما قال طرفة، لأن الطائر قد يفلت بالطيران فهو أوفر حظاً لكن طرفة شاعر يتفنن ويعبث كيف يشاء، شأن الشعراء النوابغ في كل عصر ومصر، وبعض الفنون جنون تمقت الرتابة وكل أمر مستقر فتروم من المعني عكس الذي تفصح به .لكن النبوغ قد يعمي البصيرة بالغرور الزائد أو بالاعتقاد الخاطئ أن الناس تقدر ذلك النبوغ وتحتفي به إلى حد الصفح والتجاوز. ومن الحمق أن يراهن المبدع علي ذلك فيضع نفسه مكاناً علياً بعقيدة قوامها الظن وحده بأن الناس مجتمعين يضعونه موضعاً يخاله، بلا دليل أو موثق منهم، فيورد نفسه موارد الهلاك . وفي الناس الحسد والرغبة والنقمة وحب الانتقام. وقَل أن يجتمع النبوغ والفطنة وإلا كيف جاز عند طرفة وقد علم أن ابن هند قد بلغه ذلك الهجاء المقذع الذي فضّل فيه طرفة علي مقام الملك نعاجاً تعلوها الكباش وهي واقفة لا تعترض كالمستمتعة ، ثم يفد عليه ويستلم حكم إعدامه بيديه يحمله إلي عامل الملك في البحرين وقد سبق أن فض خاله ( المتلمس الضبعي)، وكان قد هجا ابن هند مثله ، كتاباً ككتابه وجد فيه حكم الإعدام فتوسل لابن أخته أن يهرب فامتلأ الشاب غرورا وأبي أن يفض الخطاب وقال : لا يجرؤ عليّ!. ألم أقل لكم؟ لقد رفع الرجل من شأن نفسه مقاماً علياً لا تطاله سطوة ملك عرف بالشدة والقسوة معاً. لم يشفع لطرفة نبوغه ولا سطوة بكر بن وائل قبيلته ، التي كانت عزيزة تخشاها القبائل. فقتله عامل الملك في البحرين وهو في ميعة الصبا وشرخ الشباب كما وصفته شقيقته ورثته حين قتل:
نعمنا به خمساً وعشرين حجة فلما توفاها استوي سيدا فخما فجعنا به لما استتم تمامه، علي خير حال لا وليدا ولا قحما
وهو رثاء حسن يحمل في طياته تأسياً. وتعجب العجب كله كيف يقع مثل طرفة في الفخ وهو القائل: وإن لسان المرء ما لم تكن له حصاة على عوراته لدليل
والحصاة المراد بها العقل والرزانة وحصاة اللسان طلاقته.
وهو القائل أيضاً:
تعارف أرواح الرجال إذا التقوا فمنهم عدو يتقي وخليل
لكن الآفة هي هذا العناد الذي قصدنا يغذيه عُجب زائد بالنفس وربما حسن ظن ساذج في تقدير الناس لأهل الكفايات في الفنون والعلوم وألوان الابداع قاطبة وأن ذلك يرقي بهم لمستوي الحصانة والتمييز بينهم وبين سائر الأنام. أما النوع الثاني من العناد فهو عناد متعلق ببقاء الخير ومكارم الأخلاق يستمسك بها الصالحون في كل عصر وملة لا يحيدون عما يعتقدون وإن خالفهم الناس. ذاك نهج التمسه الأنبياء والصالحون ومن صلح من أتباعهم علي مر الأزمان، وذوو الحجي في مختلف الملل والنحل يحفظ الله بهم ما تحفظ به الحياة الإنسانية من الخير والعفاف والعدل والحرية. فبقيت في الناس القيم النبيلة رغم عهود وعقود تضمر فيها ويقل التمسك بها ثم لا تلبث أن تحيا بعد ممات لأنها عصب الحياة لا تستقيم الحياة إلا بها. ولك أن تتأمل ما جاء في التنزيل " أما الزبد فيذهب جفاء". من أولئك من غير الأنبياء والصالحين في ملتنا و في ميدا الإخاء الإنساني كثر يملؤون السهل والجبل . منهم أبو الفلاسفة سقراط وفيلسوف النضال السلمي المهاتما غاندي و تلميذه مارتن لوثر كينق الصغير ،ايقونة الحقوق المدنية في بلاد العم سام ، وبوذا وابراهام لينكولن ونيلسون مانديلا وفولتير الذي قال : " قد اختلف معك في الرأي لكني علي استعداد أن أموت دفاعاً عن حقك في إبداء رأيك". وغيرهم غرسوا ولا زالوا يغرسون للحياة السوية في العدل والخير والمساواة والجمال غراساً يعلو فيظلل الحياة بالظل والسلام والجمال وتعتريه عوارض الزمان فيخبو بهاءه حيناً لكنه يبقي ويعود. لم تنل من عزائم أولئك غلبة الشر وحلكة الظلمة، فدفع بعضهم حياته ثمناً لذلك ودفع آخرون حريتهم ورغد عيشهم فداء للجنس البشري والإنسانية ، فبقوا كالشموع المضيئة تلوح في عتمة الأنفاق المظلمة، يبعثون الآمال العريضة في الخير فتتجاوب معهم شمعات الخير في نفوس الملايين تحفزهم علي العناد النبيل مع الصبر الفاعل الذي لا يستكين في أن الخير باق وإن علا ضجيج هذه الشنشنات التي تريد أن تغير طبائع الأشياء جملة واحدة حتي يري الناس ما ألفو امن الخير شراً وما جبلوا عليه من خصال الخير قديماً لا يصلح لزماننا مع أن الحياة تقوم علي ثوابت راسخات كالجبال الراسيات ومتغيرات أيضا. فلتتسع مساحات هذا العناد الخيّر المستنير إبقاء لما فيه استدامة الحياة والأحياء.