ودمدني مدينة الاحلام ( ٣ ): عبق التاريخ وصدي الذكريات .. سلسلة ذكريات يكتبها :صلاح الباشا

 


 

صلاح الباشا
16 September, 2021

 

* ونحن لا زلنا في النصف الاول من ستينات القرن الماضي.. فإن عدنا إلي مدارس الأهلية الوسطي في حي بانت بودمدني ، والتي تحولت حالياً إلي مدرسة ثانوية بعد إلغاء المرحلة المتوسطة في السلم التعليمي الجديد حيث تقع بجوار ميدان بانت الذي كانت تقام فيه مباريات ( السنتر الليق) وأيضاً تقام فيه إحتفالات المولد النبوي الشريف في ربيع الأول من كل عام بعد أن إنتقلت الإحتفالات من ميدان الملك بجوار نادي الإتحاد إلي ميدان نادي الأهلي القديم ( رعاية الشباب حالياً) بشارع السكة الحديد ومنه إنتقل المولد إلي ميدان بانت منذ منتصف الستينيات وحتي اليوم ، وكنا نسمع أصوات المشجعين بميدان بانت عندما يكون دوري ( الليق ) ساخناً ونحن وقتذاك داخل فصولنا المدرسية بالأهلية في فترة المذاكرة الإجبارية بالعصر.
وفي فسحة الإفطار بالأهلية الوسطي كنا نتوزع علي أماكن بيع الساندوتشات ، فكانت أمامنا عدة خيارات فإما أن نظل داخل المدرسة كي نشتري صحن الفول مع الطعمية من بوفيه عبدالباسط المتعهد ومعه محمد أحمد القصير، وكانت لون بشرته حمراء كالتي يطلق عليها السودانيون ( أولاد ريف) ثم نتناول الشاي من عم خليفة بذات البوفيه في غرفة ملاصقة للبوفيه حيث كان ثمن كوب الشاي بالحليب قرشاً واحداً ، أما كوب الشاي الأحمر بتعريفة _ أي نصف قرش- عندما كان القرش له قوته الشرائية الخطيرة ( الجنيه الواحد يعادل مائة قرش ) وهذه لمعلومية الجيل الحالي الذي لم يسبق له التعامل بتلك الفئات من النقود السودانية الفاخرة . وقد كانت مجموعات كبيرة من الطلاب تفضل شراء الفطور من خارج أسوار المدرسة من خيارات آخري ، وتحديداً كنا ندلف إلي داخل حوش المدرسة الأولية للبنات التي تجاور مدرستنا الأهلية (ب) كي نشتري ساندوتشات الخالة ( الشايقية) ، فقد كان فطورالشايقية يُضرب به المثل لسنوات عديدة ويتذكرها كل أبناء ودمدني الذين عايشوا تلك السنوات ، كان إفطار الشايقية حلو المذاق حيث كان يتكون من سلطة الباذنجان الأسود مع الطعمية مع الدكوة الحارة ، وفوق ذلك كان سعره هو قرشاً ونصف القرش. وكان الساندوتش كبير الحجم ومشبعاً جداً وحلو المذاق للدرجة التي لا يمكن نسيانها مطلقاً ، أما إذا أردنا الإفطار بالطحنية فلا بد من الذهاب إلي دكان اليماني في ركن المدرسة الأهلية الجنوبي الشرقي لشراء ساندوتش طحنية مع زجاجة الليمون البارد بقرش ونصف أيضاً. ولكن عندما نريد الزوغان البعيد عن المدرسة لأي سبب فقد كنا نسجل حالة مرض بعد طابور الصباح ونذهب بدفتر العيادة إلي مستشفي مدني حيث كنا نترادف في البسكليتات ، ومن المستشفي نخترق شوارع السوق الكبير كي نستمتع بوجبة فول ساخن – ومصلّح- من بوفيه ( أبوظريفة ) أو من بوفيه العم ( كِشك ) حيث كانت شهرتهما تصل إلي عنان السماء في صناعة الفول وكان سعر طبق الفول قرشان فقط . وأبو ظريفة الآن لا وجود له في عالم الفول فقد تحول إلي كافتيريا ثم أغلق ، غير أن أبناء المرحوم كشك قد واصلوا المسيرة ولا زال المحل يتربع علي عرش الفول في سوق المدينة حتي اللحظة ، ولا تزال أصناف السلطة والمحدقات والشمار والطعمية وزيت السمسم تشكل مكونات وجبة الفول عند مطعم أولاد كشك، ولايزال الموظفون والعمال وموظفو البنوك وأهل السوق والمتسوقون يزحمون المحل في ساعة الإفطار يومياً .
أما إن أردت وجبة السمك ، فدونك مطعم العم حسن جاد الله المتخصص في هذا الشان حتي اللحظة ويديره ابناؤه الان. وإن كانت جيوبنا المتواضعة تكتنز بمبلغ خمسة قروش إضافية مثلاً فإننا كنا ندلف بعد تناول وجبة الفول إلي محل الحلواني الوحيد في المدينة والذي كان يجاور مكتبة سيد مضوي الحاج الحالية بشارع الجمهورية لكي نشتري كأس آيسكريم المثلج بأربعة قروش فقط ، كان الآيسكريم جديداً علينا وهو يفيض بنكهة الفانيليا اللذيذة وكان لونه ناصع البياض ، ويتم تقديمه لك وأنت جالس مثل الشخص المهم علي الكرسي وأمامك الطاولة ، كما يمكنك أن تنظر بالكامل إلي نفسك في المرايا الكبيرة التي تشغل حيزاً كبيراً من الحائط داخل محل الحلواني ذاك.
ذات مرة وكنا وقتها في نهائي المرحلة الوسطي( السنة الرابعة) كانت هناك مباراة في نفس اليوم بين الأهلي والإتحاد في نهائي الدوري المحلي (1965م) ، وقد كنا في الفصل منقسمين كطلاب بين تشجيعنا للناديين ، حيث كان صديقنا في الفصل علي عباس كبوش زعيم الطلاب الأهلاوية ( وقد لعب له فيما بعد) و يرافقه أصدقاؤنا معاوية عبدالكريم ود.عبدالرحمن حامد الجبلابي والمرحوم صابر محمد صلاح والمرحوم كمال سالم وعثمان الأمين وميرغني أحمد جمعة والسر الله جابو وغيرهم ، وكنا نحن نشجع الإتحاد بزعامة صديقنا كابتن خالد السيد وهو الشقيق الأصغر للعم الراحل كابتن التوم سيد الذي كان يحرس مرمي الإتحاد ومعه المرحوم إبراهيم بدوي كحارسين أساسيين في ذلك الزمان ، وفيما بعد إنضم خالد كحارس للإتحاد ثم الموردة أم درمان ثم إلي دولة قطر . والمهم في الأمر أن هنالك أستاذاً كان يدرسنا اللغة العربية والتربية الإسلامية ، ولعل قدماء الرياضيين وأهل مدني يذكرونه جيداً وهو الأستاذ الكابتن عبدالرحيم الشيخ ( ودالشيخ) الذي أتي من المريخ إلي الأهلي مدني مرة أخري وهو من قرية الشيوخ (ابوحراز) علي الضفة الشرقية للنيل الأزرق وكان ودالشيخ هذا يلعب أيضاً في المنتخب القومي وله مباراة شهيرة ضد المنتخب المصري في خمسينيات القرن الماضي في منافسات كأس الأمم الأفريقية حيث تم تشبيهه بالغزال في سرعته الفائقة حسب تعليق المعلق المصري الراحل كابتن محمد لطيف ( عبدالرحيم الشيخ في جريه كالغزال) ، كنا بالصباح بالمدرسة نقول للأستاذ ودالشيخ في يوم المباراة تلك من باب المزاح بأنه في مساء اليوم لن يستطيع أن يفعل شيئاً مع ظهير الإتحاد الأيمن وقد كان وقتها هو الكابتن النجم اللامع ( دورية) الذي يحلو لمشجعي الإتحاد أن ينادونه بلقب ( دوري) ، وودالشيخ يلعب في وظيفة الجناح الأيسر طبعاً ، فكان رد الأستاذ ودالشيخ لنا بأن (دورية بتاعكم ده .. الليلة حأقلبو ليكم كركون) . كان أستاذاً رائعاً ودالشيخ هذا ، وقد درسنا علي يديه التربية الإسلامية والعربي بالسنة النهائية بالأهلية ( ب) بمثلما كان هدافاً متميزاً بالاهلي ومن قبله مريخ العاصمة .
وبعد نزل إلي المعاش قبل عدة سنوات فقد قابلته كثيرا وقد أصبح مأذونا شرعيا لزيجات المدينة .
ونواصل ،،،،
bashco1950@gmail.com
////////////////////////
السودان في مأزق مخيف ! .. بقلم: الفاضل عباس محمد علي
لم يتبق شيء من ثورة ديسمبر إلا إسمها وما سطر شعراؤها،وجذوتها المتقدة في قلوب مفجريها الذين أطبقت عليهم الحيرة وألجمت ألسنتهم علامات الاستفهام المتعددة، وهم يرون ثورتهم تتحنّط وتتبخّر وتنزلق من بين اصابعهم لتصبح ملكاً عضوداً.....بفعل من تسلّلإلي قيادتها من ممثلي الأحزاب، مثل حزب الأمة وبعث الشيخ السنهوري وغيره من (أحزاب الفكه)؛ثم أخذ هؤلاء يضعون أيديهم في يد القوي الرجعية، إلي أن تكللت تلك الجهود بالطامّة الكبري – اتفاق جوبا – الذي شرعن المحاصصة في كل شيء، مستخفاً بالوثيقة الدستورية التي نصت علي جهاز تنفيذي من التكنوقراط المحايدين غير الملوثينً من قبل النظام المقبور،وعلي مجلس رأس دولة تشريفي مناصفة بين العسكريين والمدنيين، ورئاسته بالتداول بينهما؛ ولقد بني هذا الباطل علي باطل آخر - اتفاقية جوبا المخالفة لنص وروح الدستور الانتقالي، والتي لم تتم استشارة الشعب السوداني حولها، ولم تشمل قوي حقيقية حاملة للسلاح ومقيمة فوق أراضيها المحررة بجبال النوبة وجبل مرة، بقيادة الكماندر عبد العزيز الحلو والمناضل عبد الواحد محد نور.
وهكذا، تولت البلاد منذئذ حكومة هزيلة ناتجة عن محاصصات وترضيات وتوازنات سياسية ومناطقية وإثنية وحزبية وقبلية جاءت بعد شهور من اللت والعجن والمجابدة، (وجاءت فيما جاءت بسبعة وزراء من قبيلة واحدة – الزغاوة – غض النظر عن مؤهلاتهم وتاريخهم النضالي)، وأصبح ذلك هو الديدن لكافة أنواع القرارات البنيوية الهيكلية والمتعلقة بالسياسات والتكتيكات المرحلية والاستراتيجية، (مثل خيار الارتباط بفكر وتطبيقات اللبراليين الجدد ربائب الاستعمار الغربي، ومثل عقد الصفقات وبيع الإقطاعيات الضخمة لدول أجنبية ليست بالضرورة صديقة لشعب السودان)، مما جعل الجرجرة طقس دائم، وأربك أداء الحكومة بمجلسيها، وأصابها بالتلكؤ والتكلّس والكساح والتخبط والعجز: (حقيبة وزير التربية مثالاً التي ظلت شاغرة منذ ما يقرب العام).
وتجأر وتزمجر العديد من الحناجر مطالبة بتكوين المجلس التشريعي باعتباره المنقذ من ضلال الحكومة والمكون العسكري، والعائد بسفينة الثورة لمجراها الحقيقي. وتلك فرية كبري وفخ نصبته قوي الثورة المضادة ودفعت نحوه القوي التي وجدت نفسها صاحبة الثقل بالهياكل القائدة للوضع الانتقالي:
• فهذا المجلس المزعوم سيأتي مثله مثل الحكومة الراهنة ومجلس السيادة ولجنة آلية حمدوك، نتاجاً للمحاصصة البغيضة التي فعلت بنا ما فعلت حتي الأن، وعطلت سير الثورة، بل اختطفتها بالكامل.
• أي مجلس غير منتخب بالضرورة غير ديمقراطي ولا يمثل إرادة الشعب.
• إنه مجرد استفحالللترهل الموجود:أعداد خرافية من الدستوريين يزحمون الأفاق دون مردود محدد في شكل تحسين أحوال الناس المعيشية ورفع الضائقة وتنفيذ مطلوبات ثورة ديسمبر. (لا شغل ولا مشغله).
وحتي لو تمت أي انتخابات في الظروف الفوضوية الهلامية الراهنه، وفي وجود الدولة الكيزانية العميقة بشحمها ولحمها، وفي غياب الأحزاب المحدّثة التي نقدت نفسها واستفادت من أخطائها، والمتكئة علي المؤسسية، باستثناء المؤتمر السوداني الذي جاءت قياداته بالانتخاب الديمقراطي وفقاً للعطاء النضالي، (والذي، علي كل حال، تؤخذ عليه الطبزة الكبري، أي الاشتراك في حكومة المحاصصة الراهنه، غاضاً الطرف عن المخالفات الدستورية المذكورة)، فإن العواقب ستكون غير سليمة وليست في مصلحة الثورة بأي حال من الأحوال، بل هي قفزة في الظلام فد تأتي بمجلس تشريعي يكون أول قراراته مد الفترة الانتقالية لعشر سنوات، لاستدامة أوجاعنا، وهذا ما ظل يهمس به بعض (المكنكشين)، من النوع الذي قام من نومه ولقي كومه.
والحالة هذه، يتساءل الوطنيون الحادبون والمراقبون عن المصير الذي ينتظرنا:
• إذ أن الانقلاب العسكري بالطريقة التونسية غير وارد، فجيشنا ليس علمانياً كالجيش التونسي، والذي قاد الانقلاب هناك رئيس جمهورية منتخب من الشعب انصاعت له وتناغمت معه القوات المسلحة؛ أما جيشنا فهو ما زال إقطاعية رأسمالية كبري تحت سيطرة الإخوان المسلمين الذين يشكلون غالبية ضباطه العظامtop brass بل ورتبه المتوسطة والصغري، وكذا الحال بالأجهزة المصاحبة مثل الأمن والاستخبارات.
1. وهل يمكن أن يحدث انقلاب عسكري بالرغم مما ذكرنا أعلاه؟
فعلاً، من المحتمل أن تقوم به كتيبة واحدة تشبه المارينز الأمريكية، عالية التدريب وممتازة التسليح وقوية التوحيد حول عقيدة عسكرية محددة؛ ولا ننسي أن الإخوان المسلمين استولوا علي السلطة في 30 يونيو 1989 بنيف ومائة مجند وأربع دبابات صلاح الدين وبضع حاملات للجنود. المهم في المؤامرة هو التوقيت والمباغته والسرية الكامله والعملية التمويهية. وعلي ذلك، قد تفكر جهة ما في (إنقاذ) السودان مرة أخري، فتقدم علي خطوة من هذا القبيل وتدّعي أنها تمثل القوات المسلحة بكل فروعها، وقد تنطلي علينا للمرة العاشرة، فنحن قوم طيبون، نقول: (المؤمن صديق "بكسر الصاد وتشديد الدال"، ونقول: المؤمن إذا خدعنا لانخدعنا له).
2. وتزعم بعض القوي الحية، وقد كنت طرفاً في فعالية من هذا القبيل: التغيير بمعني الاصلاح من الداخل ممكن، فقط علينا تحريك الشارع من خلال النقابات الشرعية ولجان الأحياء المضمونه؛ ولكنا إن فعلنا ذلك وجمعنا الحشود كما حدث يوم ثلاثين يونيو الماضي، فإن الشارع سوف ينقسمعلي الفور بين الداعين لإسقاط النظام برمته، والداعين لترميمه فقط، وبالأطراف مجموعات السابلة غير المسيّسة التي لا تعرف ماذا تريد تماما. ومن ناحية أخري فإن تجميع لجان الأحياء والنقابات الشرعية وفرزها وتنظيمها سوف يستغرق شهوراً عديدة، بينما تواصل أحوال الناس المعيشية في التردّي، حتي بتنا علي شفا مجاعة مثل تلك التي ضربت منطقة الساحل الغرب إفريقي (خاصة دارفور) عام 83 و19084 والتي ضربت الصومال وأوقادين وإقليم التقراي حالياً.
3. لا أري حلا منطقيا يخرجنا من عنق الزجاجة إلا بعقد مؤتمر استنائي فوري لقوي الحرية والتغيير مرفوداً بالشخصيات الوطنية المعروفة بمقاومتها لنظام البشير لآخر لحظة، بحضور المكون العسكري، للاتفاق علي الأتي:

• إلغاء اتفاقية جوبا ومعاملتها كأن لم تكن، والعودة لليوم السابق لتوقيعها، وبالتالي إلغاء كل التعيينات التي تمت بموجبها، والدعوة لمؤتمر سلام شامل جديد بالداخل.
• تكوين حكومة ومجلس رأس دولة رشيقين، وتعيين كل الوكلاء والمدراء الجدد في دولاب الحكم قبل انفضاض المؤتمر.
• القيام فوراً بإرسال المطلوبين إلي محكمة الجنايات الدولية بلاهاي، وعقد محاكم عسكرية إيجازية لمن تبقي من رموز نظام البشير، والإعلان الفوري لنتائج التحقيق في مجزرة فض الاعتصام وتقديم المسؤولين عنها للمحاكمة قبل فض المؤتمر.
• إعلان سياسة اقتصادية إسعافية جديدة واجراءات تقشفية خاصة بالمناصب الدستورية.
علي كل حال، لن تستمر الأمور بطريقتها الراهنة لوقت طويل، ومن المؤكد أن الإنقلاب العسكري يلوح في الأفق، فهلا استبقناه بإجراءات ثورية مثلما أوردنا أعلاه. والسلام.

fdil.abbas@gmail.com
//////////////////////////////////

 

آراء