ورقة الدكتور/ غازي صلاح الدين العتباني التي قدمها في ورشة عمل الإنتخابات ومستقبل الممارسة السياسية في السودان بعنوان “آفاق الممارسة السياسية في السودان”

 


 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

آفاق الممارسة السياسية في السودان
"تحديات الإصلاح السياسي في السودان بتصويب نحو إصلاح الحركة السياسية الحزبية"

بسم الله الرحمن الرحيم، نحمده على نعمه التي لا تعد، ونسأله أن يجمعنا على الهدى ويدلنا على مواطن الحق: "وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون".
التحية والشكر للسيد رئيس الجمهورية ورئيس اللجنة العليا لإنفاذ مخرجات مؤتمر الحوار الوطني لمبادرته بالدعوة إلى قيام هذه الورشة المهمة، ويمتد الشكر إلى الأخ إبراهيم محمود،مساعد رئيس الجمهورية، ونائب رئيس اللجنة، كما نوجه التحية إلى الإخوة أعضاء اللجنة. السيدات والسادة الحضور جميعاً، السلام عليكم.
ها قد قامت الورشة بعد أن شكك في قيامها كثيرون، وهذا فأل حسن. أما وقد قامت، فلم يبق إلا واجب الإدلاء فيها بأخلص نصيحة وأعدل شهادة، ونتطلع بالمقابل إلى أن تجد التوصيات المتفق عليها في هذه الورشة القبول والتطبيق على أرض الواقع.
كثير من التقريظ والثناء واجب في حق منظمي هذه الورشة الذين حركوا بها أجواء سياسية راكدة. السياسة لا تقبل الفراغ لأنها في أبسط تعريفاتها مدافعة حية ونشطة بين وقائع يومية مكرورة تجر جر الإنسان بسلاسل العادة، تنازعها وقائع أخرى متجددة وغلابة، واختياراتنا بين هذا وذاك هي ما نسميه فن الممكن. يجب ألا نوقف الحوار والجدل أبداً، فهما منبع التجديد والأفكار والطريق إلى المعرفة التي لا يتقدم الإنسان ويرقى بدونها.
قيام هذه الورشة ليس مضاهاة لما جرى التوافق عليه من توصيات الحوار الوطني الذي رعته الحكومة ووقعت علي وثيقته النهائية قوى موالية للحكومة وأخرى معارضة لها. الأحرى والأجدى وصف الورشة بأنها عمل سياسي لإحياء الحوار وتفصيل معانيه ومكتسباته والتشاور حول تنزيله وتيسير فهمه وشرح مقتضياته العملية ونحن نقترب من انتخابات 2020. الورشة كذلك يمكن أن تقيم جسوراً للتواصل بوسائل أهلية بين من تعذر التواصل معهم في الفترة الماضية، أو هذا هو ما ينبغي أن نفهمه. المرجو تحصيله من هذه المساهمة أكبر من أن ينجز في الوقت المخصص لها، ولذلك سأقسمها إلى خمسة أجزاء مختصرة:
الجزء الأول مقدمة عامة حول مفاهيم إصلاح الدولة والحركة السياسية؛ الجزء الثاني يختص بدراسة مقارنة حول نظم تسجيل الأحزاب وإدارة الانتخابات؛ الجزء الثالث يختص بوصف التجربة السودانية النظام السياسي وفي التعامل مع الأحزاب والانتخابات؛ الجزء الرابع يعالج مسألة توحيد القوى السياسية كسياق مهم وواعد لحملة الإصلاح، والجزء الخامس والأخير يعنى بالتوصيات.

- الجزء الأول
مفاهيم أساسية حول الإصلاح
للتيسير، يمكن إعادة عرض موضوع الإصلاح السياسي، بحيث يندرج تحت عنوانين كبيرين: أولهما إصلاح الدولة، أو إصلاح نظام الدولة، بحيث تؤدي واجباتها بعدالة وكفاية، وثانيهما هو إصلاح الحركة السياسية . الحركة السياسية تعبير فضفاض يشمل قادة الدولة. هؤلاء مهمون للغاية لأن الذي يدير الآلة هو الذي يبطئها، أو يسرّعها، أو يوقفها، أو يسوقها نحو الهاوية. الناس تعجبهم الآلة لغرابة تركيبها وعجائب صنعتها، فينصرفون إلى العناية بها وتزيينها بأغرب أنواع الزينة، ويتركون الإنسان وينشغلون عنه، مع أنه هو صانع الآلة ومحركها ومعطلها إن شاء. لذلك إن أي حديث عن الإصلاح لا يشمل إصلاح الإنسان هو إصلاح موهوم،وجهد في عدم، حال صاحبه حال الذي يجمع الهواء في الشبك.
نتوقف عند نقطة منهجية مهمة وهي أن إصلاح الدولة يكون بالمعالجات البنوية الكلية، يعنى بترسيخ مفاهيم الرشد في السياسة والحكم على مستوى القواعد والأساسيات فكلما تجذر الإصلاح صار أثره ووجوده محسوساً تلقائيا. مثال للكليات الإصلاحية هو بناء مؤسسات الدولة بناء حديثا، ونظْم علاقاتها القيادية، مثل علاقة الرئاسة بالبرلمان؛ ومن الكليات أيضاً طريقة إتخاذ القرار وإنفاذه. هذا التركيز على الكليات مهم لأننا لو زحمنا نقاشنا بتفاصيل ما ينبغي إصلاحه فستضيع المسائل الجوهرية، وربما صحَ فينا الوصف الطريف للشاعر المتنبي، حين يقول فيمن يدعي التجشم لأمر عظيم فتطيح به عقبة صغيرة:
يشمر للّجّ عن ساقه ويغمره الموج بالساحل
الكليات البنيوية التي يدور عليها إصلاح الدولة: ويمكن بتبسيط غير مخل أن تحتويها ثلاثة عناوين:
البناء المؤسسي
تقييد السلطة
الرقابة

البناء المؤسسي:
الدولة الحديثة مفاهيم ونماذج تتجسد باطراد في مؤسسات تؤدي وظائف مهمة للمجتمع. وتنضبط بقوانين تتطور باستمرار حسب تطور المؤسسة أو المرفق المعنى. من مؤسسات الدولة الحديثة المعروفة القوات المسلحة مثلا، والقضاء، والخدمة المدنية، وديوان المراجعة العامّة، والمفوضيات المختلفة، ومؤسسات أخرى كثيرة.
المعنى الجوهري لتعبير مأسسة الدولة هو تنزيه المفاهيم والنظم والعلاقات االتي تسيّر الدولة من هوى الأفراد، ومحسوبية الأسرة أو العشيرة، وتحكم الطائفة أو الحزب، لتصبح تقاليد ونظم حديثة عالية الأداء، كاملة الحيدة. لهذا قام بعضهم بتلخيص هذا المعنى في عبارة: "نحن نحتاج إلى مؤسسات قوية أكتر مما نحتاج إلى أشخاص أقوياء".
هذا التطور في نظم الإدارة كان أصلاً يمضي باطراد في المجتمعات المتقدمة تقنيا، لكن سرعته تضاعفت بدخول التقنيات الإلكترونية التي أنتجت في وقت وجيز الحكومة الإلكترونية التي تكفلت بدرجة كبيرة بالقضاء على نسبة عالية من الأدواء المعهودة في الإدارة والخدمة المدنية. هذه التقنيات التي تسيّر الدولة بكفاءة أصبحت حتى في متناول الدول الفقيرة.
. لاشك أن هذه النظم الآلية المتطورة التي لا تعرف أبعاداً إنسانية في التعامل تطرح أسئلة ومشكلات أخلاقية مهمة، لكن هذا خارج نطاق سؤالنا المباشر الآن.

تقييد السلطة:
يكتسب مفهوم تقييد السلطة رواجاً كبيراً على حساب مفهوم تركيز السلطة الذي كان سائداً في الماضي باعتبار أن تركيز السلطة في يد فرد أو حزب سيؤدي حتماً إلى فساد كما عبّرت مقولة: "السلطة مفسدة، والسلطة المطلقة مفسدة بإطلاق.". تقييد السلطة يعني إنه ليس هنالك صاحب منصب لديه سلطة أكثر مما هو ضروري لتصريف الأعباء المخصصة له في الدستور. هذا المفهوم ينطبق أيضاً على مؤسسات الدولة وأجهزتها: لا ينبغي أن يكون لأي مؤسسة ولا جهاز من أجهزة الدولة ومؤسساتها صلاحيات مطلقة وسلطات متضخمة تجعله يعيق سلطات المؤسسات والأجهزة الأخرى وقدرتها على تصريف أعمالها. تقييد السلطة يعني أن السلطات والصلاحيات تتوزع بين المؤسسات والمناصب المختلفة بتوازن دقيق . لكي ينجح مبدأ تقييد السلطة يجب أن يتم الالتزام بمبدأ فصل السلطات.

الرقابة:
الرقابة هي خط الدفاع المتقدم للدولة من أهواء حراسها أو غفلاتهم، وهي التي تشكل نظام الوقاية والمناعة الذي يحمي نظام العمل. والرقابة نوعان: رقابة ذاتية، او داخلية، أي من داخل المؤسسة أو المرفق أو الجهاز؛ ورقابة خارجية، من خارج المؤسسات. الرقابتان، الداخلية والخارجية، تقومان بإجراء عمليات تقويم وتقدير مستمرة لأمرين: أولاً، كفاءة أداء المؤسسة من ناحية مهنية؛ وثانياً، انضباط المؤسسة بالقوانين والإجراءات المالية. البرلمان هو أهم جهاز للرقابة في الدولة. والبرلمان القوي لا يسمح بأي تلاعب أو تقصير من قبل الجهاز التنفيذي في أداء واجباته .
هنالك أجهزة رقابة غير رسمية تزداد أهميتها كل يوم في مجال الرقابة لدرجة إنها أصبحت تتفوق على نظم الرقابة الرسمية. من أهم هذه النظم في عصرنا أجهزة الإعلام والصحافة تحديداً. وما يسمونها الصحافة الاستقصائية أصبحت واحدة من أهم أدوات كشف الجرائم خاصة التي يرتكبها أصحاب النفوذ. أخيراً، تتموضع منظمات المجتمع المدني الآن في موقع متقدم من نظام الرقابة وتستوعب تيارات في المجتمع توجهها نحو مهام جديدة وتشكيل حضور كبير في عالم السياسة. هذه المنظمات اصبحت تتكاثر كما لم تفعل في كل تاريخها، بعضها منظمات رقابة على حقوق الإنسان، والبعض الآخر منظمات رقابة على البيئة، أو المرافق العامة مثل المواصلات وخطوط الطيران والمستشفيات وعامة الخدمات.
هذا المختصر عن إصلاح الدولة ينقلنا مباشرة إلى موضوعنا الرئيس وهو إصلاح الحركة السياسية؟

الحركة السياسية يقصد بها الطبقة القائدة في مجتمع ما بتشكيلاتها القانونية (كالأحزاب المسجلة وبعض منظمات المجتمع المدني)، والعرفية (كالمجموعات الدينية والدعوية، والمجموعات السكانية الناشطة سياسياً). ويدخل في تعريف الحركة السياسية المفاهيم النظرية التي يأتلف حولها المؤيدون والأتباع، ومعايير الانتماء، ونمط التكوينات التقليدية أو المبتدعة التي تنظم حركتهم، والقيم الثقافية التي تملي استجاباتهم وانفعالاتهم، والضوابط الأخلاقية التي يحتكمون إليها. وبالطبع نهج القيادة واحد ن تلك الأشياء.
من أهم وظائف الحركة السياسية أنها تقود الدولة من خلال إعداد القادة المؤهلين الذين تدفع بهم إلى الساحة العامة، وإذا لم توجد حركة سياسية تنتج قادة مؤهلين ذوي خبرة وتجدد انتاجهم ستتعطل الدولة وتخمد الحياة تدريجياً في المجتمع، وتسود الاتجاهات المحافظة المتزمتة، وتموت ملكات الإبداع والتجديد وينطفيء في الصدور روح الرسالة، حتى لا تكاد تستطيع أن تنسب حال الأمة القائمة اليوم إلى عظمتها التي عرفها التاريخ. (يمكن إدراك ذلك بالنظر إلى حضارات كالمصرية، والحتية، والآشورية، وبالطبع، وفي المقدمة، الإغريقية).

تأسيساً على ذلك فإن إصلاح الحركة السياسية يستهدف الاتفاق على ما يلي والالتزام به:
القيم والمبادئ والممارسات التي يتوافق المجتمع على اعتبارها محدداً لسلوك السياسيين ورجال الدولة.
تكريس الممارسة الديمقراطية في داخل القوى السياسية وفي نظمها ووثائقها.
تعزيز الكفاءة الوظيفية للحزب كآلية للتجميع والتنظيم، وكمؤسسة مسئولة عن إصدار القرارات وتحمل مسئوليتها، وكأداة لتشكيل المبادرات.
تكوين الكوادر والقيادات وإعدادها من خلال نظم التدريب.
تشجيع المساهمة في إنتاج أفكار مبتكرة وقادة جدد.
توفير نظم تمويل عادلة للأحزاب بحسب فاعليتها، وانتشارها وقاعدة وجودها.
تركيز الكتل السياسية في أقل عدد ممكن عبر تشجيع اندماج الأحزاب.
إصدار التعديلات الدستورية والقوانين والتشريعات والسياسات التي تضمن تنفيذ كل ما يتفق عليه من البنود أعلاه؛
مساهمة كل القوى السياسية في التخطيط والتنفيذ لهذا المشروع المصيري.

الاتفاق حول هذه النقاط يستدعي مشاركة الجميع في المراجعات النقدية الشجاعة للتجربة السياسية السودانية واستلال الدروس منها والاعتبار بدلالاتها؛ كذلك يعني الاتفاق إعادة تأكيد الثوابت المبدئية والأخلاقية التي ينبغي أن يقوم عليها المشروع السياسي الوطني وتجديد الالتزام بها.

- الجزء الثاني
مقارنات بين طرق التعامل مع النظام الحزبي وإجراء الانتخابات
بعد هذا التأطير النظري من المفيد أن نتحول لنلقي نظرة سريعة نحو بعض التجارب الحية في التعامل مع الأحزاب ومع الانتخابات. فائدة هذه المقارنات هي في الدروس والحكم التي سنستخلصها من تجارب الأمم الأخرى. وكم سيكون مثيراً للاستغراب أن ندرك مقدار التطابق بين المواقف والمعتقدات السالبة المشتركة تجاه الحزبية والأحزاب مثلاً بين شعوب لا يجمع بينها هي نفسها إلا العداء. ودراسة هذه التجارب ليست للتقليد الأعمى والافتتان بها، وإنّما لمعرفة أين أصابت وأخطأت والاعتبار الواعي بذلك عند وضع الأجندة الخاصة بنا.
عند إجراء المقارنات سيدهش المرء حين يجد أن الدستور الأمريكي مثلاً ليس فيه أي إشارة للأحزاب، لا سلباً ولا إيجاباً. المستند الدستوري لقيام الأحزاب هو فقط البند المسمى "التعديل الدستوري الأول" وهو البند الضامن لحرية العقيدة والتعبير والتجمع. بل إن من يسمون الآباء المؤسسون للولايات المتحدة الأمريكية كان موقفهم سلبياً للغاية من الأحزاب التي اعتبروها مفرقة للإرادة الوطنية، وكان أشدهم حملة عليها هو أكبرهم ( واشنطن) الذي وصف الأحزاب بصفة تعني أنها شيء كالوباء الذي يأتي عقوبة سماوية. لقد رأوا في ( الفصائل ) وهو الاسم الذي أطلقوه على الأحزاب شراً كبيراً لأنها تمثل مصالح الأقلية المتنفذة في المجتمع على حساب مصالح العامة، الذين هم أغلبية المجتمع . في السياق المعاصر هذا المنطق لا يبعد كثيراً عن دفوعات اليسار واليمين السياسي ضد الديمقراطية الليبرالية، التي تتخذ من الفرد مناطاً للحقوق، وفي حماستهم للديمقراطية الاجتماعية التي تقدم الجماعة على الفرد.
من المثير للاهتمام كذلك ملاحظة أن النظام الانتخابي في النموذج الأمريكي القائم على مبدأ "الفائز يحتكر الجوائز" مصمم ومنحاز لمصلحة نظام الحزبين إذ أنه بالكاد يسمح لحزب ثالث بدخول ساحة المنافسة ولهذا لم يبرز حزب ثالث يعتد به خلال أكثر من قرنين من الزمان. وهذا أورث النظام استقرارا كبيراً ولكنه أقصى مجموعات كبيرة من الناخبين بما قد يثير جدلاً حول عدالته. الحكمة المستفادة من هذا هو أن العدل لا يتحقق فقط بالإجراءات والشكليات الانتخابية ولكن يتحقق قبل ذلك بالنظرية التي يحدد على أساسها النظام الانتخابي.
عند عقد المقارنات بين النظم السياسية سنركز على مسألتين: أولاً، الأحزاب وتسجيلها وعملها وعلاقاتها مع بعضها البعض وعلاقاتها بالدولة، وثانياً النظام الإنتخابي، ويشمل تقسيم الدوائر، وإعتماد صيغة الحر المباشر أم التمثيل النسبي أم أي خليط بينهما، المعيار الموجه هو تحقيق أكبر فاعلية للعملية السياسية مع تحقيق العدل كهدف مصيري.
في كل التجارب التي أخضعناها للدراسة لا توجد هيئتان منفصلتان، كما هو الحال في التجربة السودانية :مجلس لشئون الأحزاب ومفوضية لإجراء الانتخابات. في كل التجارب المشار إليها، توجد مفوضية واحدة تسمى مفوضية الانتخابات الفيدرالية أو العامة، أو المركزية..إلخ وهي مفوضية مستقلة تماماً وتختص بتسجيل أي مجموعة من المواطنين أرادت أن تكون حزباً، وتختص في ذات الوقت بإجراء الانتخابات. في التجربة الغربية أنشئت المفوضيات في البداية لمهمة أساسية هي مراقبة التصرفات المالية المتعلقة بالانتخابات، ثم توسعت سلطاتها فيما بعد، الشيء الذي يعكس مدى الاهتمام لاحتمالات الاختراق المالي وإفساد السياسيين من خلال تراخي الرقابة ضد محاولات الدول والمؤسسات المعادية لشراء النفوذ السياسي بالمال والامتيازات.
إذا انتقلنا إلى بعض النماذج الغربية الأخرى وهي: المانيا، بريطانيا، نيوزلندا، سنجد أنه في كل هذه البلدان لا يوجد قانون متخصص للأحزاب ولكن وظيفة الترخيص لحزب سياسي وإدارة الانتخابات هما بيد مؤسسة واحدة وهي مفوضية الانتخابات .
في القانون البريطاني كما بالأمريكي لايوجد نص واضح عن الأحزاب ولكن هنالك مفوضية للانتخابات لها مهام اضافية سوى إجراء الانتخابات تتعلق بدعم الثقافة الحزبية الديمقراطية، وفي سبيل ذلك تهب منحاً وتسلف قروضاً مالية بشروط ميسرة للأحزاب لتساهم معها في تكوين أبنيتها وأجهزتها.
في البلاد التي تدعم الأحزاب ماديا يحدد مقدار الدعم بالأعضاء المسجلين في الحزب ونسبة الناخبين الذين صوتوا له في آخر انتخابات.
القانون الألماني يتميز بأنه أكثر تدخلاً في عمل الأحزاب وأكثر تفصيلاً في تحديد مسؤولياتها، وهو النظام الوحيد بين الأنظمة الغربية التي اطلعنا علىيها الذي فيه عقوبة حظر الحزب وفق القانون. وبالفعل حدث أن حظرت السلطات الألمانية في عام 1952م حزب الرايخ الديمقراطي ثم حظرت الحزب الشيوعي في عام 1956م، ثم في عام 2001م بدأت الحكومة الألمانية ومعها البندستاج إجراءات حظر الحزب القومي الديمقراطي، وفق الدستور الألماني الذي يعاقب على أي أعمال تؤدي الى تقويض النظام الديمقراطي أو تدعم الإرهاب.
لا يوجد في أي بلد ترخيص بالدخول إلى المنافسات الانتخابية دون تسجيل. شذت حالة واحدة فقط مما اطلعنا عليه هي بريطانيا حيث كان انشاء حزب سياسي الى عهد قريب مسألة خاضعة لرغبة الفرد في القيادة والدعوة لفكرة معينة. .النظام البريطاني كعادته ذو خصوصيات فالأحزاب فيه بالأساس جمعيات طوعية خاضعة للقانون العام .كان بإمكان أي شخص الشروع فوراً في إنشاء حزب والدعوة له ما شاء أن يفعل، حتى إذا قرر خوض الانتخابات وجب عليه أن يسجل في المفوضية الفيدرالية المختصة. قد يقنع شخص كهذا بالدعوة إلى آرائه الحزبية في حدود ضيقة يقررها هو وبالتالي لا تبقى حاجه لضبط تصرفاته سوى بما يضبطها به القانون العام. ميزة هذا النظام أنه يؤدي إلى تقليل عدد الأحزاب، فأصحاب هذا النوع من الأحزاب يمشون بين الناس بإضفائهم على أنفسهم ما يشاؤون من أسماء وصفات تشعرهم بالراحة أو التفوق، دون أن تترتب على ذلك جوائز ولا عقوبات سياسية، ويكون النظام قد تخلص بذلك من أعباء إدارية لا فائدة من تحملها.
لن تكتمل المقارنات دون استعراض التجارب الأفريقية. الدستور النيجيري والنظام القانوني المتبع هناك يعكسان خصوصيات الدول الأفريقية كدول نامية حديثة النشأة وتواجه تحديات وجودية في أمنها وبقائها. لذلك تجدها تعول على توظيف الدستور والقانون تعويلاً كبيراً في ضبط النشاط الحزبي بتفاصيل مملة لدرجة تهدد العمل الحزبي في أصل وجوده.
فيما يتعلق بتسجيل الحزب مثلا، لا مجال في نيجيريا للتقاليد الليبرالية البريطانية في الترخيص للأحزاب بالعمل دون تسجيل إلا في حالة خوض الانتخابات. لذلك تجد كل النشاطات المحظورة مذكورة في الدستور والقانون. تسجيل الحزب وتوضيح أهدافه وتمويله مذكورة بتفصيل شديد إضافة إلى قائمة من المخالفات التي يحاسب عليها القانون من التسجيل إلى التمويل وبين هذا وذاك أنشطة كثيرة.عرضة للحظر. لكن التجربة النيجيرية تشابه كل التجارب الغربية في أنها تجمع بين اختصاص تسجيل الأحزاب واختصاص إجراء الانتخابات في المفوضية القومية للانتخابات. يلاحظ الاهتمام الشديد في الدستور النيجيري بحظر المنظمات شبه العسكرية من العمل السياسي، والتشدد في منع واستئصال ذرائع التدخلات الخارجية.

النظام الأثيوبي ينحو ذات النحو من خلال تمكين هيئة الانتخابات الوطنية من المهمتين تسجيل الأحزاب وإجراء الانتخابات. إلى ذلك كانت للنظام الأثيوبي كاريزما رسالية من خلال شخصية ملس زيناوي القيادية ونظريته عن الدولة التنموية التي وجهت أثيوبيا نحو الازدهار الاقتصادي والسياسي والتي نصبته منافساً قوياً لدور القائد الإفريقي. وقد انعكس ذلك على الدستور الأثيوبي.
جنوب إفريقيا مضت على نهج معظم التجارب العالمية والأفريقية في توحيد وظيفة تسجيل الأحزاب وإدارة الانتخابات في مفوضية واحدة. بخلاف ذلك فإن الدستور الجنوب أفريقي يمضي في نفس اتجاهات الدساتير الغربية.

- الجزء الثالث
استعراض التجربة السودانية
أجريت اول انتخابات سودانية قبيل الاستقلال في عام 1953م وهي التي اشرف عليها سكومارسن، رئيس المفوضية الهندية للانتخابات فسميت اللجنة والانتخابات باسمه. لم توجد في تاريخ التجربة السودانية مفوضية دائمة للانتخابات إلا التي أنشئت مؤخراً. كانت الانتخابات تجرى بواسطة لجان متخصصة تنشأ لهذا الغرض وتنتهي بانتهاء مهمتها وهي إجراء الانتخابات. جدير بالإثبات أنه بتلك الطريقة المبسطة أجريت انتخابات في الفترات التي توصف بالديمقراطيات الثلاث، ذات نتائج، لم تستوف شروط الكمال، وأثارت شكاوى هنا وهناك، لكنها في مجملها كانت مرضية وتلقّاها المجتمع بالقبول، ولم تستدع اتهامات ترقى إلى التشكيك في كل النتائج أو كل الانتخابات.
المفوضية الحالية عينت واعتمدت في عام 2008، وهي مفوضية مستقلة مالياً وإدارياً ووظيفياً تتكون من تسعة أعضاء يعينهم الرئيس ويجيزهم أو يوافق عليهم ثلثا أعضاء المجلس الوطني. وأهم إنجازاتها إجراء انتخابات 2010 و 2015 واستفتاء دارفور. وتؤكد قيادة المفوضية أنها أدت أعمالها بكفاءة وحيدة تامتين، لكن كثيراً من المعارضين لا يجيزون ذلك التقييم، ليس بالضرورة قدحاً في أهلية أعضاء المفوضية، ولكن باعتبار أن الأجواء الكلية والأسس والبنيات والتشريعات والضوابط التي تقوم على أساسها الانتخابات لا بد أن تجتاز شروطاً واختبارات أكثر تدقيقاً والتزاماً بالمعايير القياسية المتعارف عليها عالمياً. المشكلة في جوهرها سياسية وتتعلق بالثقة، وعلاجها لن يكون بتقليب القول وتكراره من هذا الجانب أو ذاك حول موثوقية الجهة التي تدير الانتخابات. القانون يفصل كيفية إجراء الانتخابات في مراحلها المختلفة ( التسجيل_ الطعون _ الاقتراع) وكلها مظان خلاف ونزاع واتهامات، والواجب هو سدّ ذرائع التشكيك باعتماد المعايير المعتمدة في التجارب الإنسانية وهي متاحة لمن ابتغاها.
هنالك شكاوى من المفوضية متعلقة بالتمويل وبعض العقبات والقيود الإدارية التي يعتبرها تقرير من رئيس المفوضية مناقضة لاستقلالية المفوضية. هنالك أيضاً مشكلة قانونية تتمثل في ان المفوضية الحالية ستنتهي في يونيو 2020، وهذا يعني أنها المفوضية المكلفة بإدارة انتخابات 2020، بينما ترد توصية من مؤتمر الحوار الوطني بإنشاء مفوضية جديدة. وتدفع بعض وجهات النظر القانونية بأن إنشاء مفوضية جديدة غير قانوني إلا بزوال المفوضية القائمة ، وهذا متعذر إلا بإحدى طريقتين: الاستقالة الجماعية الطوعية، أو حل المفوضية وإعادة إنشائها بقانون جديد.
من الملحوظات الجديرة بالاعتبار التي أبداها المشرفون على الانتخابات هي أن نظام الانتخاب صعب ومعقد، ويستشهدون بانتخابات 2010 حيث كان على الناخب أن يؤشر على 12 بطاقة تصويت من الرئيس إلى الممثلين في المجالس التشريعية عن الدوائر الولائية في مرة واحدة.

نشأت الأحزاب السياسية في السودان في أربعينات القرن العشرين إبان الحكم ألاستعماري. ومنذ الاستقلال تولت الأحزاب مقاليد السلطة لثلاث فترات قصيرة تخللتها فترات حكم عسكري. نظمت الانقاذ ممارسة النشاط السياسي بقانون عند صدور دستور 1998 متضمناً حق إنشاء التنظيمات السياسية وممارسة حقوقها وفق القانون الذي اشتهر بقانون التوالي السياسي الصادر في 1998 . وقد عيب على ذلك القانون استخدام كلمة التوالي حيث رأى فيها البعض تهرباً من التعبير الصريح عن الحق في التنظيم السياسي بالكيفيات المعلومة. وفي تطور لاحق صدر قانون التنظيمات والأحزاب السياسية لسنة 2001م وعدل في سنة 2002 وكان من ميزاته انه كفل ممارسة النشاط السياسي بالإخطار لمسجل الأحزاب السياسية آنذاك مما أتاح الفرصة للأحزاب التاريخية لتوفيق أوضاعها في محاولة لإثراء الساحة السياسية بالأحزاب التي تزامنت مسيرتها التاريخية مع التطورات الكبرى في تاريخ السودان.
القانون السائد الآن هو قانون 2007 الذي صدر في سبعة فصول اشتملت على ثلاثين مادة تضمنت بصورة أساسية إجراءات تكوين مجلس شؤون الأحزاب السياسية، وتكوين الأحزاب السياسية، والموارد المالية للحزب السياسي، والحصانات والإعفاءات، واهتم هذا القانون بتوسيع المشاركة فأتاح هوامش أوسع لمشاركة الأحزاب من خلال توفيق أوضاعها. مما أسهم حقاً في إقناع تلك الأحزاب بالمشاركة الطبيعية، لكنه من ناحية أخرى فتح أبواباً لم تنسد للتنازع حول الأحقية بالأسماء والمقار والأصول والتعويضات عن الأضرار. كما أن القانون الجديد تسبب في اغراق المشهد السياسي بعدد كبير من الأحزاب المخطرة بلغ عددها، حسب إحصائية المجلس، 86 حزباً، وهي أحزاب لم تودع معظمها نظمها الأساسية ولوائحها وعضويتها لدى المجلس السابق وبالتالي يصعب ضبطها ومراقبة نشاطها السياسي لعدم استيفاء مرجعية وثائقها. ويقول تقرير صادر عن المجلس إن هذا الترتيب تمخض عنه أن قوائم الأحزاب المخطرة شملت هيئات وكيانات لا علاقة لها بالعمل السياسي الحزبي إلا أنها وجدت في شهادة الإخطار ما يعطيها الشرعية لممارسة نشاط سياسي. لهذا فإن انتهاء رخصة شهادة الإخطار حرم تلك الكيانات من دخول المسرح السياسي، وأتاح الفرصة في ذات الوقت للأحزاب المخطرة لتوفيق أوضاعها لتصبح أحزاباً سياسية مسجلة كغيرها.
يلاحظ أن قانون 2007 أسقط خيار تكوين المنابر، وكانت خياراً أصيلا وجديراً بالاستبقاء، لأن تكوين المنابر وهي أجسام قبل-حزبية يسهم في التنفيس عن الاحتقان الذي تتسبب في إحداثه الأحزاب التي تتسابق نحو التنافس السياسي، بينما المنابر عبارة عن تكوينات سياسية أولية مؤقتة وغير مكلفة مادياً، وهي تجتمع وتنفض لقضايا محددة. وفي الحقيقة فكرة المنابر كانت من أكثر الأفكار أصالة في التجربة السودانية، لم تمنح الفرصة الكافية للتطور الطبيعي.
لن يكون الحديث عن التجربة السودانية مكتملا دون تناول النظام السياسي الذي ورثته السياسة السودانية من النموذج البريطاني –أي نظام ويستمنيستر- و هو نظام برلماني في اطار ملكية دستورية ظلت مستمرة مئات الأعوام. أدخل هذا النظام في لحظات حرجة في بداية مرحلة رحيل الإستعمار بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. حيث خرجت بريطانيا من مستعمراتها بطريقة سريعة لم تمنح القوى الوطنية الفرصة لكي تجرب نظمها السياسة الخاصة بها. كان واضحاً لمعظم القوى السياسية، بالرغم من استمساكها بالنموذج الديمقراطي مبدءاً أن نظام ويستمنيستر لم تثبت جذوره تماماً الشيء الذي سهل مهمة القضاء عليه. ما انتهت اليه التجربة السودانية الان هو نظام رئاسي صريح مع بعض التعديلات التي تقربه من النظام الرئاسي المختلط، لكنها تقف دون المطلوب، فالاختصاصات ما تزال ممركزة بصورة حصرية في الرئاسة، بينما التفويضات التي يمنحها الرئيس لرئيس الوزراء هي اختيارية إلى حد بعيد، و بالكاد يمكن وصف التجربة بأنها رئاسية برلمانية مختلطة.
مفهوم آخر يحتاج إلى التدقيق والمراجعة وهو مفهوم المعارضة التي هو جزء أصيل من معادلة السلطة في النظام البرلماني، وذلك بحسب الدستور. في النظم الرئاسية لا تجد تسمية المعارضة رواجاً يذكر، وبالكاد يفهم عامة الناس مقتضياتها العملية، كما يفهمون ماذا تعني كلمة الحكومة، فالحكومة كلمة تعني الخدمات والتنمية، كما قد تعني الفصل في الخصومات، بل قد تعني الضرائب والعقوبات. لكن اسأل مجموعة من المواطنين عمّا تعني بالنسبة لهم كلمة المعارضة وستجد إجابات مختلفة اختلافاً بعيداً.

عند تناول تجارب السياسة السودانية ينحو الحديث تلقاءً إلى تبيين الظلم الذي وقع على الأحزاب فأضعفها وشلّ قدراتها. وهذا صحيح، لكن الأحزاب لم تعان من مخططات الإضرار بها ومحاولة تهميشها وزرع الفتن بداخلها فحسب. كل ذلك قد حدث، لكنها عانت بذات القدر من تلقاء قصورها هي وضعفها وقابليتها للتنازع والانقسام., وتوطنت بداخلها الأدواء مثل إزمان القيادات، والقطيعة بين الأجيال. وقد ظل هذا القصور يتم على حساب الوظيفتين الأساسيتين اللتين يفترض أن يؤديهما الحزب السياسي وكلاهما وظيفتان تجديديتان: الوظيفة الأولى هي انتاج قيادات جديدة للحكومة والمجتمع تفلح في ضمان استمرار الدولة وازدهارها، وهذه الوظيفة تعمل لمصلحة الجميع لأن الدولة ملك للجميع. الوظيفة الثانية للحزب السياسي هي إنتاج أفكار ورؤى ومبادرات جديدة في مواجهة المشكلات والأزمات التي تهدد المجتمع والدولة، من عافية الاقتصاد، إلى عدالة القضاء، إلى قوة الجيش، إلى فاعلية جهاز الخدمة العامة. بهذه القدرات التجديدية ترقى الأمة في سلم الحضارة، أما إذا عجزت الأحزاب عن أداء تينك المهمتين، فستتولى أمرها سنن التاريخ، لا محالة.
تأسيساً على ذلك ينبغي أن يعاد توجيه خطة تطوير الأحزاب لتحقق تلك الأهداف.
خاصة وأن هذه مرحلة حرجة في سيرورة الفكرة الحزبية وفرص بقائها. الحزبية، أو "الحزبوية" تعاني من أدواء وجودية بسبب دخولها في منافسة خالية من الرحمة مع أنماط جديدة من الاجتماع البشرى. العضوية المنظمة في الأحزاب في جميع أنحاء العالم تتهاوى وتتساقط بوتيرة مريعة لمصلحة منظمات المجتمع المدني التي تقدم خياراً أوفر حصاداً وأكثر دفئاً من خلال ابتداع مواعين تنظيمية أقل تعقيداً وأوفر تمويلاً. وتزداد هذه الحقيقة إرعابا لأنصار الأنماط التاريخية للتنظيم حالما ندخل في الصورة الوسائط الاجتماعية التي ستوفر للفرد في ترف منزله الانضمام لتكوينات افتراضية وشبه افتراضية من جميع الأحجام والألوان والنكهات.
تلخيصاً يمكن القول بأن التجربة السودانية الراهنة متفردة في أن عملية تسجيل الأحزاب والإشراف عليها وعملية إجراء الانتخابات هما عمليتان منفصلتان تماماً عن بعضهما البعض وتقوم بهما مؤسستان مستقلتان ( مجلس شئون الاحزاب + المفوضية القومية للانتخابات)، وهذا النموذج (نموذج المؤسستين) لم نجده في أية من الحالات التي اطّلعنا عليها، وجدنا بخلاف ذلك أن العمليتين تضطلع بهما مؤسسه واحدة أو مفوضية واحدة تسمى في الغالب المفوضية القومية أو الفيدرالية أو العامة -حسب البلد.
لكن هذا لا ينبغي أن يدعونا إلى الحكم بخطأ خيار مجلس الأحزاب، فنسرع بإلقاء كل تلك الخبرة التي تراكمت على قارعة الطريق. الفلسفة التي قامت على أساسها تجربة مجلس الأحزاب هدفها تخصيص مؤسسة بكاملها، ليس فقط لتسجيل الأحزاب، والتفتيش عن وثائقها، ورصد نشاطها، بل هو رعاية الأحزاب وتنظيم قواعد إنشائها، وتطوير تقاليدها الداخلية، ودعمها وتمويلها وتشجيعها لأداء الوظائف التي ترجى من الحزب السياسي في ظل نظام راشد ومستقر.

- الجزء الرابع
التوصيات
احسن منظمو الورشة حين استدركوا فوسعوا مجال النقاش بحيث يكون حول آفاق الممارسة السياسية وطرق إصلاحها، بدلا من العنوان الأول الذي يحصرنا في الإجراءات المؤدية إلى الانتخابات في 2020 . فالترتيب الذي انتهوا إليه يمنحنا مجالاً أوسع للنظر، وبرغم ذلك سيظل تاريخ 2020 معلماً مهماً ومحدداً رئيسياً عند صياغة التوصيات.

حيث أن المطلوب هو آفاق الممارسة السياسية في السودان، فسأبدأ من الأعم الأوسع إلى الأخص الأضيق. على هذا الاساس يمكن صياغة التوصيات كما يلي:
توصيات تهدف إلى ترسيخ عادات وتقاليد سلوكية عميقة وبعيدة المدى والأثر: وهي معنية بالكليات والمفاهيم الرئيسية التي ينبغي أن تترسخ في الضمير السياسي الجمعي، وتتوحد من خلالهما الرؤى والمواقف، والمعايير الثقافية، والمصطلح، بين أفراد المجتمع بحيث يصبح مجتمعاً متجانساً سياسياً.

دفع جهود الإصلاح الكلي للدولة ونشر الوعي بها بتطبيق المعايير الثلاثة: مأسسة الدولة، تقييد السلطة، و تحقيق الرقابة. وهذا يستدعي تقوية التشريعات والاختصاصات التي تتوفر لتلك المؤسسات وفي مقدمتها البرلمان والمجالس التشريعية والقضاء والنيابة العامة، والمراجعة العامة والخدمة المدنية.
الإصلاح عادة وسلوك، وليس الإصلاح مصادفة. لذلك يجب ترسيخ الإصلاح بما يجعله غريزة أو طبيعة ثانية. يجب أن تكون البداية في النشء في عمر مبكر تدرس فيه مفاهيم الشورى والديمقراطية والحكم الراشد والعدل و تكريم الانسان والمساواة بين البشر في حقوق المواطنة الأساسية وواجباتها وفصل السلطات، ومفهوم دولة القانون.
نفس الجهد يبذل على صعيد المواطنين عامة من جميع الأعمار،ينبغي توعيتهم من خلال حملات مستمرة تستخدم فيها كل وسائل التواصل والإعلام لترسيخ ذات المفاهيم والمباديء. ويمكن إلحاق هذا ا اختصاص بمجلس شئون الأحزاب.

هنالك توصيات متعلقة بإصلاحات تشريعية أو قانونية ذا ت صلة بأداء أجهزة الدولة الهدف الرئيس منها معالجة مسألة خلافية (مثل نوع النظام المتبع: رئاسي، برلمانب...إلخ) أو إزالة إشكالات قائمة أو تراكمت من أوقات سابقة أو آراء استجدت حول إصلاح الحركة السياسية والممارسات الحزبية والنظم الانتخابية كل ذلك بقصد إعداد الساحة لانتخابات حرة و نزيهة في 2020 كما يلي :
مراجعة صيغة النظام المختلط القائمة بما يجعلها نظاماً يجمع قابلية الاستقرار والفاعلية في آن.
مراجعة مفهوم المعارضة ولفظها لتؤدي معنى كونها قوى بديلة، سواءً بالنسبة للأشخاص أو برامجهم أو أفكارهم الموجهة.
مراجعة اختصاصات البرلمان والمجالس التشريعية والأجهزة الرقابية بغرض تقويتها وتنشيطها
حل الاشكالية المتعلقة بتكوين المفوضية القومية للانتخابات، و في كل الحالات لا بد من تكوين مفوضية ممكنة تعمل بكل الوسائل و النظم والتشريعات الضرورية وتسعى بكفاءة وعدالة ومهنية من أجل قيام انتخابات تنال اعترافاً داخلياً وخارجياً
فيما يتعلق بالموقف من وجود مؤسستين منفصلين لتسجيل الأحزاب ولإجراء الانتخابات، التوصية هي أنه برغم أن صيغة مجلس الأحزاب غير مجربة من قبل فلأفضل إبقاء المجلس ودعمه ليدعم لأحزاب ويطور مقدراتها
يوصى كذلك بإعادة صيغة المنبر أو التيار، كمرحلة وسيطة لتكوين الاحزاب، الشئ الذي يحد من النزوع الى تكوين أحزاب ضعيفة.
حيث أن العدل كما أوضحنا لا يتحقق فقط من خلال إجراء الانتخابات بصورة سليمة ومثالية من الناحية الشكلية، ولكن العدل يكمن ابتداءً في اختيار النظام السياسي العادل والملائم. فإن التوصية هي التوسع في نظام التمثيل النسبي على حساب نظام الحر المباشر، ويمكن حتى اللجوء إلى نظام التصويت بالقائمة.
من المسائل التي بقيت معلقة لوقت طويل هي وضعية الغرفة الثانية في الهيئة التشريعية العليا أي مجلس الولايات.
عملية الاقتراع الحالية معقدة للغاية ويجب تغييرها ..
عدا عن الاقتراع، الأسس النظرية والمنطقية التي يقوم عليها توزيع الدوائر، ونظام المندوبين، وطريقة حساب الأصوات كلها مهمة لتحقيق العدالة وتجب مراجعتها هناك تداخل مربك في ختصاصات نائب الدائرة الجغرافية القومية ونائب الدائرة الجغرافية الولائية ينبغي أن يحل، ربما بإلغاء الدوائر الجغرافية القومية أو تقليصهها وتحويل الفائض إلى مقاعد التمثيل النسبي .

هنالك توصيات من مجلس شئون الأحزاب نورد بعضها هنا:
تضاف لاختصاصات المجلس والتوعية وتنمية قدرات كوادر الأحزاب السياسية
زيادة عدد المؤسسين للحزبإلى ألفي (2000) عضو على أن يكونوا من عشرة ولايات على الأقل
تحدد النظم الأساسية للأحزاب عدد دورات رئاسة الحزب.
تحديد معايير وأسس لتمويل ودعم الأحزاب السياسية،

- الجزء الخامس
حملة توحيد القوى السياسية لدعم جهود الإصلاح السياسي
(العرض والتوصيات)
الأفكار الواردة في هذه المقترحات لا تشكل مبادرة في صورتها الكاملة النهائية، ويمكن تعديلها بالتوافق. وهي في جوهرها جهد يتوخى دفع تيار وطني عريض يغلّب خيار السلام بكل ما يتوفر له من أدوات التأثير، وفي مقدمتها تحفيز عمليات الانماج الحزبي. وقد صيغت المقترحات بحيث لا تتنافى مع المرجعيات المعلنة لأي شخص عام أو حزب سياسي أو حركة مسلحة. وبحيث لا يحرم من المشاركة طرف من الحكومة أو المعارضة.

*الأهداف الرئيسة للمقترحات وآليات تنفيذها*
الهدف الرئيس هو إعداد برنامج عمل إصلاحي محدد الأهداف والآجال يبدأ فوراً وينتهي في 2020 بحيث يتحول عندئذ إلى برنامج أرفع. جوهر البرنامج في هذه المرحلة هو تكثيف الاتصالات والجهود لتشجيع عمليات الاندماج التنظيمي بين الأحزاب والقوى السياسية الراغبة في ذلك. ينفذ البرنامج بواسطة مجموعة اتصال أهلية رسمية مشتركة تحت إشراف اللجنة العليا لإنفاذ مخرجات الحوار. وتوفير ضمانات لتنفيذ المقترحات.
برنامج العمل
تقوم مجموعة الاتصال بإعداد برنامج تشجيعي مفصل يحوي الإجراءات الضرورية لإصلاح الحركة السياسية، يشمل:
1. ترسيخ مفاهيم الحكم الراشد، ومبادئ وأخلاقيات الممارسة السياسية، والقيم الثقافية السياسية؛
٢. العناية بتنمية الملكات السياسية والقيادية للقوى السياسية والكوادر العاملة فيها وزيادة كفاءتهم من خلال مناشط ودورات تدريبية وتأهيلية مكثّفة؛
3. الشروع في إجراءات عملية التمويل للأحزاب التي تستوفي معايير التمويل المنضبطة، مع إعطاء، ميزة خاصة للأحزاب التي تحقق نتائج مشجعة في سبيل التوحد والاندماج؛
4. توفير المشورة الفنية والتفاوضية للأحزاب الراغبة في الاندماج من خلال عرض نماذج ومستويات الاندماج والتحالف المتعددة التي يمكن ان تحققها القوى السياسية الراغبة في ذلك؛

ووفي ذات السياق ومن أجل إعداد العدة لانتخابات عادلة ونزيهة في 2020 تصدر أي تشريعات أو سياسات أو اجراءات ضرورية لإصلاح النظم والمؤسسات المشاركة في تنظيم العمل الحزبي والانتخابي ولتهيئتها وتأهيلها لإداء مهامها بحيدة ونزاهة وكفاءة. في مقدمة تلك المؤسسات مجلس شئون الأحزاب، ومفوضية الانتخابات القومية، وآليات الدولة المشاركة في ترتيب الانتخابات كالشرطة والقضاء، إلخ.؛
مراحل العمل
1. المحدد الرئيسي للوقت المتاح لهذه الجهود كي تبلغ مداها المطلوب هو تاريخ نهاية الانتخابات في ٢٠٢٠، وهذا يعني أن الوقت المتاح أقل كثيراً مما هو مطلوب؛
2. مرحلة الصفر، وهي الفترة التي يجري فيها دعوة القوى السياسية لقبول المشاركة في تطبيق المقترحات؛
3. تحدد مجموعة الاتصال الأجندة التي تنظم النقاش حول الإصلاح السياسي، ونوع
الجهد المطلوب ومداه الزمني، وبناء على ذلك توضع جداول التنفيذ

ختاما:ً
فإن جهود السلام التي جرت في الأعوام الأربعة الماضية بلغت ذروة عائداتها حيث نجحت وإخفاقاتها حيث اخفقت، والسودان الآن في مسار متسارع نحو الانتخابات العامة في ٢٠٢٠. .وبالمقابل لا يبدو الموقف مطمئناً إلى أن الإعدادات تمضي بصورة كافية لعبور هذا الجسر التاريخي، وطرح هذه المقترحات فيه سابقة فريدة لتنسيق وتعاون غير مسبوق بين الجهدين الأهلي والرسمي ظل مطلوباً من أجل تحقيق مصالح وطنية عليا وهي تحديداً إنفاذ برنامج لإصلاح الحركة السياسية وقيام انتخابات حقيقية توثق التحول الإيجابي و تشهد له.

إن مشروع إصلاح الحركة السياسية ليس مجرد عنوان رنّان، بل هو مشروع يهدف لإحداث قفزة محسوسة في ثقافة المجتمع هي حصيلة تراكم المعرفة والخبرة عبر السنين والعقود التي اختبرت فيها كل النظم المُحتملة. العمل العام، من حيث القيم والأهداف والمعايير والأخلاق والكفاءة والنماذج السلوكية، والمواعين التنظيمية، والنظم التشريعية. وهذا التطور، أو التحول السياسي الموجب، هو الذي ظلت تتطلع لتحقيقه عبر مشروع سياسي وطني كل النظم التي تعاقبت على حكم السودان منذ الاستقلال. الذي يميز هذه السانحة التي تأتي في هذا الجيل عن السوانح السابقة ليس تراكم الخبرة فحسب، بل نضوج العقل السياسي الجمعي الذي يحدد بصورة خفية، لكنها قوية وفاعلة،اختيارات القادة والساسة المتحكمين في مسارات الحياة العامة. إن إصلاح الحركة السياسية يستحق أن يكون أوجب مهمة سياسية بعد الاستقلال، فهو مشروع ستبقى جيناته في جينات السودان تتعاقب داخلها من جيل إلى جيل.
مشروع بهذا الأفق لن يقلع أبداً إذا وقع في براثن الاستحواز والأثرة والادعاء، والإقصاء، والمكاسب الضيقة والاستثمارات الصغيرة. نجاحه معقود بقدرته على أن يتمدد قاعديا ويتغلغل في جذور المجتمع ويتخلل ثقافته، مهما بدأ صفويا فإن نجاحه المحتوم أن يتحول إلى قوة تشيد البناء باليمنى ومقاومة تحمي البناء باليسرى. مهمة كهذه ستتجلى في قرارات الدولة وسلوك مؤسساتها، وخطاب قادتها ومفكريها.
إن الإجابة على سؤال أيهما أسبق: السلام أم الانتخابات، هو أن أياً منهما أتى سابقاً سيمهد للآخر. إذا حققنا السلام أولاً فسنسرع بعملية التحول السياسي الموجب، وإذا حققنا انتخابات جيدة فسندفع بمسألة السلام أشواطا بعيدة.
وبينما نحن الآن نتداول ههنا تصدر كلمات مشجعة من بعض من حملوا السلاح واختاروا طريق الحرب بالدعوة إلى التفاكر حول الانتخابات وسيلة للتغيير، هذا بيان مبشر ينبغي تشجيعه من هذا المنبر فإن أي تصالح وطني يتم بأيد سودانية داخل الديار السودانية يحقق الوحدة الداخلية و يصد التدخلات الخارجية مها كانت التنازلات التي قدمت في سبيله، هو مكسب لكل الوطن ليس فيه خاسر.
من ناحية أخرى، لا ينبغي أن نتخلى عن حقنا، بل واجبنا في تأكيد التزام أجهزة الدولة الزاما تاما بالقانون وبالسياسات الحكيمة، ومن هذا المنطلق علينا أن نطالب بتطبيق القانون تطبيقاً سليماً فيما يتعلق بالتعامل مع وسائل الإعلام والصحف بالصورة التي لا تجعل إجراءات تلك الأجهزة في قفص الاتهام بتقويض السياسات التي تبدأ ناجحة ثم لا تلبث أن تتهاوى تحت الاختبارات العملية. إن هذه من أكبر التحديات التي تواجه عمليات الحوار والتوافق الوطني..

أيها السيدات والسادة
إن النجاح في السياسة، كما في التجارة, كما في المعركة العسكرية يتحقق بالاختراقات.
نحن اليوم في حاجة لاختراق أمني سياسي نرسخ به قواعد السلام ونوقف به مدافع الحرب، نحن في حاجة الي اختراق اقتصادي نحقق به آمال المواطن وأسرته حياة طبيعية، نحن في حاجة الي اختراق في علاقاتنا الخارجية نكسر به طوق الحصار والعزلة والوصاية ونقيم به علاقات سوية و عامرة مع بقية شعوب العالم. وهذا لن يتم بغير وحدة وطنية، ولن تتحقق وحدة وطنية بغير جدل حر، .إذن انتخابات 2020 والمسافة المؤدية إليها هي من أهم محددات مستقبل الممارسة السياسية،، هي اختبار المصداقية لما نقوله ونعد به، وعندئذ يجوز لنا أن نعلق آمالنا على اصلاح يعقبه ازدهار ونهوض جديد.. على هذا نتفق وبه نعمل وله ندعوا والله هادينا.

غازي صلاح الدين العتباني
5 ديسمبر 2017
/////////////

 

آراء