وصفة لفوضي اقتصاديه شاملة

 


 

د. حسن بشير
2 February, 2012

 



دعوة الوزير الأسبق السيد عبد الرحيم حمدي إلي تحرير أسعار الوقود وتحرير سعر صرف الجنيه السوداني - الواردة بعدد من الصحف السودانية والمواقع الالكترونية - إضافة لغرابتها الناتجة عن كون التحرير الاقتصادي أصبح سياسة رسمية للدولة منذ عهد الاستوزار الأول للسيد حمدي. سياسة التحرير يتم الدفاع عنها باستماتة من قبل المسئولين الحكوميين ومستشاريهم والكثير من لمؤيدين لهم، بل تتم المباهاة بها، باعتبارها صاحبة الفضل في خلاص البلاد من الندرة ومعاناة صفوف الوقود والخبز، وأحيانا يذهب البعض ابعد من ذلك في ربطها بالشريعة الإسلامية والحرية التي وهبها الله للإنسان في حق الاختيار، لكن بفضل الله تخلصنا من جانب مهم في الترويج لسياسات التحرير الاقتصادي والخصخصة من ناحية تحقيقها للرفاهية الاقتصادية، التي لم يعد لعاقل ان يتحدث عنها في ظل الأزمة التي يعاني منها الاقتصاد السوداني اليوم وشظف العيش والمعاناة في الحصول علي أولويات البقاء علي قيد الحياة .
إذا كان نهج السياسات الاقتصادية كذلك فلماذا الدعوة اليوم مرة أخري إلي التحرير؟. لكن إضافة لكل تلك الغرابة فان دعوة السيد حمدي هي دعوة إلي إحداث فوضي اقتصاديه شاملة. ما يفصل بين الوضع الاقتصادي اليوم والفوضى الشاملة هو خيط رفيع يمكن لأي إجراءات غير محسوبة ان تقطعه، وبدلا من الدعوة الي خلطه بوصفة تشبه خلط سقوف (الدمور) المستعارة بخليط من (الاسمنت والجبس)، يدعو السيد حمدي الي فركه ونفخه في الهواء إيذانا لشياطين الفوضى بالخروج والقضاء علي (اليابس) وشيء مما تبقي من خضرة في الزرع والضرع.
بمجرد قفل أنبوب نفط الجنوب اشتعلت موجة جديدة من ارتفاع الأسعار طالت معظم السلع الرئيسية ولم تستثني (الفول) الذي أصبح المواطن لا يحلم بطبق منه، وإنما يمني النفس بحبات منه تعوم في مائه مصحوبة بماء من الجبنة وشيء ما من زيت الطعام الذي أصبح سعره يقترب من سعر الكافيار الأسود ( وعلي قول صديق لنا ، هذا الوضع يعمل من الفسيخ كافيار). موجة جديدة من التضخم مصحوبة بركود اقتصادي حاد، تراجع في سعر صرف الجنيه السوداني مقابل العملات الأجنبية، ربكة في الأسواق وفوضي في حركة الاستيراد والتصدير طالت الكثير من السلع الضرورية ومدخلات الانتاج. موجات الارتفاع في الأسعار لم تعد في حاجة لإعلان من الحكومة برفع (الدعم) وتحرير سعر الجنيه، فهي مستمرة في الارتفاع بمتوالية هندسية.
يحدث ذلك والموازنة العامة تبحث عن مصادر للتمويل والتوازن المالي. كيف يمكن للإيرادات الحكومية ان ترتفع (ضريبية وغير ضريبية)، إذا اتخذت الحكومة إجراءات تقلص من الدخول والقدرة الاستهلاكية وتعصف بما تبقي من قوة شرائية لجنيه السودان؟ إذا تدنت الدخول الحقيقية أكثر مما هي عليه وفقدت نسبة ال 95% من سكان السودان، التي ترزح في برازخ المعاناة القدرة، ليس فقط علي الادخار فهذا من قبيل الخيال الشاطح، وإنما القدرة علي الاستهلاك فيما يحفظ الحياة، فمن أين للحكومة أن تستمد إيرادات الضرائب غير المباشرة ورسوم الخدمات؟ إذا وصلت حدة الركود الاقتصادي الي درجة أعجزت القطاع الخاص عن تحقيق الكسب من مختلف العناصر المتاحة من ربح ورأس مال وارض، فمن إي طاقة يمكن إن تستولد الضرائب المباشرة علي الأعمال؟ إذا تدهورت عوامل الاستقرار الاقتصادي خاصة في مستويات الأسعار، معدلات النمو، توازن ميزان المدفوعات، سعر الصرف، أكثر مما هي عليه اليوم، فعن إي مناخ للاستثمار يمكن الحديث؟ إذا وصل العجز في توليد فرص للعمل أكثر من حالة البطالة المتفشية بجميع أشكالها، فأي مستقبل ينتظر الشباب والطلاب الخريجين والذين يدرسون بالجامعات؟ وأي مصير ينتظر أسرهم التي استثمرت فيهم بدم القلب؟
إي وضع يساق إليه الاقتصاد بسبب النهج السياسي السائد والحماقة في العلاقات السائدة بين الشمال والجنوب؟ كيف يمكن لبرنامج الإسعاف الاقتصادي الثلاثي أن يتحقق في موجة من التخبط والذعر الاقتصادي المتصاعد وسط المواطنين وفي الأسواق؟ تتجه البلاد نحو حالة من الشلل الاقتصادي يطال جميع الأنشطة وقد امتد الركود والشلل الي جميع القطاعات مما اعجز أعدادا من الطلاب عن استخراج شهادات التخرج لفشلهم في سداد رسوم متبقية عليهم، كما يتهدد عدد كبير من التلاميذ الحرمان من الجلوس الي الامتحانات النهائية في العديد من المدارس الخاصة التي اعتقد ذويهم في مقدرتهم علي التكفل بمصاريفها قبل ان يدركهم كساد الدخول والموارد.
ما دامت الحكومة أدخلت نفسها والبلاد في المأزق الراهن فعليها البحث عن سبيل للخروج منه، علي أن تفعل ذلك بعيدا عن الوقود وقوت غالبية الشعب الذي لم يعد يحتمل إي نوع من الضنك الإضافي. أما الجنيه فمن الاجدي ان يتم البحث عن مصادر للنقد الأجنبي تضمن استقراره عند الحد المتدني الذي وصل  إليه اليوم بدلا عن الإبداع في أساليب الإطاحة به نهائيا كما حدث في تسعينيات القرن الماضي. بالتأكيد فان السيد حمدي يعلم تماما ان للسياسة النقدية أدوات عامة وخاصة تستخدم في إدارة السيولة وضبط العرض النقدي وفقا لما يتماشي مع القاعدة النقدية المحددة حسب النشاط الاقتصادي وبالتناسب مع الكتلة النقدية وهذه الأدوات كافية تماماً، لتنظيم سعر صرف الجنيه السوداني اذا توفرت العوامل الاقتصادية البحتة المؤثرة علي عدد من المحددات بما فيها مضاعف النقود (Money Multiplier).إذا أخذنا في الاعتبار مستوي كفاءة رأس المال والسلامة المصرفية للجهاز المصرفي السوداني فان الحديث عن تحرير الجنيه، في الظرف الاقتصادي الراهن يصبح إبحارا في المستحيل وغرق في الأوهام. يمكن التأكيد علي أن السودان يفتقر للمعايير اللازمة والموحدة لقياس كفاءة المصارف وضبطها وفقا لذلك. يكفي هذا السبب وحده لوضع عمل المصارف وتعاملها خاصة في النقد الأجنبي تحت الرقابة الصارمة للبنك المركزي.
أما في حالة الاتجاه نحو وصفة السيد حمدي حول تحرير سعر صرف الجنيه بوصفها حلا لمشكلة ما، في حالة تفضيل هذا الخيار فمن الأفضل أن يتم تحريرنا من الجنيه نهائيا والاستعاضة عنه بعملة أخري مثل الدولار، اليوان، اليورو أو الريال الخ،،، ففي هذه الحالة فقط سنضمن تعاملنا بعملة مستقرة نوعا ما نستطيع بواسطتها وضع ميزانياتنا وإقناع أسرنا قبل غيرها، بمستوي تعاسة دخولنا التي نخرج من (صباح الرحمان) ونعود (تلوت) الليل من اجلها.إذا لم يتم تدارك الوضع بشكل سريع وبإجراءات استثنائية، لكنها موجبة في استثنائيتها، سيصل الوضع الاقتصادي إلي الفوضى الشاملة التي أصبحت قريبة جدا.
hassan bashier [drhassan851@hotmail.com]

 

آراء