وصيّة كرايوريس .. بقلم د. عمر بادي
17 November, 2009
ombaday@yahoo.com
مقتطفات من كتابي: القيام بالدفرة
(مجموعة ذكريات وخواطر طريفة)
( الكتاب الثاني)- 2009
قبل أعوام مضت وأنا في شارع المكتوم في دبي ، ظللت أدور بسيارتي آملاً أن أجد مكاناً خالياً لأوقفها فيه ، فالشارع يؤدي إلى ميدان المكتوم وهو قلب التجارة والمال والأعمال في دبي وتحيط به البنايات العالية وتكتظ فيه السيارات والمارة ، وعلى حظي رأيت سيارة متوقفة قد أضاءت أنوارها الخلفية البيضاء إيذاناً بتحركها إلى الخلف ( الريوس) والمغادرة ، فربضت خلفها وأنا أضع إشارة الإنحراف يميناً ، وحدجني حسداً آخرون كانوا على شاكلتي يبحثون عن مواقف لسياراتهم . المهم ، توفقت في إيجاد مكان آمن وقانوني لسيارتي وأطمأن قلبي أن لن يخطفها ونش (كرين) شرطة المرور النشط في تصيّد مخالفات الوقوف .
وجدت نفسي قرب بناية المركز التجاري العالية والتي صممت على شكل كتاب مفتوح ، فتذكرت أن أعرِّج قبل مشواري إلى مكتبة عامرة مطلة على الميدان لأتفقد ما بها من إصدارات أدبية وعلمية جديدة وأختار منها ما يروقني لمكتبتي... وأنا في طريقي في طرف الميدان سمعت من يحييني بالعربية فالتفت تجاه الصوت فرأيت رجلاً تدل سحنته أنه (خواجه) فرددت عليه السلام ، وتقدم نحوي وسألني بلهجة سودانية: ((إنت سوداني ، مش كده ؟)) ، أجبت :(( أيوه )) ، فابتسم إبتسامة عريضة وقبض على يدي وعاود تحيتي مرات عدة ، وأنا لا أفهم شيئاً ، فسألته :(( فيه شنو؟)) ، هنا إنتبه إلى نفسه فكرر إعتذاره ثم قال لي : ((أنا يوناني ، لكن كنت في السودان سنين كثيرة ، علشان كده أنا مشتاق إتكلم مع سودانيين)) . قلت له: (( والله ياخي فرصة سعيدة)) ، فأشار علي وبإلحاح أن نذهب إلى كافتيريا مطلة على الميدان وقريبة منا لكي نقعد قليلاً و(نتونّس) ، وكان لدي متسع من الوقت فأجبته إلى طلبه . عندما جلسنا داخل الكافتيريا حانت منى إلتفاتة تجاه معلم ( الشاورما) فتبسّمت ضاحكاً . سألني الخواجة :(مالك؟) ، فأجبته:(( إتذكرت حاجة)) ، ورويت له أنه في مرة سابقة حضر إلى نفس تلك الكافتيريا إثنان من أقربائي هما الخير ومحمد وقد كانا يتمشيان في السوق وكان البرد قد بدأ في الهبوط فتملكهما الجوع وكانا مشهورين بحبهما للطعام ، وعندما حمل لهما النسيم رائحة (الشاورما) ركضا إلى حيث المعلم وطلبا منه أن يعد لهما سندوتشات ، فسألهما عن العدد ، فقالا له إنهما سيخبرانه متى يتوقف ، وصار كلما أعد سندوتشاً وجد الذي قبله قد نُسف حتى صار العدد عشرين سندوتشاً ! وعند ذلك توجس المعلم خيفةً فتوقف عن إعداد السندوتشات متعللاً بأن لديه زبائن آخرين ، وعند ذلك لم يجدا بداً من أن يتّما الباقي بزجاجتي بيبسي كولا من الحجم المتوسط ! وقبل أن يغادرا الكافتيريا أصّر المعلم أن يأخذ صورة تذكارية معهما، وصار يحكي لزبائنه عن قصة تلك الصورة حتى إشتهرت ، بل تبرع البعض أن يرشحمها إلى موسوعة جينيس !.
ضحك الخواجة وكان منشرحاً من روايتي ، ثم قال لي : (( أنا إسمي كرايوريس، وإنت إسمك مين ؟ )) وتمّ التعارف بيننا ، وروى لي أنه كانت لديه أعمال في الخرطوم وقد صفّى أعماله وغادر السودان بعد أحداث التأميم ومصادرة الشركات التي صاحبت بداية فترة مايو، وسألته إن كان قد عمل في الأقاليم خارج الخرطوم ، فأجابني أنه ومنذ أن كان شاباً عمل في جنوب السودان في مدينة واو قبيل وبعد خروج الإنجليز. سألته أن يعيد إسمه مرة ثانية ، فقال لي: (( ياخبيبي قلتلك كرايوريس)) ، فرددت عليه: ((وكنت بتعمل مع الخواجة بابوسيدس؟)) ، فبهت ولم يصدق ما سمع ، فبددت ماإعتراه من دهشة بتذكيري له بشخصيات ذلك العهد في واو، وأنتم يا أعزائي القراء أظنكم تذكرون الخواجة كرايوريس ، فقد كنت قد تحدثت لكم عنه في مقالتي التي بعنوان ( إنتحب ، أيها الوطن المحبّب) ، وذكرت لكم أنه كان من ضمن التجار الخواجات في مدينة واو في النصف الثاني من الخمسينات.. إنبسطت أسارير الخواجة كرايوريس وعاد إليه ماضيه في السودان وتذكر مزاحه ومداعباته مع أبناء البلد وصار يسدد لي كلمات هي في مواضعها كاللكمات التي تحت الحزام ، فأكيل له الصاع صاعين فيضحك منتشياً من الأعماق . بعد ذلك أعطاني عنوان مصنعه في أثينا حتى أزوره إذا ما ألقت بي الأقدار يوماً في أثينا ، وأوضح لي أن له مصنعاً للملابس الجاهزة وقد أتى إلى دبي لأيام قلائل ليعرض على عملائه من التجار عينات من آخر منتوجاته ولكي يدخل في عملية تسويق وكسب عملاء وزبائن جدد، وقد إنتهت مهمته على أحسن وجه وسوف يغادر عائداً مع بعض موظفيه في صبيحة اليوم التالي . سألني بدوره إن كنت مرتاحاً في عملي ، فأجبته أن الحال (ماشي) والحمد لله ، لكن العمل متعب وشكوت له من ذلك ، فرد علي قائلاً: (( أقول لك كلام لازم يقعد في رأسك وما يروح برّه ، إتعب دلوقت علشان ترتاح بكرة )) !.
وصية الخواجة كرايوريس تلك ، صارت كما أوصاني ( قاعدة) في رأسي أعيدها كلما مرت بي مواقف عدة .. كلما رأيت شاباً يتقاعس و يتراخي عن العمل الدؤوب , و كلما رأيت شيخًا يشقى من أجل لقمة العيش وأعلم أنه كان في بحبوحة في شبابه وفتوته ولكنه ضيّع ما كان عنده سدى ، وكلما رأيت مغترباً كان يبدد دخله في (الفاضي) وعندما إستُغنى عن خدماته وعاد إلى موطنه عاد صفر اليدين ، وكلما رأيت شخصاً صار كحصان السباق كلما إمتد به العمر ساءت وظيفته فتحول في نهاية المطاف إلى حصان للكارو !
صحفية (الخرطوم) ـ 7/5/2002م