وعن عمالتي أروي

 


 

 

faizalsilaik@gmail.com
لفت كثيرون نظري إلى حملات أتعرض لها، تركز على القاء اتهامات مكررة، ومن قبل أشخاص مختلفين ، قلتُ لهم إن نفسي تعف عن الولوغ في أوحال شخصنة القضايا، وتتبع عورات الناس، وتصيد أخطائهم،
وليس لي قدرة على الانحناء كي التقط كلمات من على قارعة الطرقات، أو كي أجمعها من أزقة الحواري، مثل هذه الأشياء تحتاج شجاعةً تساعدك على خفض سقفك الأخلاقي، كي تكون كنافخ كيرٍ يؤذي الناس بنتن الروائح، وبحرق الثياب، هو فعلٌ مثل فعل عسس النظام الذين يجتهدون في خنق التعبير بضخ الغاز البذئ في رئات المدن المتحفزة للحرية والتحرر والانعتاق. يستفزني قول الشاعر " فكلك عورات وللناس ألسن".
للأسف لا يخلو حسابي الخاص على تطبيق "الفيسبوك" من انتشار فيالق حمقى، و وجود موتورين، بل أن البعض يتعدى حواجز الخصوصية، ويخترق مساحاتي الخاصة بي، ويرسل ساقط قوله البذيء على " الماسينجر" أي والله، لم يتعلموا الأدب، ولم يعرفوا الذوق، و لم يتورعوا عن الشتم، وارسال الرسائل السخيفة، من مجهولي الهوية، عديمي الأصل. لا يعلم من يهاجمونني اليوم أنني سبق أن رفضتُ عرضاً في عام ٢٠١٩ لرئاسة تحرير صحيفة " الصيحة" التي يمتلكها قائد قوات الدعم السريع، ولو كنتُ أريد التقرب منهم، أو العمل معهم لكان أمر قبول رئاسة تحرير صحيفتهم أقرب المداخل لدخول امبراطورية آل دقلو، وما لها من موارد وجبال ذهب تسرق الأبصار والقلوب وتسعد الجيوب!، إلا أنني اعتذرت للوسطاء عن قبول العرض!ما لا يعلمونه، أو يعلمونه لو أن قلمي كان مثل شقةٍ مفروشة للإيجار لما اخترتُ وعر الدروب كي أمشيها، ولو أردتُ أن أتحول إلى نائحة مستأجرة؛ يدفع لها أهل المتوفي ثمن دموعها الزائفة بلا وجع؛ لاختصرت على نفسي مشقة السير الطويل، وتسلق قمم جبالٍ رواسي، وعبور أودية فسيحة، وركوب مراكب تمخر عباب أمواج بحار مضطربة وهائجة، بعيدة السواحل. لستُ من بين الذين يسرجون خيول شرور النفس، شاهرين سيوفهم باحثين عن طواحين هواء للصراع معها، ولا تغويهم خرفان حفلات الشواء التي تغازل روائحها أنوف الفضوليين، وفارغي المحتوى عبر الأسافير المحتشدة بفيالق الحمقى من هتيفة وصفيقة، تغريهم حفلات بطان " الردم" التي تفضح ضحالة تفكير، و تعبر عن أزمنة انحطاط، وتعكس مقدار ما تحمله النفوس الإمارة بالسوء من غلٍ وكراهية ناسفة للذات وللأخر.
عدتُ إلى الخرطوم في نهاية العام ٢٠١٩، بغرض انتاج فيلم وثائقي عن ثورة ديسمبر، إلا ان سوء حظي، أو ربما حسنه أغرق كاميرا التصوير الوحيدة داخل إحدى ترع مشروع الجزيرة، وللمفارقة تحمل الترعة اسم الانقاذ، حيث افتتح المخلوع البشير حفرها كإنجاز، لكنها بقيت مثل " عارضٍ لئيم"!..
غرقت الكاميرا الموضوعة داخل عربة شقيقي الأصغر مؤيد، ففقدنا الكاميرا والعربة، فتجمدت الفكرة إلى حين ميسرة، ثم التحقت بعدها بمكتب رئيس الوزراء مستشاراً إعلاميا، للمفارقة يخرج أحدهم ليصفني بالكذب، لم تكن الوظيفة سراً، ولا كانت في مؤسسة في بلاد الواق واق، ولا أدري هل لم يسأل نفسه؛ بأي صفة كنتُ أتحدث في الفضائيات وأصرح إلى الصحف، وأشارك في اعداد خطابات رئيس الوزراء، منذ دخولي المكتب و حتى خروجي منه بعد أخر مؤتمر صحفي عقده في شهر فبراير ٢٠٢١لإعلان التشكيل الوزاري الجديد، وضجت الصحف والأسافير بعد ذلك بخبر إعادة هيكلة المكتب وكنت أنا من الخارجين!لو كنت أرضى بسهل الخيارات والسباحة مع التيار، لما اخترتُ طريقاً وعراً حيث بدأتُ عملي المهني بالتعاون مع صحيفة " الشرق الأوسط" ومطبوعاتها " الاقتصادية" و " المسلمون" في وقت كان النظام الإسلامي في قمة تطرفه وسعاره مع الخصوم، يسمي الصحيفة " خضراء الدمن”. التحقتُ بعد ذلك بمكتب صحيفة " الخرطوم" خلال تأسيسها الثاني، حيث كانت الصحيفة تطبع في القاهرة في بداية تسعينات القرن الماضي، بينما كنا نعمل نحن في مكتب الخرطوم، وهو المكتب الرئيسي ، بل هو شريان وقلب وأكسجين الصحيفة، وتشرفتُ بالتتلمذ على يدي أساتذة أجلاء، على رأسهم صديقي محمد راجي، ومحمد عبد السيد، واستفدت منهما الكثير، كما زاملتُ دكتور مرتضى الغالي، وصالح علي، ومعتصم محمود.لم يستطع النظام الإسلامي، صبراًـ مع الصحيفة، فلم يترد في اغلاق مكاتبها وتشريد العاملين بها،، فكان أن قررتُ السفر الى اسمرا، بعد تحرجي مباشرةً من جامعة الخرطوم واكمال دبلوم عالي في العلاقات الدولية.
كان الزمان بؤساً، وكانت خرطوم التسعينات أشبه ببقة طالبانية، اللحي المستعارة، الهوس الديني، المطاردات ما بين الخليفي ومسجد أنصار السنة، ومنزل أسامة بن لادن، وكان الزمان تطرفاً وارهاباً وسياط الجلادين تلهب ظهور نساء بلادي خلال عهود التيه والعزلة، وسيطرة بنية الوعي التناسلي المتخبية في قياس طوال الخرق التي ترتديها النساء، وأزمنة الأعراس والزفاف إلى الحور العين!.
كتائب الموت توزع الأكاذيب والبطولات الخائبة، وهتافات الغوغاء تصك الآذان، أمريكا روسيا دنا عذابها، وهي لله لا للسلطة ولا للجاه، وروائح المسك، وقصص الغزلان تلاحق المجاهدين قائلةً : هي اذبحني,, هي اذبحني، والقرود تشارك الجهاد في الجنوب، وروائح المسك تفوح من غابات الاستواء، هنا سخر أحد طلاب الجبهة الوطنية الأفريقية من ترديد مقولة " فاحت رائحة المسك من دم الشهيد" قال بكل عفوية" يا كوز يا بليد، دا ما دم الشهيد، دا غابة الجنوب". بالغعل لغابات الجنوب هويتها الساحرة، رائحة المانجو والأنانس، علقت بأنفي عندما سافرت إلى ياي، مثلما يفوح عبق الورد في رمبيك.
حزمتُ أمتعتي وسافرت إلى اريتريا، ضقتُ ذرعاً بأجواء الكبت والبؤس، هناك في اسمرا عملت بإذاعة الحرية والتجديد، ثم اشتغلت مراسلاً لصحيفة " الحياة اللندنية" لمدة ست سنوات، وتعد صحيفة " الحياة" مع نظيرتها " الشرق الأوسط" أكبر صحيفتين عربيتين في العالم، مثلت أخباري وتقاريري مصادر أساسية لصحف الخرطوم حينها، مثلما كان السودانيون في الخارج ينتظرون على أحر من الجمر تللك التقارير، هي تقارير مرتبطة بأخبار الحرب في شرق السودان، واشتعال الحريق في دارفور، وكنت أول مراسل صحيفة عربية يدخل مناطق القتال ، ويقدم تغطية كبيرة لجرائم الحرب هناك، حيثُ توغلت داخل أراضي حركة تحرير السودان، في المناطق التي كانت تقع تحت سيطرة مني أركو مناوي، وذهبتُ الى الجنوب برفقة صديقي مصطفى سري مرتين، كما غطيت مفاوضات السلام في نيفاشا، من اسمرا ونيروبي، وقبل ذلك غطيت الحرب الكبيرة بين اثيوبيا واريتريا على الحدود.يمثل حضور " التجمع الوطني الديموقراطي" في اسمرا أحد أهم محطات العمل المعارض في تاريخ السودان، كان الحضور، وكان قرنق، المهدي والميرغني، وأخبار الحرب في الجبهات المتعددة، والتحركات الدبلوماسية ثقيلة الوزن، حيث كان ذهاب قرنق إلى أي دولة يعد حدثاً عظيما، وكانت أخبار الميرغني قصصا، وتحركات المهدي، جاذبة للصحافة والصحافيين.
سألني أحد الزملاء الصحفيين خلال زيارة له لأسمرا، وهو قادم من الخليج، عن كم يدفع لي " التجمع الوطني الديموقراطي " المعارض؟ سألته لماذا يدفع لي؟ رد الرجل بكل أريحية " أنت تدعم خط المعارضة في الخارج، وتخدمها أكثر من ما يفعل الناطقين باسمها، ضحكتُ، ثم قلتُ له " شيئان لو فعتهما المعارضة سأكون سعيداً جدا، سألني عنهما فقلت هما تجويد العمل المعارض حتى نعود الى الخرطوم بسرعة، وكف الأذى عني. استغرب من مسألة كف الأذى، فشرحتُ له أن رئيس التجمع سبق أن اشتكاني لمكتب الرئيس اسياس أفورقي والجبهة الشعبية للديموقراطية والعدالة، وتحدث معي أمينها العام الراحل الأمين محمد سعيد، عن سبب غضب مولانا الميرغني مني، مثلما أكد الرجل في مؤتمر صحفي مشهود أنه سوف يشكوني الى رئاسة صحيفة الحياة اللندنية في لندن احتجاجاً على أخباري.
عند العودة بعد اتفاق السلام الشامل، اشتغلت في صحف الأيام، والوحدة ثم أسستُ " أجراس الحرية" مع رفاق ورفيقات أعتد برفقتهم حتى تم اغلاقها بواسطة السلطات التي كان يشتغل عندها من ينتقدنا ويتهمنا بالعمالة، وبعد ذلك عملت بصحيفتي " حريات " والتغيير".لم أدخل الصحافة متطفلاً، فقد درستها قبل أن أمارسها، تحصلتُ على بكالريوس في الصحافة والإعلام من جامعة أم درمان الإسلامية، مثلما نلتً شهادة البكالريوس في علم النفس والفلسفة من جامعة الخرطوم، ودبلوم عال في العلاقات دولية ذات الجامعة؛ وعندما اضررتُ للسفر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حرصتُ على التزود بالجديد في علوم الاتصال، حيث نلتُ درجة الماجستير في علوم الصحافة من جامعة كونوبياك بالولايات المتحدة الأمريكية، فليت من يتساءلون يفيدوننا بما لديهم!.
أما اتهامات العمالة فلستُ محتاجاً للحصول على شهادة وطنية من أحد، أو ختم انتماء من جهة، ، فأنا لُستُ عرضةً للابتزاز بمثل هذه الشعارات والدعاوى والهتافات التي لا تخيف أحداً، وعندما خرجنا حافين حالقين متشحين بأزار حب الوطن، لم نطلب تأشيرة خروج أو دخول من شخص.لا تخيفني تلك الاتهامات " واسميها "شغل التلاتة ورقات" وهي اتهامات تطلق إما عجزا من عقلٍ كسول؛ لا يقوى عن مقارعة الحجة بمثلها، أو اتهامات تأتي مع سبق الإصرار والترصد في سياق ترسيخ خطاب كراهية، وتنظيم حفلات الشواء الاسفيرية التي يقيمها الفارغون والحاقدون. كذلك تعكف أجهزة التخابر على تصميم حملات ضد الخصوم لوصمهم بالعمالة، تطلق تلك الاتهامات في سياق الدعاية الرخيصة، للتأثير على المتلقي حتى يحدث له ما يعرف في علم الاتصال " بالتشويش الدلالي"، وهو بناء جدر عازلة لفصل صاحب الخطاب " المخيف" عن المتلقين؛ وبالتالي فعوضاً عن التركيز على الرسالة، ينصرف المتلقي للتفكير في صاحب الرسالة، وبدلاً من مناقشة محتوى الرسالة يتم الهجوم على صاحب الرسالة؛ واطلاق قنابل دخان لتشتيت الانتباه.
ومن يبحث عن " عمالة وارتزاق: لا يحتاج التوجه بعيدا، في وقت يغدق فيه النظام الإسلامي ملايين الدولارات على الأقلام المأجورة من داخل السودان، ومن خارجه، فلماذا كل هذا العناء؟ ومع ذلك؛ فلدي ترتيبات للسير في مسار قانوني، برغم مروري بتجربة سيئة مع النيابات في السودان في قضية مشابهة، وبالطبع فالعدالة مثلها مثل بقية أجهزة الدولة المهترئة الآيلة للسقوط، تظل مشلولةً ومختطفة، فأفكر في السير في مسار قانوني آخر، غير نيابات السودان، ويشمل ذلك " حديث كتيبة الجزارين والتهديد المباشر بالقتل، وللمفارقة أن الرجل اعتبر قائد الجيش الذي قال إنه يدافع عنه " عميلاً مثلي"، فلا أدري هل ستقصده كتائب الجزارين تلك أم تتركه للاستمرار في عمالته؟.

 

آراء