ومضي السفير زروق .. ريحانة الدبلوماسية السودانية

 


 

 

 

 

 

كان الفتي الصغير ينظر الي الواقف بالباب وهو يهرع الي الي أمه مذعورا يشكو خوفه من ذلك الرجل الأغبر الذي يقرع الباب. وعندما خرجت أمه وجدت أباه وقد علاه الغبار، وغارت محاجر العيون من سفر طويل و رهق مستديم، و أجهش الابن بالبكاء اذ كيف فات عليه الا يعرف أباه.

كان ذلك الرجل هو السفير محمد حسين زروق، وهو يعود من رحلة طويلة لترسيم الحدود مع اثيوبيا حيث كان يحتقب الأحجار وينام تحت الأشجار و يدخل المغارات والكهوف . يقول والي الخرطوم والقضارف الأسبق عبدالرحمن الخضر انه لم يصدق وهو. يري ذلك الدبلوماسي الشباب وهو ينام في العراء وتحت الأشجار وفوق الصخور يعلوه الغبار وتترسم خطاه الهوام وهو يسجل بدقة احداثيات حدود السودان مع اثيوبيا بجلد وصبر .

وفي تحديد نقاط المعابر مع مصر كان السفير زروق يقف بدقة علي حدود الطول والعرض الفاصلة وكان يقيس بدقة نقاط المعابر عند اخر نقطة لحدود السودان الشمالية مع مصر. كان يجلس قبالة النيل ويتأمل التاريخ ويعد سنابك الخيل التي مرت لغزو البلاد ويحصي دماء من استشهدوا وهم يدفعون عن السودان .
كان ذلك الفتي نسيج وحده ، و آيات النبوغ ومنابع الالهام تحتوش قلبه الصغير ، و هو يشق طريقه من قرية طيبة الشيخ القرشي في قلب الجزيرة وهو مشبع برحيق القرآن و طبول الذكر ، حتي حط رحاله بجامعة ام درمان الاسلامية حيث درس الشريعة والقانون.

كانت الجامعة الاسلامية في عهده محط العلماء حيث جاءها مصطفي الزرقاء وعائشة بنت الشاطيء وعبدالوهاب خلاف من علماء الأصول وفطاحلة اهل العلم والقانون والشريعة. وهناك تفتقت عبقريته العلمية حيث اشتهر بين اقرانه انه مثقف موسوعي ناضج الفكر، دقيق النظر في قضايا المعرفة. و رغم نزعته الاسلامية الا انه كانت منفتحا علي مدارس الفكر الانسانية فقرأ في الماركسية والوجودية والفلسفة الوضعية كأنه احد ابنائها وكان عندما يشتد وطيس الجدل المعرفي يبرز الفتي زروق ليخاطب مكامن الوعي لانه فارس حوبتها. كانت لديه قدرة فذة علي الجمع بين روحانية الغزالي وعقلانية بن رشد دون اجتراحات الانحيازات التاريخية. يقول عنه المثقف والباحث التونسي الطاهر الميساوي استاذ الأصول والفكر الاسلامي في الجامعات الماليزية، انه "من افضل المثقفين السودانيين".

تقلبت به أقدار الدنيا حيث عمل في المجال الإعلامي كاتبا لا يشق له غبار. قال عنه البروفيسور البوني "كنت اقرأ له في ثمانينات القرن الماضي مع قعقعة طرس لكاتب مهول ثم اختفي ولم أدر انه التحق بالسلك الدبلوماسي" .

كانت مقالاته تحدث اهتماما و دويا معرفيا كبيرا لقدرته المهولة علي البحث والاستقصاء و سبر أغوار اعقد القضايا الفكرية. يعد من أوائل المثقفين السودانيين الذين اهتموا بظاهرة البيروسترويكا والجلاسنوست وقدم عرضا فكريا مبهرا عن اصولها ومآلاتها.

في اشتداد الأزمات الاسلامية اختار العمل الطوعي الانساني واشتغل في منظمة اغاثة العالم الثالث التي كانت تعمل في البوسنة والهرسك برعاية الشيخ الفاتح حسنين ومقرها فيينا. حيث تعلم الالمانية وأتقنها وأنهي دراسته لدرجة الماجستير في القانون الدولي في جامعة فيينا. و كان يعد في الجامعة احد ابرز الطلاب الموهوبين والمثقفين العرب حيث وجد اهتماما كبيرا من أساتذته.

رغم دوره الطليعي في قضايا حقوق الأقليات الاسلامية وبروزه الأكاديمي الا انه فضل الالتحاق بوزارة الخارجية في درجة السكرتير الثاني. وعمل بعدها في سفارة السودان في ألمانيا عندما كانت ألمانيا مقسمة بين شرق وغرب وعمل في مدينة بون عاصمة ألمانيا الغربية. وقدم جهدا مهنيا رائعا وانجازات كبيرة.

كان يعرف الثقافة واللغة الالمانية كأنه احد أبنائها وكان شديد الاعتزاز بهويته وسودانيته. قال عنه الدكتور السفير الخضر هارون زرته في بون وقد استشاط فيه احد الالمان محتجا علي موقف سيارته. فرد عليه ببرود واصفا ذلك الرجل بالعنصرية لانه ترك مواقف سيارات الالمان وجاء ليقدم احتجاجا علي ذلك الأفريقي. فاعتذر ذلك الرجل الألماني بعد ان ادرك حرج موقفه.

رغم صغر درجته الدبلوماسية في ذلك الوقت ( سكرتير ثاني) الا انه رافق الدكتور علي الحاج في مفاوضات فرانكفورت مع لام أكول انابة عن مجموعة الناصر ولعب دور المستشار القانوني.

وهو الذي أعد وكتب مسودة اتفاقية فرانكفورت وقد بيّن لي عبر مكالمات هاتفية مطولة عن خطل المزاعم والادعاءات ان حق تقرير المصير قد تم إقراره في اتفاقية فرانكفورت بين علي الحاج ولام أكول.

يقول السفير زروق رحمه الله في مراسلات سابقة معه
ان المصطلح القانوني الذي اقترحه علي الدكتور لام أكول وتم القبول به في اتفاقية فرانكفورت لا يعني تقرير المصير والكلمة هي Plebiscite وهي حسب التعريف القانوني نوع من التصويت غير الملزم a type of vote with non-binding nature or results وهو من اقدم ممارسات الديمقراطية الشعبية في كانتونات سويسرا وقد استعمل المصطلح لأول مرة في القرن السادس عشر الميلادي . ويمضي التعريف القانوني ليؤكد ان الفرق بين تقرير المصير. Referendum والتصويت غير الملزم Plebiscite هي ان الأخير لا يغير الاوضاع الدستورية علي عكس تقرير المصير .

وقال لي الراحل في مراسلاته انه عرض هذا المصطلح علي الدكتور لام أكول في فرانكفورت وقبل به بعد ان راجع معناه القاموسي والقانوني، في المقابل حسب شهادته التاريخية الموثقة في مراسلات بيننا ان الدكتور علي الحاج رفض جملة وتفصيلا مصطلح تقرير المصير.

لقد غاب في ظل الهيجان السياسي مراجعة معني هذا المصطلح القانوني من اجل المسارعة لتحميل الحركة الاسلامية وزر الاعتراف بتقرير المصير دون تمحيص او دقيق . وقد اغلقت شهادة الراحل السفير زروق الباب امام مزايدات الناشطين والجاهلين حول هذا الامر. و ممن وقع في هذا التخليط الدكتور والقانوني الضليع سلمان محمد احمد سلمان في كتابه العام ( انفصال جنوب السودان : دور ومسئولية القوي السياسية الشمالية) الذي صدر في واشنطون عام ٢٠١٥ لم تقف عبقرية الراحل الفكرية والقانونية عند هذا الحد فقد قدم استشارات قانونية قيمة لفريق التفاوض في اتفاقية السلام الشامل، وقدم مقترحا بالحفاظ علي صيغة اتفاقية فرانكفورت بالتصويت غير الملزم بدلا عن تقرير المصير لكن مضت الأمور بما لا تشتهي سفن مقاصده.

عمل الراحل بعد ذلك في الاْردن حيث ازداد عمق معرفته بجغرافية الاستعمار السياسية وتقاطعات القضية الفلسطينية وربطته صلات عميقة بالنخبة الاردنية، ومن ثم عمل نائبا للسفير في لندن. وشهدته اروقة مجلس العموم واللوردات ومنابر السياسة والثقافة في لندن منافحا عن وطنه السودان.

اشتغل في ديوان الوزارة في عدة أدارات منها القانون الدولي والمنظمات وغيرها. كما اشترك في مفاوضات اتفاقية اليوناميد وقدم مرتفعات قانونية رفيعة ومقنعة أدت الي اجهاض المؤامرة التي أعدت سلفا وتم القبول بالقوات الهجين تحت تفويض قانوني محدد. .

ساهم من خلال عمله سفيرا للسودان في موسكو، في الارتقاء بالعلاقات الي آفاق جديدة بعد تعثرات سابقة. واستخدم جماع معرفته وثقافته العميقة وحسه السياسي الرفيع في العبور بالعلاقة من ارتكاساتها التاريخية الي أفق جديد يقوم علي المصالح ، وقد اعترف المبعوث الروسي الخاص ان حواراته مع زروق وحوارته مع أعضاء مجلس الدوما قد جعلت موسكو تحس باهمية اعادة علاقتها التاريخية ببعض الدول الافريقية وعلي رأسها السودان.

عندما غادر سفيرا للسودان في فيينا ( النمسا)، أعاد للسودان الق تاريخه القديم حيث تم انتخابه عضوا في مجلس المحافظين لمنظمة الطاقة الذرية. وظل عضوا فاعلا وناشطا تحج اليه وفود الدول في اوقات الأزمات والمعضلات الكبيرة. وتم اختياره ضمن خمسة سفراء لزيارة مفاعل تشرنوبل وعدد اخر من المفاعلات.

وكما وصفه احد أصدقاءه من السفراء في مجلس المحافظين انه كان صوتا للحكمة والعقل و الخبرة المتفردة. كما عمل مع صديقه وزير الري والكهرباء معتز موسي في ملف السودان في هيئة الطاقة الذرية في اطار مصادقة السودان علي الاتفاقيات الضرورية لبدء العمل في انشاء محطة الطاقة النووية للاستخدام السلمي التي وافقت روسيا علي بنائها في السودان.

يقول عنه صديقه سعادة السفير الدرديري محمد احمد. عرفت زروق في مطلع الثمانينات. كان حينها طالبا بالإسلامية وكنت انا بحامعة الخرطوم. وكانت العلاقة التي نشأت بيننا من القوة بحيث لم تنفصم قط، فامتدت طوال سنوات الدراسة ، بل طوال سنوات العمر. وبالرغم من انني لا اذكر الان السياق المحدد الذي قاد لذلك التعارف الا انه كان سياقا فكريا ولاشك. فالاهتمام الطاغي بالفكر والبحث الذي لايفتر عن المعرفة هو ما رسخ في نفسي عن زروق طول العمر. فهو لايكف عن البحث والتنقيب في كتب الأقدمين والمحدثين. وكنا حينها عاكفين على ثمرات ما تلقي به الينا مطابع القاهرة وبيروت ونكتشف ما نشرته مطبعة جامعة الخرطوم في عصرها الذهبي حول قضايا الفكر والمجتمع والسياسة في السودان.

كان زروق من أوائل من عرفوا أوروبا من ابناء جيلنا. فاستقر جهة ألمانيا والنمسا منذ منتصف الثمانينات ليتقن الألمانية وينهل من معين كبار الفلاسفة والاُدباء الذين كتبوا بها. وقد قيض الله لنا ان نجدد اللقاء في مطلع التسعينات حين جمعت بيننا وزارة الخارجية في اغسطس ١٩٩٠. حينها وجدت صاحبي وقد اشتد عوده. وقد تعرفت منه لأول مره على جورقين هيبرماس ومدرسة فرانكفورت. وهي مدرسة في الفكر الألماني ثائرة على النازية والاستالينية لكنها ذات جذور اشتراكية. وكان ما يستهوينا فيها خروجها على مايسمى المشروع التنويري الذي هو أساس الفكر الليبرالي الغربي وتناولها الجريء لأزمات ومشاكل الحداثة المختلفة. فكنا نرى في ذلك خطابا متساوقا مع خطابنا الاسلامي وطرحا لايقل تجديدًا عن طرحنا وان اختلفت المشارب. بعدها رمت بِنَا النوى في بلدان متباعدة وفى زمان تقل فيه وسائط التواصل. غير ان الايام قد جادت لنا بفرصتين أخريين نادرتين للقاء. كانت الاولى عندما كان زروق نائبا للسفير بلندن وكنت انا طالبا للدراسات العليا ببريطانيا. وكانت فترة اقبلنا فيها معا بشراهة على هواياتنا المشتركة في البحث والتنقيب نصقل ونجود القديم ونتلقف الجديد. وكان زروق يتحفنى دوما بالمزيد ويحرص على سد ما يبدو له في اطلاعي من ثغرات بسبب بعدي عن أوروبا وجهلي الألمانية التي كان يراها وريثة اللاتينية ولغة الفكر والأدب. وقتها تحول اهتمامنا تدريجيا عن الفلسفة الى قضايا القانون الدولي وتحديات النظام العالمي الجديد وتشابك العلاقات الدولية وإشكالاتها في فترة مابعد انتهاء الحرب الباردة. ثم كانت الجولة الثانية والاخيرة مع زروق حين تولى لجنة ترسيم الحدود مع اثيوبيا وكنت حينها بصدد الدخول في التحكيم الحدودي بشأن ابيي في لاهاي. وقد كانت فترة أعطى فيها زروق وطنه عصارة ما حازه من معارف وتجارب اذ أمضى حينها وعلى مدى سنوات فترات طويلة في الميدان مع اللجنة الفنية المشتركة لترسيم حدودنا مع الجارة اثيوبيا. بعد ان نقل زروق الى فيينا النمسا، دعاني لان أزوره. وجدد الدعوة بالهاتف مرارا. لكن قدر الله الغالب قضى الا نلتقي ثانية. فوداعا يا ابا ابراهيم ...وداعا أيها الباحث المتعمق المواكب دوما والوطني الغيور الحادب دوما.)..
انتهت شهادة السفير الدرديري محمد احمد...
وصل الي الخرطوم قبل اربعة أسابيع وفد شعبي من النمسا علي رأسه ( سلاطين) حفيد سلاطين باشا و احد أعضاء الاسرة الملكية التاريخية في النمسا وعدد من العلماء ورجال الاعمال. وكان السفير الراحل زروق قد اقام مأدبة علي شرف زيارتهم للسودان في داره. قال رئيس الوفد النمساوي عندما وصل الي السودان لوزير الخارجية ( لم أر رجلا بمثل هذه الثقافة الموسوعية والحس الانساني النادر).

كان الراحل زروق ريحانة المجالس، ودودا تقيا نقيا ورعا، لا يغتاب احد ولو علي سبيل المزاح والسهو. كان عفيفا في لسانه طاهرا في يده، وكانت انسانيته وروحه الفياضة تغمر المكان . كان شهما كريما مدافعا عن الحق ، وكان حريصا علي العدل والانصاف مع مرؤوسيه من الدبلوماسيين والاداريين ولا يأخذ الناس بالظن او جريرة الآخرين . كان اذا تحدث أنصت الناس لينهلوا من ثقافته وعمق معرفته وحكمته. كان صبورا علي المكاره ، عندما اشتد عليه المرض كان يكتم جراحه وأوجاعه ولا يبوح بها لأحد. كان يعمل حتي اخر لحظة من عمره، لم تصده الأوجاع والامراض عن القيام بواجبه المهني والعملي. رفض رجاءات الأصدقاء بالراحة والكف عن مواصلة العمل.

عندما جاء الي السودان لحضور مؤتمر السفراء قبل شهرين أشفق عليه أصدقاؤه وأحباؤه اذ ظهرت عليه علامات الإعياء والمرض، وكان قد حضر للتو من اليابان في رحلة عمل مع مجلس المحافظين لهيئة الطاقة الذرية. استعصم بالصبر علي ابتلاءات الجسد لكن بقيت روحه متوهجة حتي اخر لحظة، يمنح الناس الأمل والطمأنينة ويحثهم علي الاصطبار ، وجسده النحيل يتمزق. كان لا يبوح بآلامه لأحد ويردد( انا بخير الحمد لله) ذهب بسيارته حتي باب المستشفي وترجل عنها واسلم جسده النحيل للنطاسين، لكن بقيت روحه تحلق في منابع الخير وفي ارجاء بلدته الطيبة في ( طيبة الشيخ القرشي)، لتعانق أصوات القرآن وتراتيل الخلاوي وطبول الذكر. وأصوات النائحات يشق عنان السماء.كان زروق ريحانة الدبلوماسية في حديقة الأشواك .

لم ار حزنا يرتسم علي الوجوه ، ولا البكاء المر في أكباد الرجال كما رأيته عندما نزل الخبر الفاجع علي إسماع أهله وأصدقائه ومحبيه.

نعاه الناعون بالقوافي والاشجان والدمع الهتون: قال عنه صديقه السفير عمر الامين..
رحل بحر العلوم وملك العقول الراجحة
وغادرنا السفير زروق نسل الأسود القارحة
وفراقك يا الحبيب غرز في القلوب سيوفاً جارحة
شاحد الكريم في الجنة روحك سارحة
كما نعاه صديقه السفير معاوية التوم بقوله:
فيك زروق اخوى شرد الشعر والقافية
وبفقدك بلادنا فقدت عقول كم لافية
ياك حارس المواثيق والمواقف الشافية
زروق انت فقدك نارو جد ما خافية
وقال عنه السفير سليمان عبدالتواب:
يا صديقي لست وحدك في عباب الخائضين
وطريق الموت حتما كما حملنا السالكين
ربح البيع محمد نعم اجر الزراعين
فارق الدنيا مقيما في رياض الصالحين
اللهم اغفر لعبدك الفقير الي رحمتك محمد حسين زروق، واكرم نزله ووسع له في قبره واجعل الجنة مثواه، واغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الخطايا كما تنق الثوب الابيض من الدنس. اللهم احسن عزاء أسرته واجرهم في مصيبتهم ، و انا لله وانا اليه راجعون.

kha_daf@yahoo.com

 

آراء