وهكذا عشنا أطول يوم فى التاريخ !! … بقلم: السفير أحمد عبد الوهاب جبارة الله

 


 

 


اليوم التاسع من يوليو 2011 هو بلا شك اليوم الأطول فى تاريخ السودان. وعندما نقول ذلك فإننا لا نعنى أنه الأطول بحساب الساعات والدقائق والثوانى ، ولكننا نعنى أنه الأطول بحساب ما لذلك اليوم من وضعية خاصة فى تاريخ السودان ، وما خلفه ووراءه من تبعات جسام على كاهل الجسم السياسى للسودان وعلى أكتاف أهله ، وهى المثقلة أصلاً بما تنوء عن حمله الجبال. وما سيترتب عليه فى المستقبل من مضاعفات سياسية واقتصادية واستراتيجية ، لا تقتصر على السودان وحده ، وإنما تمتد إلى محيطه فى العالمين الإفريقى والعربى. فمنذ ذلك اليوم ، إنشطر السودان الذى كنا نعرفه إلى آخر لم نكن نعرفه ، حيث صحونا فى الصباح الباكر ونحن نرى خارطة جديدة لدولتين ، هما جمهورية السودان وجمهورية جنوب السودان. وبرغم أن البعض حاول التقليل من شأن ذلك الحدث الزلزالى الجلل، إلا أن مثل هذا التقليل والتغاضى عن المعنى والمدلولات ، يجعلنا نقع فى محظور متلازمة " القصور فى فهم التاريخ ومجرياته". لأن الذين يقللون من شأن هذا الحدث يريدون أن يقولوا لنا أن ما حدث لم يكن من الممكن تفاديه ، وليمضى ذلك اليوم إلى طى النسيان ، وليس من حق أحد أن يتساءل : من هو المسئول عن هذا الإنشطار ؟ وما هى تبعات هذا الإنشطار؟ وليكن معلوماً أن الغرض من طرح مثل هذه التساؤلات ، ليس هو من قبيل التباكى وشق الجيوب ولطم الخدود... ولكنه إعمال للمنهج العلمى الذى يحتم علينا دراسة الظواهر السياسية وفهمها ثم إستخلاص الدروس والعبر بهدف تفادى حدوث مثلها أو العمل على صنع ظروف تخلق أوضاعاً تغنينا عن الدوران فى حلقة مفرغة بالنسبة لمستقبل هذا الوطن المهدد بالتفتت والضياع . وبعبارة أخرى ، إذا لم نفهم فى الوقت المناسب - ليس على طريقة الرئيس التونسى السابق زين العابدين بن على- لماذا حدث لنا ما حدث فى التاسع من يوليو 2011 فإننا نعرض كل هذا الوطن إلى مخاطر ستعصف به ، وتورده موارد التهلكة والضياع ، ولن يكون فيه من نعيم لحاكم أو محكوم ، وسنفتح على أنفسنا أبواب جهنم ، التى ستضاعف من تدهور الحال فى دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق
لقد حل اليوم التاسع من يوليو ، وأهل السودان فى شماله وجنوبه تتنازعهم أفكار وأحاسيس مختلفة . ويقينى أن الغالبية العظمى كانت فى حال من الصمت والتأمل .. على خلاف بعض فئات متطرفة هنا وهناك رفعت أصواتها وأحدثت ضجيجاً يفوق حجمها السياسى على أرض الواقع . ونحن نعلم أن الضجيج فى الشارع السياسى ليس هو بالضرورة تعبيراً عن صوت الأغلبية الصامتة التى تختار فى معظم الأحيان أو تجد نفسها مجبرة على الصمت والترقب والتأمل. فقد شاهدنا فى ذلك اليوم بعضاً من أهل الخرطوم يبرطعون على ظهر خيول فى شارع هنا أو هناك ، وهم يدعون أنهم يحتفلون بما أسموه " يوم الفرحة الكبرى " وهم يعنون " يوم التخلص من جنوب السودان" ويقينى أن ذلك يعكس الكثير من تشويه الحقائق والشطط ، ويقفز فوق حقائق التاريخ والسياسة  . ثم هناك البعض فى الشمال الذين ظنوا أن " ذهاب الجنوب" قد أعطاهم الفرصة الذهبية لبسط السلطة الدينية التى لا تترك مجالاً لمعارض أو مطالب بالدولة المدنية الحديثة ، ومن أراد أن يخالف أطروحات التطرف فلا مكان له فى هذه الدولة ...وهذا طرح موغل فى العبثية الفكرية والسياسية ، ولا يدرى أصحابه أن الزمن قد تجاوز مثل هذا الطرح، لأن الدول لا تعيش ولا تزدهر إلا إذا سادت فيها ممارسات الديمقراطية ، وتوفرت فيها حريات التعبير والتنظيم ، وضمنت فيها حقوق الإنسان ، وتجسدت فيها سيادة القانون الذى ينطبق على الناس جميعاً دون محاباة أو مجاملة .وفوق ذلك أن تتسم ممارسات الحكم بالشفافية ومحاربة آفة الفساد فى الحكم وفى التعامل مع المال العام .ومما لفت الأنظار فى اليوم التاسع من يوليو أن إحدى شركات الإتصالات أرسلت رسالة قصيرة لمشتركيها مفادها أن مساحة جمهورية السودان اليوم هى 1882000كلم مربع وأن عدد سكانها  33419625نسمة ونسبة المسلمين فيها 96%... ولا يخفى على أحد ، مثلما سمعت من العديدين ، أن الرسالة تلك أرادت أن توحى بأن مسألة الغالبية العظمى من السكان المسلمين للدولة قد تساعد على الخروج من مآزق الحروب والصراعات.. ولكن لا يبدو أن ذلك الإفتراض صحيحاً ، وليكن لكم ولنا فى الصومال عبرة ودرساً وذلك بلد كل سكانه من المسلمين ، باستثناء أسرة مسيحية واحدة ، ورغم ذلك عصفت به الحرب وأهلكته الصراعات.وليتذكر من أراد ن ينسى أو يتناسى أن جمهورية السودان الآن لا تزال بوتقة تضم  الإثنيات والعناصر المتعددة، وفيها مسيحيون وفيها وثنيون أيضاً ، ولن يصلح أمرها إلا بالتعايش السلمى والإحترام المتبادل بين كل مواطنيها بغض النظر عن دياناتهم و إثنياتهم.
لفت نظرى أيضاً أن هناك من أهل الجنوب ، من ذهبوا بالحدث إلى مرمى بعيد ، ومثلهم مثل الفئة المتطرفة فى الشمال طرحوا أطروحات لا تخلو من غلو فى ذلك اليوم . ومن قبيل ذلك أن بعض اللافتات التى رفعت فى جوبا تحدثت عن شعار حركة الحقوق المدنية للزعيم الأمريكى العظيم مارتن لوثر كينق ، " وأخيراً أصبحنا أحراراً" فى محاولة لتشبيه حال العهد الجديد فى الجنوب بما صار إليه حال الأمريكان ذوى الأصول الإفريقية فى الإنعتاق من ربق العبودية والتفرقة العنصرية المؤسسية !! كذلك لا حظنا أن البعض من الناشطين فى جوبا ، رفعوا شعاراً آخر يقول " إعتباراً من اليوم ، هويتنا جنوبية وإفريقية وليست عربية" ...وبرغم أن البعض قد يرى فى هذا الشعار نوعاً من وصف الواقع إلا أنه فى نظرى ينذر بالإنغلاق فى سيكولوجية يسيطر عليها فكر رد الفعل المرتبط بالماضى ولا يستشرف آفاق المستقبل فى دولة يتعين عليها أن تنفتح ولا تنغلق على نفسها . كما أن مثل ذلك الطرح المحدود يخالف روح الإنطلاق المستند على حقائق العلاقات الدولية المعاصرة بما يتجاوز التصنيفات الإثنية والعنصرية التى تعوق حركة الدول وتطورها.
وإذا ما عدنا إلى السؤال الذى طرحناه فى المستهل ، حول مسئولية ما حدث فى التاسع من يوليو، لا بد أن نقر بأن المحصلة لم تكن سوى عنواناً للفشل الذريع للقيادات السودانية فى شمال البلاد وجنوبها فى إدارة هذه الدولة التى ورثناها من الإستعمار . وكان الأمل أن نجعل منها قوة هائلة فى القارة الإفريقية ومثالاً يحتذى فى التنمية والسلام والإستقرار . وإن تساوت فكرة المسئولية شمالاً وجنوباً من الناحية النظرية ، إلا أنه لا يخفى على أحد أن القادة فى الشمال يتحملون العبء الأكبر فيما وصلنا إليه من نتيجة، كما أن الحكومة الحالية قد خصت نفسها بالنصيب الأكبر فى هذه المسئولية. ومن الغريب أن الإذاعات فى الخرطوم وكذلك العديد من الصحف وبرامج التلفزيون ظلت تطلع علينا بسيل من المقابلات مع من أسمتهم بالخبراء الإستراتيجيين ... ومعظمهم لهم إرتباط بالسلطة بصورة أو بأخرى  ،وهم يتحدثون عن حاضر الحال ومآلات المستقبل .. ولم يكن فى خضم مداخلات هؤلاء الإستراتيجيين من يثير تساؤلاً مشروعاً وهو: إذا كان فى بلادنا هذا الكم الهائل من الخبراء الإستراتيجيين.. إذن لماذا نحن نجد أنفسنا فيما نحن فيه من معضلات ؟ وهذا السؤال يجب علينا أن نطرحه ، ويقينى أن القارئ الكريم يعلم جيداً فحوى الإجابة عليه. ويمكن القول أن السودان بلد قد منى بإخفاقات أبنائه ردحاً طويلاً من الزمن ، ويأمل المرء أن نخرج من هذه الورطة التاريخية بفكر سياسى جديد ، ينعكس على دستور جديد ، ومشاركة سياسية عصرية ومسئولة ، تبتعد عن التناكف والتصارع والإقصاء وركوب الرؤوس .ويقينى أن المطلوب ليس هو إعادة تشكيل الحكومة فقط ، لكن المطلوب هو إعادة تشكيل الفكر السياسى الإقصائى وإعادة تشكيل الممارسة السياسية التى لم نحصد منها سوى الإستقطاب والإحتراب، وعلى رأى ذلك المواطن التونسى اللماح " لقد هرمنا فى إنتظار هذا اليوم" ، فهلا إحترم الحكام والمعارضون شيبنا ، وكفوا عن جرنا إلى دروب لا حرث فيها ولا زرع و مطر!!
المهم أن إحتفال جوبا فى التاسع من يوليو ، رأينا فيه  إلتزاماً معلناً من السيد رئيس جمهورية السودان والسيد رئيس جمهورية جنوب السودان  بالعمل من أجل التعايش فى سلام ووئام وهذا أمر مشجع ، غير أنه لا بد من أن يكون ذلك مصحوباً بسياسات وبرامج وأعمال ومشروعات تصرف الناس عن مسالك العداء والإحتكاك وتشدهم نحو التكامل والمصلحة المشتركة عبر حدود الدولتين . وهكذا ، ما دام الطرفان قد فشلا فى الوصول  إلى " وحدة جاذبة " فليكن هدفهما العمل على التعايش مع ´´إنفصال يسوده السلام ". والحق يقال أن التاريخ لن يعطينا فرصاً أخرى للتجربة بين الحرب والسلام ، لأن سيف التاريخ سيكون مسلطاً على رقابنا ، إذا ما فشلنا فى إرساء قواعد التعايش السلمى بين الجمهوريتين بعد إنفصالهما.
من الأمور المثيرة للتأمل والتدبر فى مشهد اليوم التاسع من يوليو فى جوبا، ذلك الحضور المكثف للأسرة الدولية ، وحرصها على إبلاغنا الكثير من الرسائل السياسية. ويمكن القول أن ذلك اليوم وتبعاته ومآلاته ، لم تكن قاصرة علينا نحن أهل السودانين الإثنين ، ولكنها برهنت على الإنخراط والإنشغال الدولى على كل المستويات . فقد كانت هناك الولايات المتحدة، والإتحاد الأروبى والإتحاد الإفريقى والجامعة العربية، والصين والأمين العام للأمم المتحدة . وقد تحدث كل هؤلاء وجاهروا بحرصهم على متابعة مستقبل الأوضاع فيما يخص الجمهوريتين . ولا يخفى على أحد أن طاحونة التدويل التى طحنتنا عدداً من السنين ، ما زالت رحاها تدور وتدور ، ولن نفلت من دواماتها ، والدليل ما نراه من حديث كل هؤلاء عن الأوضاع فى جبال النوبة ودارفور والنيل الأزرق . أضف إلى ذلك القوة الجديدة الخاصة بمنطقة أبيى . ومن تجربتى فى العمل الدبلوماسى والعمل فى الأمم المتحدة ، فقد لا حظت أن دخول أى دولة فى نفق التدويل ( بعثات السلام وقواته) يصعب خروجها من هذا النفق فى المستقبل المنظور ، وما دام الأمر فى يد مجلس الأمن ، فإن إرادة هذا المجلس ستظل هى العليا والنافذة ، برغم الحديث الكثير الذى يذهب إلى غير ذلك وما يطلقه بعض الساسة من تصريحات.
تلك ملاحظات وخواطر تتعلق بمشاهد ودلالات اليوم التاسع من يوليو الذى أعلن فيه إنفصال الجنوب وتأسست فيه دولة جنوب السودان. ويخطئ من يظن أن ذلك اليوم قد مضى ...فهو حالة من الزمن المستمر بتبعاته وتوابعه إلى مدى من السنين ليس بالقصير ، لأنه يتعلق بحياة الملايين فى دولتين لا خيار لهما سوى العيش فى سلام ، وإلا فإن حصادهما سيكون هشيماً وخيبة كبرى . وإذا ما جاز للمرء أن يسدى النصح المنبثق من حق المواطنة والمصلحة الوطنية التى لا تشوبها شائبة ، فإن البداية الكبرى تبدأ هنا فى جمهورية السودان . وهنا فنحن لسنا فقط فى حاجة إلى"حكومة عريضة" ولكننا فى حاجة إلى "حكومة رشيدة".وتفرض علينا شروط الحصافة السياسية أن نتجه على ذلك الطريق، وفيه خلاص البلاد من المزيد من المآزق والأزمات.

Ahmed Gubartalla [ahmedgubartalla@yahoo.com]
\\\\\\\\\\\\\\\\

 

آراء