ياسر عرمان: لا كرامة لنبي في قومه (١)!

 


 

أحمد ضحية
20 January, 2023

 

الآن في أقصى جبال النجم يطبع وجهه في النجم (سودان) جديد!*

_______
أحمد ضحية
_______
"جبلٌ على بحرٍ وساحل للأنبياءِ/ وشارعٌ لروائحِ الليمون، لم تُصب البلاد بأى سوء/ هبت رياحُ الخيل، والهكسوس هبوا/ والتتار مقنعين و سافرين.. وخلدوا اسماؤهم بالرمح أو بالمنجنيق وسافروا/ لم يحرموا (أبريل) من عاداته: يلِّد الزهور من الصخور/ ولزهرةِ الليمون أجراس/ ولم يُصب التراب بأي سوء/ أي سوء/ أي سوء بعدهم/ والأرض تُورث كاللغة/ وارتفع النشيد.. على المسافة والغياب/ بأى أسلحة تصد الروح عن تحليقها؟!"
محمود درويش،
مأساة النرجس، ملهاة الفضة

يجب أن نوفر لكل إنسان نصيبه من الخبز ونصيبه من الشعر.
ليون تروتسكي
_________

● الرفيق ياسر عرمان من أنبل وأميز
السياسيين الذي خرجوا من رحم الثورة ورضعوا من ثديها. فهو البارع في اجتراح الحلول، في زمن أصابته الحركة الاسلاموية بالعُقم. وهيمن عليه (حُراس النوايا و مُلاك الحقيقة المطلقة) من كهنة اليسار واليمين.
منذ عودته ظل يتفادى المعارك الدونكيشوتية الخاسرة، والأحكام المسبقة والقوالب الجامدة محفزاً قدرته المدهشة على ترتيب الوقائع والأحداث، وصولاً إلى النتائج الصحيحة التي لا تغفل منطق الواقع والممكن والمعقول، انطلاقاً من مقدمات واضحة ومفهومة لا تشوبها شائبة غموض. ومع ذلك لم يرى فيه شراذم الضالين والمضلين، الذين "خرجوا من الماضي الذي سكنوا حوائطه إلى الماضي الجديد"** سوى ما يريدون رؤيته!..

● الرفيق ياسر عرمان لكل ذي عين بصيرة،
هو اليوم من السياسيين القلائل، الذين تمثلوا بحكمتهم رُقي (علم السياسة) الذي أُستبيح في السودان على قارعة التاريخ دون أهداف نبيلة، منذ بدأ التلاعب بأحلامِ الوطن وتطلعاته في فجر الاستقلال حتى لحظته الراهنة، للدرجة التي (كرَّهت) الشعب في الساسة والسياسة! رغم أن السياسة علم الأكل والشراب والصحة والتعليم، ورفاهية حياة الأفراد والجماعات في الوطن الواحد الموحد قبل كل شيء!
بالتالي هي كل ما يتعلق بالكرامة الإنسانية. لكن الذين يستهدفون عرمان ارتبطت مصائرهم بالمافيات، التي تخللت مفاصل الاقتصاد والسياسة والمنظمات، لذلك يبثون الشائعات ضده، فهو تهديد جدي لهذه المصائر المتشابكة، التي لم يهدد تشابكها مع مؤسسات الدولة والفضاء العام شئ، بقدر الاختراق الكبير الذي أحدثه عرمان في الذهنيات المستعصية ما أصبح يشي بزوالها، فلم تعد تملك سوى التآمر من خلف ستار، أسيرة خلف أسوار أفقها الضيق، الذي عجز ويعجز عن رؤية الشجر وهو يتحرك في وضح نهارات البلاد الكبيرة!

● عرمان يحاول رد الاعتبار للسياسة،
واجتراح أجندة جديدة في مهام البناء الوطني، لتقصير المسافة للوصول إلى النهضة الشاملة في الريف والمدن. وهي مهمة عسيرة دونها حصارات الهواجس والظنون، من مدمنى الهتاف عشاق الرجم بالغيب، أحفاد الذين يضربون الرمل والسحرة والمنجمين القدامى والجدد. البارعين في وضع العوائق ورمي السهام، التي لا يقابلها عرمان كمواطن سوداني أصيل سوى بالتجاهل والنضال النبيل.
فهكذا حمل السلاح وقاتل، وهكذا وضع السلاح وانحاز لهذه الثورة العظيمة دون أن يلتفت للوراء ويهتف مع حميد: "ملعون (الحزب)، اللَّم سلاحو وخيلوا تناهد.."..

● السيرة الذاتية لياسر عرمان هي رحلة طويلة
لعقل جمعي حددته أحلام الريف وطموحات المدينة، عقل لا يكل ولا يمل في سعيه للإجابة عن الأسئلة الشائكة. في محاولاتها الدؤوبة لإستفهام وضع المهمشين، في رحلة (وعيهم بذاتهم) ورفضهم الاستمرار (كموضوعات) لمشاريع مركزية قاصرة عن الإحاطة بأحلامهم العريضة.. عقل يسعى لجبر كسور نظم تفكيره، قبل أن يجبر خواطر (الأشقاء) جيران السوء، الذين اخترقوا بعملائهم مفاصل الدولة في أكثر مؤسساتها حساسية.

● يا رفيق نحن قطعنا مع الماضي لأجل
سودان جديد، ولن يوقفنا ما يحاك ضدك في الخفاء، لكنه يظل مدعاة للحزن والأسى! ومع ذلك لن نتمثل ما باح به الفيتوري ذات مساء "وأنا الذي لم يختبئ يوماً وراء دموعه/ إن الأُلي سرقوا طفولة ذلك الآتي من المأساة قد سرقوا فمي/ لم يتركوا لي غير قافية على وتر خجول/ سرقوا فمي/ لم يتركوا لي ما أقول" ولكنا نقول لن نمكنهم من أحلامنا اليانعة بوطن حدادي مدادي، و أفواهنا التي لا تكف عن المنافحة، واقلامنا التي لن نترك للصدأ إليها سبيل.. كما لن نترك لمحاجرنا أن تنزف دمعة واحدة، وندرك ما نقول!

● ما الذي دعاني لكتابة ما أكتب الآن، ونحن
الذين اعتدنا تجاهل الرد على استهداف الخصوم، الذين تتقاصر قاماتهم عن أي فعل يوازي المرحلة؟
ما يدفعنا للكتابة الآن هو الهجمة الشرسة، التي ظل يتعرض لها الرفيق ياسر عرمان على عهد النظام البائد، وتوقعنا أن تتوقف بعد سقوطه لكن لم يحدث! فأما على عهد النظام البائد، فقد كانت الهجمة والاستهداف يجدان تبريرهما في كون أن (مشروع السودان الجديد) خصماً على (مشروع الاتجار بالدين) الذي ظل الإسلامويون يسترزقون و يتعيشون منه، ومارسوا باسمه فسادا غير مسبوق.
ولكن ما لا يجد التبرير، أن الثورة طرحت أحلاماً عريضة لسودان معافى من (أمراض المشهد السياسي) الذي أرست دعائمه الحركة الاسلاموية خلال عقود حُكمها الجائر.
سودان حري بساسته ونشطائه وأكاديمييه، الاحتفاء بكنوز وثروات قومية كياسر عرمان، وإعادة قراءة الرجل والنظر إليه كما هو في الحقيقة والواقع الحركي اليومي، بكل فكره الثاقب وقدرته الفذة على التسامى على الرغبة في الانتقام وصغائر الأمور وسفاهة السفهاء، مصوباً جهده نحو رأب التصدعات و البناء، واجتراح الحلول للمشكلات السياسية المعقدة، في واقعنا الذي تراكمت على أزماته شباك العنكبوت.
لكنهم لا يرون الرجل بعيونهم كما هو، وإنما بعيون صُناع الدعاية المضادة، ومحترفي اغتيال الشخصية، الذين في سبيل (البحث عن دورٍ مفقود) يشبع رغباتهم في (السلطة والثروة)، لا يتورعون عن بذل الأكاذيب والاتهامات التي لا يسندها سوى بؤس نواياهم، وقصر نظرهم وضيق أفقهم، في وقت بلادنا احوج ما تكون إلى تضميد جراحها الغائرة، وتوحيد طاقاتها وتفجير الامكانيات المبدعة لأبنائها، للنجاة مما يحيكه أعداء السودان من أنصار الحركة الاسلاموية والجوار السيئ، وعرابين البزنس السياسي في الإقليم والعالم.
كأن أكاذيب هؤلاء الأفاقين الأدعياء ستصنع لهم سُلماً يرتقونه إلى ما يرونها أمجاد، فيما نراها غثاء زبد! على الرغم أن الأمر لا يستحق كل هذا الجهد، الذي يبذلونه في التلفيق والاتهامات، التي ليست موجودة سوى في مخيلاتهم المريضة. فالمشهد مفتوح على مصراعيه لمن يستطيع الإسهام في إعادة بناء هذا الوطن المدمر لإنجاز ما ينفع الناس.
ليس ذنب ياسر عرمان أن تكون للبعض أحلام (تتقاصر قدراتهم الطبيعية) عن تحقيقها، فلايجدون لردم الهوة سوى التخرصات والكلام المرسل على عواهنه نكاية، فيتبرعون باستنتاجتهم الخاصة ويسربونها في التسجيلات الصوتية والشائعات إلى قروبات الواتساب، على أساس أنها حقائق لا يأتيها الباطل.
هؤلاء العطالى من قيمة الصدق والنزاهة والشفافية، الذين للأسف بعضهم يُحسبون على النخب المستنيرة حملة الشهادات العليا، والمنسوبة لمشاريع التنوير والحداثة وحقوق الإنسان —حتى أن أحدهم دبج المقالات والكتب تضامنا مع ضحايا المذابح والرق، ليتضح بعد ٣٦ عاما من كتابه أنه لم يكتب سوى ذراً للرماد على العيون، ليبدو كحارس للضمير الإنساني ومدافعا عن حقوق الإنسان، التي لا يتمثلها في سلوكه!— أمثال هؤلاء العطالى عن أي موهبة سوى التزييف، لن يدركوا أن ما تداولوه ويتداولونه ضد عرمان في وسائل التواصل الاجتماعي، لن ينتقص من قدره شيئاً، فمن يعرفونه حقا يقدرونه حق قدره. ويعلمون أنه أحد كنوز هذه البلاد الثرية، فليس ثمة من يستطيع إنكار خبرته السياسية النادرة، وقدرته الفذة على التفاوض وهندسة التحالفات التي لطالما رمت لتحقيق حلم (السودان الجديد) الواحد الموحد الذي يسع الجميع!
سودان الحرية والسلام والعدالة والمواطنة بلا تمييز. الذي حملته أحلام الشباب اليافعين وهم يستشهدون برصاص الغدر والخيانة منذ تفجرت الثورة دون أن يتوقف العنف ضدهم حتى الآن.

● هؤلاء "لم يشهدوك.. وأنت تُولد مثل عشب
الأرض في وجع الفصول.. لم يتركوا لك ما تقول"*.. أمثال هؤلاء مهما شرحت لهم أن وجه السودان تغير للأبد، ولم يعد بإمكان أي سياسي إخفاء حقيقة ما يجري عن الناس! لن يصدقوا سوى أوهامهم وأضغاث أحلامهم!
من عيوب أمثال هؤلاء عندما يضعون انفسهم مواضع الخصوم، يناصبون رموز نهضتهم العداء. ويدفعونهم إلى الزهد في خدمة الشعب دفعاً، ثم يأتون بعد فوات الآوان ليقولوا ما قاله محمود درويش: "يريدونني ميتاً كي يقولوا كان منا وكان لنا".. ليؤكدوا على خيباتهم وأمراضهم النفسية المزمنة!
لطالما برع أمثالهم في الخذلانات الكبيرة، وصناعة الجراحات الغائرة، التي لكل جُرح منها قصة تختلف عن الأخرى، فقصة رفيق الدرب والكفاح الذي يتراجع في منتصف المسافة، تختلف عن قصة الحليف الذي يكشف عن جلد الأرقم عندما يغوص في كرسي أوسع من حجمه الضئيل! وقصة المستنير الدّعي الأفاق، تختلف عن قصص (الفلول) التي تهون دونها كل القصص!
ومع ذلك ظل عرمان وسيظل واقفا شامخاً هكذا، كشجرة قمبيل تعاقب عليها السلاطين والممالك والناس! وهي تشهد انهيار كل الأكاذيب كانهيار (بيارة السوكي).

● حمل عرمان في مشروع "تجديد الرؤية/
الميلاد الثاني" عبء تأسيس التيار الثوري الديمقراطي، كمشروع مدني مفتوح لتلاقي أطراف الجغرافيا المنفصلة في أذهان الناس، قبل أن تنفصل على أرض الواقع. وحمل هموم وحدة قوى الثورة الحيّة ومكونات الشعب.
وفي الوقت نفسه كان يكتب وينسق مع القوى والحركات، وينفق الساعات الطوال في اجتماعات المجلس المركزي والمكتب القيادي للتيار الثوري الديمقراطي وتحالف الحرية والتغيير. ويجوب المدن ويلتقي الوفود من الأقاليم، والمسؤولين من رعاة العملية السياسية. ويزور الثوار المعتقلين ويتواصل مع أسر الشهداء، ويتضامن مع المعلمين ويقيم الورش للطلاب ويشارك في ندوات جماهير الشعب و.. في الوقت نفسه.. في الوقت نفسه!

● هذا رجل أغلبية! سباقاً.. ومبادراً كعادته
دائماً.. وخلاقاً كعادته دائماً.. وشاباً فتياً فيه من سمة الشيوخ خبرتهم وحكمتهم ومحبتهم وبصيرتهم الثاقبة، التي عركتها التجارب والمحن والمرارات التي تمكنوا بقدرتهم على التسامح من تخطيها، في سبيل إرساء عالماً مدنياً جديداً، يلبي طموحات الأجيال القادمة..
عالم ينهض على قيم المواطنة وسيادة القانون.. وهو مشروع جدير بما بذله و يبذله من وقت وجهد ومال، دون كلل أو ملل. حتى ينجز مع حلفائه عملية سياسية جادة لأول مرة تخرج بالسودان من مأزق انهياره وتمزقه الوشيك، وليس ثمة مغامرة وشرف يضاهيه شرف أكثر من ذلك، وللأوطان في أعناق الأحرار ديون مستحقة!

● القادة الذين (الواحد منهم يساوي أغلبية)
قلائل ونادرين الوجود، وعرمان أحدهم دون أدنى شك. ولنكاد نرى بلادنا تفتح الآن نوافذها للشمس. وأرواح شهداء الثورة السودانية المجيدة تنشر أجنحتها، تظلل المواكب الماضية في الهجير و والعتمة و "الكتمة" حتى نهاية هذا الدرب الطويل! حال عرمان حال الغرباء، فطوبى للغرباء! أينما حلوا، يظلون ملحاً للمكان يهبونه رحابتهم .. طوبى لهم..

● في ورقته القيمة حول تجديد الرؤية، فتح
مسارب وعي غني في عوالم تنوعنا المتشابك. في تآلفاته وصراعاته، التي تخرج من إطار المعنى إلى إطار المادة الحيّة الملموسة، في أجساد الناس ووجوههم التي اختلطت فيها الفجيعة بالبؤس، ولكنهم مع ذلك يحلمون، ولن يكفوا عن الحلم بواقع أفضل تستهله ترتيبات تصفية الانقلاب والترتيبات الأمنية وإعادة هيكلة الدولة ومكافحة الفساد وإقامة حياة نيابية مستقرة ودائمة.

● تأمل عرمان وجوه هؤلاء الناس.. في هذه
البلاد التي على اتساعها، لم يجدوا لأنفسهم فيها مأوى، سوى معسكرات النزوح.. وجوههم هي الوجوه نفسها التي لازمته لسنوات طويلة في القرى المختبئة بين ثنايا الجبال أو داخل الأحراش.. الوجوه نفسها التي تخرج من (الكراكير) وعلى أخاديدها تنزلق مع حبات العرق أحلام هذه البلاد المنهكة. والتي آن الأوان أن تتحقق أحلامهم بإرادة الثورة وإصرار الثوار، لتُطوى صفحة ماضي مظلم طارئ على التاريخ الإنساني لهذه البلاد العظيمة التي تعد مهداً للبشرية، وتُفتح صفحة جديدة استهلالها: الحرية، العدالة، الإخاء، التسامح، قيم المحبة، التنمية المستدامة و المواطنة والسلام.

● فالميلاد الثاني لمشروع السودان الجديد، هو
مشروع الثورة السودانية، الذي لطالما تعرض لضربات شبكات المصالح، في عالم قديم يتهالك ويتهاوى الآن تحت معاول الهتاف السلمي بعد أن استنفد خيارات هتاف الرصاص، وهو يتصدي للانتنوف التي تقصف القرى النائية والبلدات البعيدة!

● الثورة أعلنت عن الميلاد الثاني لحظة
تفجرها، ومع الإعلان بدى واضحا خطورة هذا العالم المتهاوي الذي ضرب بجذوره خلال ٦٧ عاماً من عمر الاستقلال.. هذا العالم الاخطبوطي، الناهض في "الشراكات الماكرة" وشبكات المصالح المتقاطعة والمتوازية.. هذا العالم المتعفن ينهار الآن لتبقى ثمرّة (المنقة) ففي تآكلها وتعفنها تنبت شجرة (المنقة) سامقة.. ومن كل التمزقات الكبيرة تولد المشاريع الحقيقية، التي يفيد الناس من تجربة التمزقات التي سبقتها..
نواصل
_____
هوامش:
_____
*الفيتوري، لم يتركوا لك ما تقول. السطر الشعري دون تصرف: الآن في أقصى جبال النجم يطبع وجهه في النجم (انسان) جديد.
**الفيتوري، لم يتركوا لك ما تقول.
*** الفيتوري، لم يتركوا لك ما تقول.

لانسينغ، ميشيغان
١٧ يناير ٢٠٢٣

ahmeddhahia@gmail.com
/////////////////////////

 

آراء