يا أيها الكاتب التزحلق لا يقود للصعود

 


 

 

هناك بعض الكتابات تجعل القارئ يقف عليها كثيرا، لكي يتأكد هل هذا الكاتب مدرك أن السياسة تؤسس على المصالح، أم على قيم أخرى. أن الذين يعتقدون أن السياسة تحكمها الأخلاق و المباديء، مثاليون، و يذهبون مع خيال الفيلسوف البريطاني توماس مور كاتب قصة " اليوتوبيا" عام 1516م، و هو المكان الذي تخيل العالم كجزيرة لها تقاليد و أخلاق سياسية و دينية، كان يريد بقصته الخيالية إدانة العالم الذي يعيش فيه. أما كاتبنا يدين بفلسفة الواقع، و التي تؤسس على مصالح الطبقة العاملة. و مادام فلسفته التي يؤمن بها تشيد قوائمها على المصالح تأكيدا أن السياسية تحركها المصالح، لماذا يدين تصرفات الأخرين الذين يؤمنون أن السياسة مصالح، و أن علاقات الأمم تؤسس على المصالح. هنا يقع التناقض و الخلاف بين الإيمان بشيء ثم إدانته في نفس الوقت، كأنما يريد الكاتب من تزحلقه أن يصعد إلي أعلى، فالذي أدمن التزحلق لا يكون إلا في المكان الذي يقوده إليه التزحلق.
كتب القيادي بالحزب الشيوعي كمال كرار في عموده " شهب و نيازك" تحت عنوان " لماذا يخافون التغيير الجذري" و الذي نشر في جريدة " الميدان" و صحيفة الالكترونية. يقول في هذا المقال (الدول الأجنبية والأمم المتحدة والولايات المتحدة، وغيرهم ممن يتدخلون في شؤون بلادنا، كانوا حتى لحظة خلع البشير في صف الانقاذ المبادة، لم يساندوا ثورة الشعب، ولا أدانوا قتل الثوار. ولكل هؤلاء مصالح وأجندات مشبوهة، يريدونها أن تستمر بعد الثورة.. ولن تستمر إلا بوجود حكومة عميلة متحالفة مع المكون العسكري، وهو يمثل النظام البائد) قبل أن نأتي للثورة هل القيادي السياسي كان متابعا دعم نفس هذه الدول للمعارضة في تسعينيات و حتى قيام " محادثات نيفاشا" دعم هذه القوى لتحلف المعارضة " التجمع الوطني الديمقراطي" كم قدمت هذه الدول من المساعدات، و حتى قصف مصنع " الأدوية في الخرطوم بحري" المملوك لصلاح أدريس. و الدعم المادي بمبلغ عشرة مليون دولار أمريكي لدعم الأحزاب في المعارضة التي كانت في ذالك الوقت منضوية تحت التجمع الوطني الديمقراطي " الحركة الشعبية – الاتحادي الديمقراطي الأصل – الحزب الشيوعي – قوات التحالف – القيادة الشرعية – تحالف الشرق " و أوكل التصرف في المال لعضوين من الحركة الشعبية و أخرى من الحزب الاتحادي. الغائب الوحيد عن هذا الدعم حزب الأمة القومي الذي كان قد خرج من التجمع. الغريب في الأمر أن المبلغ لم يوضع في حساب جاري بل وضع في وديعة بفائدة. دون أن تكون مدونة في الوثائق المالية. هل كانت تلك الدول في ذالك الوقت ليس لديها مصالح و أجندة مشبوهة عندما قدمت ذالك الدعم. و هل كان هناك كشف حساب يقدم للشعب السوداني عن هذا الدعم السخي حتى يخرج الجميع من الأجندة المشبوهة، و هل جاء ذكر ذلك الدعم، و كيف كان التصرف فيه من قبل الأحزاب لكي لا يدفع الشعب فاتورته مستقبلا. ثم كانت هناك أجتماعت في كمبال و نيروبي مع وزيرة الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت في عهد الرئيس بيل كلينتون، التي قررت في اجتماع كمبالا أنهم رصدوا مبالغ طائلة لإسقاط النظام حتى الدعم طال بعض دول الجوار لكي تحسن استقبال جيوش المعارضة. والهدقف منه اسقاط النظام، لكن القوى السياسية فشلت في إسقاط النظام، و غيرت الدول أستراتيجيتها لكي لا تخسر مصالحها، و لكنها قد تجاوبت مع حركة الجاليات السودانية و فتحت كل أبواب لاستقبال قياداتهم . هل الكاتب لم يعلم بذلك الدعم من تلك الدول المشبوهة في نظره....!
الغريب في الأمر أن ذات الدول إلي جانب الأمم المتحدة التي يتحدث عنها الكاتب و غيرها، هي نفسها قد أيدت الثورة، و وقفت معها حتى النصر، و تجاوبت مع حكومة حمدوك، بل قدم الاتحادي الأوروبي الدعم السخي للحكومة أولا ثم للشعب، لكي تنجز الحكومة مهام الفترة الانتقالية، و أزالت السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، و فتحت أمامه كل بيوتات الدعم المالي العالمية. لم نرى أدانة واحدة من الكاتب أن هذا الدعم مشبوه، و أن هذه الدول تسعى فقط المصالحها. بل هذه الدول و الأمم المتحدة أدانت الانقلاب و طالبت الرجوع للوثيقة الدستورية التي تؤمن على الشراكة، و طالبت بتسليم السلطة لمدنيين، و قالت هي مع اتفاق القوى السياسية للوصول لتوافق. و جمدت كل دعمها حتى لا يستخدم لصالح الانقلاب. هل كانت تلك اعمال مشبوهة. و يجب عليه أن يوضح لنا ماهية الأعمال المشبوهة؟ أم للرجل مكيلين يستخدمهما حسب المصلحة الضيقة التي يدافع عنها.
أن الكاتب قد نسي أن ثورة سبتمبر - ديسمبر 2018م عندما أندلعت من الاحياء الشعبية في أطراف السودان في النيل الأزرق و عطبرة و و الجزيرة و دارفور و كردفان دون قيادة سياسية للأحزاب، كانت تنذر بواقع جديد، و وعي جديد، هذا الوعي يجب أن يكون قد طال كل الأجيال الجديدة، إلا الذين يعيشون في كهوف التقليدية، و وقف وعي الأجيال الجديدة محتارا أمام بوابات العقل التقليدي السياسي الذي قال عنه منصور خالد قد أدمن الفشل. و الغريب العقل التقليدي لم يستوعب هذا التغيير. و ظل ممسكا بمفردات قد تجاوزتها الشعوب منذ سقوط حائط برلين و أصبح العالم محكوم بقطب واحد، و الآن هناك سعي حسيس أن تتعدد الاقطاب تعددا للمصالح، و السودان جزء من هذا العالم يجب أن يحدد مصالحه أمتثالا للوعي الجديد، و لا تحدثنا من خلال شعارات تتعارض مع مرجعيتك الفكرية.
يقول الكاتب في مقاله (وهؤلاء يريدون بلادنا دولة متسولة بدون أي سيادة، وشعب فقير جائع ينتظر قروضهم وودائعهم ليأكل كسرة و ملاح) تسول الدولة أو نهوضها لا تقرره الدول الأخرى، بل يقرره الشعب نفسه، إذا كانت لديه الرغبة و العزيمة للصعود في سلم الدول الناهضة، من كان يعتقد أن شعب الصين الذي كان مدمن للمخدرات و يرزح تحت وطأة الاستعمار في عام 1949م أن ينهض بسرعة البرق و تصبح الدولة الاقتصادية الأولى في العالم، أو في مستوى واحد مع أمريكا. أو رواندا في التي أصبحت نموذجا للاقتصاديات الناهضة في أفريقيا، يعلم أن إرادة الشعوب أقوى من إرادة الدول التي يخاف منها كاتبنا، هل الدول المذكورة نمت من خلال الشعارات أم بقيادة واعية نظرت إلي مصالح الوطن قبل المصالح الحزبية و الفردية الضيقة.
الكاتب غرق في بحور الجذرية المحمولة بكل الحمولات الأيديولوجية، و ألتي هربت منها كل دول الاتحاد السوفيتي السابق، و كل دول أوروبا الشرقية، و حتى الصين هربت منها لكي تعانق الاقتصاد الحر الذي جعلها على قمة الدول في العالم، أن الديمقراطية تؤسس على الإصلاح في المجتمع و التوافق الوطني . هناك مطلوبات تحتاجها عملية التحول الديمقراطي " تفكيك دولة الحزب لمصلحة التعددية السياسية – الشروع في فصل السلطات التنفيذية – القضائية – التشريعية – و مساحة حرية غير مقيداللإعلام و الصحافة لكي تلعب دور السلطة الرابعة منعا من الانحرافات التي تطال الأحزاب السياسية بسبب المصالح الذاتية. و الشروع الفوري في تكوين المفوضيات و المؤسسات العدلية و تغير مناهج التعليم، هذه قضايا لا خلاف عليها. لخلق البيئة التي تؤسس عليها الدولة المدنية الديمقراطية. لكن هذه لا تؤسس بأراء حزب واحد أو مجموعة محدودة من الأحزاب تؤسس بالتوافق الوطني الذي يجمع كل القوى المؤمنة بالتحول الديمقراطي.
أن التغيير الجذري الذي يفضي إلي تأسيس الدولة المدنية الديمقراطية، يجب أن يبدأ أولا من داخل الأحزاب السياسية التي تعتبر الأعمدة الأساسية للديمقراطية، و تتم فيها مراجعات حقيقية للقوى السياسية الأيديولوجية يمينا و يسارا التي لا تتلاءم مرجعياتها مع الديمقراطية، أن عملية الهروب التي تقوم بها العديد من القيادات التاريخية التي نضب خيالها و فقدت القدرة على الإبداع لن تطول في ظل الوعي الجديد، و الذي ترسخ جذوره في الأرض تضحيات الأجيال الجديدة. يجب أن يدعم الكاتب شعار أن كل الذين تجاوزت اعمارهم الخمسين عاما و يحتلون مواقع قيادية في الأحزاب، أن يستغيلوا من مواقعهم لكي يفتحوا الطريق لأجيال غير محملة بحمولات الإرث الثقافي السياسي القديم. أجيال الجديدة يبدأ معها تاريخ السودان الجديد الناهض. هل يستطيع كاتبنا أن يرفع شعار التغيير من أجل صعود أجيال جديدة لقمة الهرم الحزبي و يدعوا لاستقالة كل الذين تعدوا عقد الخمسين. أقول لا يستطيع لماذا.... مصالح....! نسأل الله حسن البصيرة.

zainsalih@hotmail.com

 

آراء