يا الخرطوم العندي جمالك جنة رضوان

 


 

 

كانت جنة رضوان، واليوم تبدو مثل قلعة أشباح بعد أن استباحها التتار، لن تقوى على تمييز بقايا المدينة التي تسلط عليها الغزاة من كل صوب وناحية. الخرطوم التي كانت قبل شهور قليلة تقف بشموخ أمام عواصم العالم رغم الضعف الذي اعترى جسدها، وأوهن مفاصلها، لكنها كانت تفخر بماضٍ باذخ، وأمجاد تليدة عاشتها طولا وعرضا. هكذا كانت تبدو لنا، وهكذا حفظتها ذاكرتنا، فخلف كل ذاكرة، عين ترصد الماضي بتمعن .. تتأمل الذكرى!
⭕⭕⭕
كانت الخرطوم مدينةٌ كالزهرةِ المونقَة كما قال التجاني يوسف بشير متغزلاً في حسنها المستحق:
ضفافُها السحريّة المورقة
يخفق قلبُ النيلِ في صدرها
تحسبها أغنيةً مطرقة نَغّمها الحسنُ على نهرها.
⭕⭕⭕
كانت الخرطوم تجسد معاني الخير في أحيائها، وعمرانها، وأزقتها، وأسواقها، وأهلها، والعابرين إليها.
⭕⭕⭕
كانت شمس الخرطوم تشرق كل صباح ناشرة البهجة، وباعثة للدفء والأمل والسلام.
⭕⭕⭕
كانت الخرطوم بهية الطلعة، غامرة الحضور، باهرة الشعاع ....هنا الخرطوم، هنا العالم المستغرق في ذاته، هنا الليل يخرج منتشياً ، تخرج الأشياء، تجلس الأشياء، تعانق أحلامها، ينتهي الليل، يجي النهار، وكأن هداية النهار تمحو ضلال الليل.
⭕⭕⭕
كانت الخرطوم صانعة للأحداث، منتجاً لها، محفزة لغيرها.
⭕⭕⭕
كانت الخرطوم تضج بالحياة: الأماكن، الساحات، الأسواق، بعض الأماكن تبدو خالية من المعاني، وهناك أماكن تحمل سفراً من الأحداث، بعضها يكشف عن بعض، تاريخ وشخوص، وحياة!
⭕⭕⭕
كانت الخرطوم تنتشي فرحاً، وتستبد نشوة حين اللقاء، لكنها تقسو وتفجر في قسوتها حين الوداع كما فعلت مع الدكتور عبد الله الطيب وهو يقول مودعاً الخرطوم:
تقول وأرسلت دمعاً همولا
أحقاً أنت أزمعت الرحيلا
أما تنفك حلاً وارتحالاً
فديتك لو أبهت لنا قليلاً
وحيا الله بالخرطوم روضاً
بحيث تعانق النيلان نيلا
يميناً إن بين شعاب قلبي
لعبئاً من فراقكم ثقيلاً
⭕⭕⭕
كانت الخرطوم جميلة، فاتنة، تجيد فنون الغواية، وكأنها مدينة نفخ في جسدها روح الحياة، فتشكل حسنها، وبانت مفاتنها، وراودت عاشقها عن نفسه فقد شغفها حباً.. فهي مدينة كحسانها: "في عيونا المفاتن شي ما ليه حد"!
⭕⭕⭕
كانت الخرطوم مانحة للعطاء، باذخة الكرم ...
كانت الخرطوم تستقبل الناس من كل فج، فإذا جاء الركب مثقلاً بتعب الأسفار، وجد حصناً يلوذ بأحضانه من وعثاء السفر، ولا غرو إن ضاقت مساحاتها، وتقلصت قواها، ولم تعد تقوى على المزيد، فتمددت أحياؤها في كل اتجاه، فألقى ذلك بظلاله على المدينة التي ترهلت، وأنبتت لها أطرافاً غابت عنها ملامح الخرطوم بسمتها المعروف.
⭕⭕⭕
هكذا تبدت لنا الخرطوم، وهكذا حفظنا صورتها، فجثمت على جدار ذاكرتنا، نعيشها أحيانا، أو ربما نستدعي بعضها تأسيا وهروبا من راهن متخم بالانكسارات.
⛔⛔⛔
مخرج اول
ذلك كان حاضر الخرطوم، وماضيها القريب، أما تاريخها البعيد فقد كان مجيداً وحافلاً، فالخرطوم كانت مدينة فنية، وثقافية، وأدبية، ورياضية، واجتماعية، وسجلت محاضرها تراثاً غنياً وثـّـق لحقب مختلفة في تاريخ المدينة الطويل، واشراقات ظاهرة للعيان.
⛔⛔⛔
ولأن الغزاة حسداً من عند أنفسهم، وإمعاناً في تنفيذ مخططهم الخبيث الذي يقضي بفصل هذا الشعب عن ماضيه .. وتاريخه .. وتراثه، قاموا فيما قاموا به من تخريب وفساد بتدمير البنية الثقافية للمدينة، ومن ذلك مثالاً وليس حصراً متحف السودان القومي الذي تأسس في العام 1904م ويحتوي على مقتنيات أثرية لا تقدر بثمن، إذ تعود لعصور ما قبل التاريخ وما بعده من الممالك الإسلامية حتى العصر الحديث. هذا المتحف الفريد يضم تاريخ الحقب المختلفة التي مرت على السودان، فهو يحتوي على كنوز من المومياوات ومنحوتات، وأدوات أثرية قديمة من الخشب، والبرونز، والحديد، وزخارف، وصور، وجداريات. كما يحتفظ بالعديد من المعابد، والمدافن، والنصب التذكارية، والتماثيل، وآثار مهمة لحضارة كوش أحد أهم وأقدم الحضارات في العالم والتي تجاوز عمرها آلاف السنين.
⛔⛔⛔
وعلى بعد أمتار قليلة من متحف السودان القومي قام الأوباش بالاعتداء على متحف السودان للتاريخ الطبيعي الذي تأسس عام 1958م وهو يحتوي على عينات من الحيوانات المحنطة النادرة تعود للقرن التاسع عشر الميلادي، بالاضافة إلى إرشيف ضخم ومراجع ودوريات علمية نادرة.
⛔⛔⛔
وطال التخريب كذلك مواقع أخرى لا تقل أهمية مثل متحف القصر ومتحف الإثنوغرافيا والمتحف الحربي.
⛔⛔⛔
ودمر الأوباش دار الوثائق القومية التي تحتفظ بكل السجلات والوثائق والدوريات وإرشيف تاريخ السودان الحديث والقديم، فهذه الدار تضم أكثر من 30 مليون وثيقة سجلت تاريخ السودان المعاصر والقديم في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
⛔⛔⛔
وتعرضت مكتبات الجامعات للتخريب والنهب منها على سبيل المثال مركز محمد بشير سعيد في جامعة أم درمان الإسلامية.
⛔⛔⛔
وتعرض التتار إلى مواقع ثقافية وأثرية مثل السرايا التاريخية للشريف حسين الهندي في منطقة بري، ومتحف بيت الخليفة بأم درمان، ومبنى جراب الفولة الأثري في مدينة الأبيض.
⛔⛔⛔
هذا غيض من فيض التدمير المقصود، فكل هذه الآثار وهذا التاريخ الضارب في الجذور تم تدميره والقضاء عليه تماماً من قبل العصابات، لأن المخطط هو إلغاء الهوية وطمس كل معالم الماضي ليتم على انقاضه بناء هوية جديدة، وتاريخ جديد عنوانه هؤلاء الأوباش. فهل تراهم يفلحون؟ لا .. لن يفلحون، فلا يغررك تقلبهم في البلاد فمتاعهم قليل، وقريبا سيستوفون أجورهم، سقوطاً وهلكة .
⛔⛔⛔
أخيراً: دخل التتار لبغداد بجيش عرمرم قوامه أكثر من 120 ألف جندي، تميز ذلك الجيش بالقسوة والبربرية والبعد عن كل نوازع القيم والأخلاق، فمارسوا العنف في أبشع صوره، فأهلكوا وحرقوا الشجر والحجر، وكان أول ما أحرقوه الكتب التي تميزت بها بغداد في ذلك العهد، ورموا بقية الكتب في نهر دجلة، وأنهى المغول بذلك أهم فترات الحضارة الاسلامية ازدهاراً علمياً وثقافياً حينما كانت بغداد بوصفها عاصمة الخلافة الإسلامية منارة العلم والحضارة والتقدم حيث شع نورها لبقية الممالك الإسلامية المختلفة. حدث ذلك والخلافة في أشد حالات الضعف والخذلان، فهل تشبه الليلة بالبارحة؟.
⚜️⚜️⚜️

abo_elhassen@yahoo.com

 

آراء