قطار العمر .. محطات في أدب المؤانسة والمجالسة
محمد موسى حريكة
21 July, 2021
21 July, 2021
في مارس من عام 2009 أهداني الراحل محمد خير البدوي سفره القيم (قطار العمر) وهو بالفعل مؤانسة في غاية اللطف واليسر حيث يطوف بك الكاتب في منحنيات حياته المتعددة،وهو المولود في في دار الرباطاب عام 1926،ثم تلقي تعليمه في مدارس الأحفاد قبل ان يلتحق بكلية غردون
التذكارية .
وقد بدأ حياته كاتبا حربيا في قوة دفاع السودان ثم سكة حديد السودان ،وانتقل الي جنوب السودان وعمل محاسبا في مشروع الزاندي .
ثم انهمك في الشأن السياسي وكان عضوا في جماعة (الأبروفيين )، واحترف العمل الصحفي كرئيس تحرير لجريدة (الوطن) .وفي عام 1962التحق بالبي بي سي العربية واستقال متقاعدا في عام 1985.
ففي احدي محطات الأنس الشجي يحدثنا محمد خير البدوي طيب الله ثراه ، عن اول حالة اختلاس للمال العام في تاريخ الإدارة البريطانية وقد ارتكبها مهندس اشغال بريطاني في مدينة الدويم وحكم عليه بعقوبة السجن وتم نقله الي سجن (كوبر ).وقد التقط ذلك الخبر منصور خالد وألقي به الي محمد خير البدوي رئيس تحرير الوطن والذي كان يمني النفس بسبق صحفي يعتبر (صاعقة) في العمل الصحفي .
ويمضي قائلا ( لكنا فوجئنا في اليوم التالي بالخبر يحتل مكان الصدارة في صوت السودان ولا أثر له في الوطن !! وبدلا من السبق الصحفي خرجت باعتذار من العم الدرديري محمد عثمان ووعد الا تكرر تلك الاعتداءات علي موادنا !! )
ظلت الحرب الصحفية قائمة بين صحيفتي الوطن وصوت السودان مشتعلة بين محرريها في قسم الأخبار ،ويروي صاحب المؤانسة (ورأينا ان ان السبيل الوحيد لردع صوت السودان عن لطش اخبارنا هو نصب فخ او بالآحري مقلب يكون درسا قاسيا لها لوقفها عند حدها .
ويمضي قائلا (صغنا بعد مشاورات مع رحمي سليمان خبرا ملفقا مفاده ،ان الصاغ صلاح سالم ابلغنا ان لندن أبلغت القاهرة باعفاء الحاكم العام من منصبه وتعيين راندولف تشرشل خلفا له .
وكلفنا قمر الدين المبارك برصد ما يحدث أولا بأول وهو واحد من العاملين في المطبعة الي جانب شهرته كشاعر غنائي،جاءنا قمر الدين بعد نحو ساعة ليخبرنا ان الخبر امام الاستاذ محمد احمد السلمابي رئيس تحرير الصوت .اذن لقد لقد التقط صاحبنا الطعم ،ولن يمر وقت طويل قبل ان تنغرس السنارة بين فكيه !! انتظرنا حتي بلغت صوت السودان مرحلة الطباعة،وأوشكت ماكينة المطبعة علي الدوران وقد احتل خبر اقالة الحاكم العام مكان الصدارة ، بعد إضافات جادت بها قريحة السلمابي عن الحاكم العام الجديد وأبيه ونستون شرشل ومقتطفات من كتاب حرب النهر .والسلمابي
صحفي موهوب خصب الخيال وعلي قدر عظيم من الذكاء .
ذهبنا اليه _انا ورحمي _في مكتبه فاستقبلنا في مكتبه بابتسامته المعهودة المفعمة بالطيبة،ثم فجاءنا قائلا ان البكباشي عبد الفتاح حسن قائد القوات المصرية في الخرطوم ابلغه ان الحاكم العام اعفي من منصبه ولا مانع ان ننشر هذا الخبر في صحيفتنا الوطن التي تصدر عادة بعد صوت السودان ببضعة ساعات .وسرعان ما اسقط في يده عندما فاتحته قائلا :يا أستاذ اطلع من دورك هذا خبر مفتعل حبكته مع رحمي لتلطشه كالعادة.وهرول السلمابي علي الفور الي المطبعة ليوقف عملية الطبع ، وعاد ليصب جام غضبه علينا سبا وشتما ولم يبق علي ورقة في شجرتي انسابنا الا وحشرها في غليونه ).
وهكذا يضعنا الكاتب بحكاويه البسيطة دون تعقر في فجر صراع الصحافة السودانية وتلك الصراعات التي لا تخلو من براءة وروح الزمالة والصراع الذي يتجلي فقط في المهنية وسلمها المتعرج وليس ذلك النزوع نحو فتات المادةوتمجيد الشخوص الذي يحول الصحافة الي ممسحة والتاريخ الي حذاء كما صور نزار قباني ذلك في احدي قصائده .وكأني الان امام محمد خير البدوي وهو يجزل الحديث عن حواشي تلك الفترة من تاريخنا الصحفي والاجتماعي والسياسي ،فهو يتناول تلك الومضات بعقلية الصحفي الراصد وليس المؤرخ الأكاديمي بجديته وصرامته .
يحتوي المؤلف علي أربعة عشر محطة تدور عجلات قطارها بين النشأة الخاصة للمؤلف ونشأةالخطوط الحديدية والصحافة والحركة الوطنية ،والحركة الوطنية والاستقلال ،وكواليس الأحزاب الطائفية والدعوة للاستقلال ،ثم الصراعات الطائفية والوطنية بعد الاستقلال .
ولا تخلو تلك المحطات من تطور الشأن الخاص للمؤلف في لغة سرد بسيطة ،ساخرة أحيانا من كل شئ ولا يستثني شخصه في تلك البدايات للحياة الاجتماعية التي تكتنف حياة النخب السودانية .
لا يسعني الا ان اترحم علي روح محمد خير البدوي الذي جمعتني به احدي جلسات الأنس المباشر في احد آحياء مدينة ام درمان وفي مناسبة عيد من أعياد الاضحي،حيث كان ذلك آخر عهد لي به ،ولم يزل طيف حكاويه يزورني كل عيد أضحية ،ثم ألوذ احيانا لتلك الصفحات في إطلالة علي تاريخنا الاجتماعي المتداخل الذي خطه ذلك القلم.
نسال الله الرحمة والمغفرة لمحمد خير البدوي وكل عيد وأنتم بخير .
musahak@icloud.com
///////////////////////
التذكارية .
وقد بدأ حياته كاتبا حربيا في قوة دفاع السودان ثم سكة حديد السودان ،وانتقل الي جنوب السودان وعمل محاسبا في مشروع الزاندي .
ثم انهمك في الشأن السياسي وكان عضوا في جماعة (الأبروفيين )، واحترف العمل الصحفي كرئيس تحرير لجريدة (الوطن) .وفي عام 1962التحق بالبي بي سي العربية واستقال متقاعدا في عام 1985.
ففي احدي محطات الأنس الشجي يحدثنا محمد خير البدوي طيب الله ثراه ، عن اول حالة اختلاس للمال العام في تاريخ الإدارة البريطانية وقد ارتكبها مهندس اشغال بريطاني في مدينة الدويم وحكم عليه بعقوبة السجن وتم نقله الي سجن (كوبر ).وقد التقط ذلك الخبر منصور خالد وألقي به الي محمد خير البدوي رئيس تحرير الوطن والذي كان يمني النفس بسبق صحفي يعتبر (صاعقة) في العمل الصحفي .
ويمضي قائلا ( لكنا فوجئنا في اليوم التالي بالخبر يحتل مكان الصدارة في صوت السودان ولا أثر له في الوطن !! وبدلا من السبق الصحفي خرجت باعتذار من العم الدرديري محمد عثمان ووعد الا تكرر تلك الاعتداءات علي موادنا !! )
ظلت الحرب الصحفية قائمة بين صحيفتي الوطن وصوت السودان مشتعلة بين محرريها في قسم الأخبار ،ويروي صاحب المؤانسة (ورأينا ان ان السبيل الوحيد لردع صوت السودان عن لطش اخبارنا هو نصب فخ او بالآحري مقلب يكون درسا قاسيا لها لوقفها عند حدها .
ويمضي قائلا (صغنا بعد مشاورات مع رحمي سليمان خبرا ملفقا مفاده ،ان الصاغ صلاح سالم ابلغنا ان لندن أبلغت القاهرة باعفاء الحاكم العام من منصبه وتعيين راندولف تشرشل خلفا له .
وكلفنا قمر الدين المبارك برصد ما يحدث أولا بأول وهو واحد من العاملين في المطبعة الي جانب شهرته كشاعر غنائي،جاءنا قمر الدين بعد نحو ساعة ليخبرنا ان الخبر امام الاستاذ محمد احمد السلمابي رئيس تحرير الصوت .اذن لقد لقد التقط صاحبنا الطعم ،ولن يمر وقت طويل قبل ان تنغرس السنارة بين فكيه !! انتظرنا حتي بلغت صوت السودان مرحلة الطباعة،وأوشكت ماكينة المطبعة علي الدوران وقد احتل خبر اقالة الحاكم العام مكان الصدارة ، بعد إضافات جادت بها قريحة السلمابي عن الحاكم العام الجديد وأبيه ونستون شرشل ومقتطفات من كتاب حرب النهر .والسلمابي
صحفي موهوب خصب الخيال وعلي قدر عظيم من الذكاء .
ذهبنا اليه _انا ورحمي _في مكتبه فاستقبلنا في مكتبه بابتسامته المعهودة المفعمة بالطيبة،ثم فجاءنا قائلا ان البكباشي عبد الفتاح حسن قائد القوات المصرية في الخرطوم ابلغه ان الحاكم العام اعفي من منصبه ولا مانع ان ننشر هذا الخبر في صحيفتنا الوطن التي تصدر عادة بعد صوت السودان ببضعة ساعات .وسرعان ما اسقط في يده عندما فاتحته قائلا :يا أستاذ اطلع من دورك هذا خبر مفتعل حبكته مع رحمي لتلطشه كالعادة.وهرول السلمابي علي الفور الي المطبعة ليوقف عملية الطبع ، وعاد ليصب جام غضبه علينا سبا وشتما ولم يبق علي ورقة في شجرتي انسابنا الا وحشرها في غليونه ).
وهكذا يضعنا الكاتب بحكاويه البسيطة دون تعقر في فجر صراع الصحافة السودانية وتلك الصراعات التي لا تخلو من براءة وروح الزمالة والصراع الذي يتجلي فقط في المهنية وسلمها المتعرج وليس ذلك النزوع نحو فتات المادةوتمجيد الشخوص الذي يحول الصحافة الي ممسحة والتاريخ الي حذاء كما صور نزار قباني ذلك في احدي قصائده .وكأني الان امام محمد خير البدوي وهو يجزل الحديث عن حواشي تلك الفترة من تاريخنا الصحفي والاجتماعي والسياسي ،فهو يتناول تلك الومضات بعقلية الصحفي الراصد وليس المؤرخ الأكاديمي بجديته وصرامته .
يحتوي المؤلف علي أربعة عشر محطة تدور عجلات قطارها بين النشأة الخاصة للمؤلف ونشأةالخطوط الحديدية والصحافة والحركة الوطنية ،والحركة الوطنية والاستقلال ،وكواليس الأحزاب الطائفية والدعوة للاستقلال ،ثم الصراعات الطائفية والوطنية بعد الاستقلال .
ولا تخلو تلك المحطات من تطور الشأن الخاص للمؤلف في لغة سرد بسيطة ،ساخرة أحيانا من كل شئ ولا يستثني شخصه في تلك البدايات للحياة الاجتماعية التي تكتنف حياة النخب السودانية .
لا يسعني الا ان اترحم علي روح محمد خير البدوي الذي جمعتني به احدي جلسات الأنس المباشر في احد آحياء مدينة ام درمان وفي مناسبة عيد من أعياد الاضحي،حيث كان ذلك آخر عهد لي به ،ولم يزل طيف حكاويه يزورني كل عيد أضحية ،ثم ألوذ احيانا لتلك الصفحات في إطلالة علي تاريخنا الاجتماعي المتداخل الذي خطه ذلك القلم.
نسال الله الرحمة والمغفرة لمحمد خير البدوي وكل عيد وأنتم بخير .
musahak@icloud.com
///////////////////////