19 يوليو 1971: إغلاق الشيوعيين باب الاجتهاد في نظرية الانقلاب
قلت في كلمات مضت إنه يساور انشراحنا لتغيير ما بنا بثورة ديسمبر هاجس إننا ربما لم نوفق فيه نظراً لبؤس مردودنا من وعد ثورتي 1964 و1985. وسميت هذه المساورة ب"التغييرفوبيا". وهي الوساوس أو المخاوف (الفوبيا) لتي تعكر صفو كثير منا في طلبهم التغيير هذه المرة أيضاً. وأكثر مظاهر هذه الفوبيا تنغيصاً علينا هو ما تواضعنا على تسميته ب"الحلقة الخبيثة أو الشريرة". وهي الدورة التي ظل يتعاقب فيها نظام ديمقراطي ونظام ديكتاتوري خلال سنوات استقلالنا الوطني الثلاث وستين.
باتت هذه الحلقة الخبيثة مثل دورات الطبيعة في حياتنا السياسية (أو في اعتقادنا عنها) من فرط تكرارها فينا. وهي ليست كذلك بالطبع. ولم نجعلها كذلك إلا أننا لم نحسن تشخيص هذا التعاقب ناظرين إلى صراع قوى مجتمعنا حول مصالحها. وحال دوننا ومثل هذا التشخيص إنه لم ينشأ بيننا علم للسياسة مستقل عن الناشطية السياسة يكفل لنا الترقي من الإثارة إلى الفكر. فظل الانقلاب فينا، نظرياً، من جرائر صفوة أنانية فاشلة تستدرج العسكريين لارتكابه. وهذه نظرية تقع في باب الأخلاق بجعلها الانقلاب حطة نفس. ولا تقع في باب السياسة التي يتدافع الناس فيها حول مصالح استراتيجية (مشروع للسلطة) بتكتيكات مختلفة سلمية وعنيفة.
واستثنيت الحزب الشيوعي من اهمالنا بلوغ نظرية ترد الانقلاب، الذي اكتوينا طويلاً بنظمه فينا، إلى أساسه المادي في تدافع الناس حول مصالحهم. فقد خرج هذا الحزب لنا بمثل هذه النظرية خلال صراعه مع انقلاب مايو من منصته البروليتارية. ومفاد النظرية أن الانقلاب هو تكتيك البرجوازية الصغيرة في طلبها للتمكن من الحكم. ولن أتوقف عند مفهوم هذه الطبقة ولا مشروعها مكتفياً بما أدليت به في الحلقة الماضية من هذا المقال.
والمؤسف أن الحزب الشيوعي لم يعد لهذه النظرية منذ ارتكابه لانقلاب 19 يوليو 1971 .فاستغربت في كتابي "انقلاب 19 يوليو 1971: من يومية التحري إلى رحاب التاريخ" (دار عزة 2012) للحزب لم يخضع ذلك الانقلاب بما التزم به نظرياً في تحليل التكتيك لانقلابي من أنه عمل غير جماهيري من صنع البرجوازية الصغيرة صح عليه ما يصح على كل انقلاب. ولكنهم جنبوه التحليل الطبقي ووالوه بالرقى. فهو حركة تارة وهو بسالة تارة أخرى وهو "تهمة لا ننكرها وشرف لا ندعيه". أما انه واقعة برجوازية صغيرة فلا. ولأن الحزب استثنى انقلاب 19 يوليو من حكمه عن الانقلاب صارت الانقلابات عنده تعرف باللون السياسي لمن قام بها لا بموقعها الطبقي. فانقلاب البشير في 1989 هو انقلاب الكيزان. ووقعوا بالنتيجة في ضلال فكري اقتفوا فيه الماركة الإيدلوجية للواقعة السياسية لا منشأها الطبقي. وكان لينين حذر في "المصادر الثلاثة للماركسية" من ذلك بقوله:
وقع الناس، وسيقعون دائماً، ضحايا أغبياء للخداع وخداع الذات في السياسة طالما لم يتعلموا اكتشاف مصالح طبقة اجتماعية أو أخرى من الطبقات المستكنة وراء أي عبارة سياسية، وخلقية، ودينية، واجتماعية، أو إعلان أو وعود.
ولما انتزع الشيوعيون الانقلاب من وتده في صراع القوى الاجتماعية ضاع منه الأثر في الماء بالوجوه التالية:
1-الاعتقاد بأنه بوسع الناس منع الانقلاب متى تعاقدوا ذلك بعزيمة. وتذكرون تلك الهيئة التي ضمت طوائف من المعارضين بعد ثورة إبريل، وفيهم الشيوعيون، تواثقوا أن يقتلوا الانقلاب في مهده بهبوبهم في وجه متى أطل برأسه. وقام انقلاب 1989 ولم نر هبة من تلك الهيئة لوأده قبل ميلاده.
2-التلاوم بتذنيب طرف من الحزب بالتقاعس دون القيام بواجبه في كشف الانقلاب على ضوء ما توافر له معلومات كانت ألبت الحكومة عليه. واشتهر في هذا الباب المرحوم الخاتم عدلان بكتابات حمّلت رفيقه المرحوم نقد قيام انقلاب 1989. فقال إنه علم عن التحضير له علماً لو أحسن التصرف على ضوئه لانفضح أمر المنقلبين، وقبضوا وسراويلهم ناصلة كما يقول الخواجات. وقريب من هذا نقد ذائع في الأسافير للسيد الصادق المهدي من السيد إدريس البنا والمرحوم كمال الدين عباس لقعوده دون التصدي لانقلاب 1989 الذي امتلك معلومات عن تدابيره.
3-الاعتقاد أن الترياق للانقلاب هو تواثقنا على دستور سديد يكفل العدالة والتنمية المتوازنة. ووجدت السيد مختار الخطيب يزكي هذه الخطة في لقاء له منذ أيام.
وفارق الشيوعيون في كل سيناريوهات الفكر أعلاه مفهومهم الباكر للانقلاب كتكيتك لطبقة حضرية مصابة بحسد انتخابي. فهي لن تبلغ البرلمان، الذي استعادته بثورات معروفة، لأن الديمقراطية القائمة على مبدأ الصوت الواحد للمواطن المستحق الواحد تأتي بالقوى التقليدية بدلاً عنها. فتعتزل هذه الطبقة البرلمانية، وتتواصى جماعاتها المدينة والعسكرية على الانقلاب الذي هو سبيلها لسدة الحكم لا غيره. ورأينا هذه الطبقة تتعاور الحكم يكون عليه يسارها السياسي تارة ويمينها تارة أخرى. وعليه فالانقلاب، كحقيقة من حقائق الشوكة، غلاب كالقدر. وقل أن تكون للديمقراطية مناعة منه. والترياق الحق منه قيام برلمانية توافقية نكسر فيها اضطراراً مبدأ الصوت الواحد للمواطن الواحد لنمثل قوى المدينة النقابية والمهنية تمثيلاً يزيد أفرادها صوتاً عن غيرهم كما فعلنا في دوائر الخريجين. فتطمئن للبرلمان الذي ترى فيه صورتها ومصالحها. وهذه دعوة صدعت بها جبهة الهيئات في 1964 والتجمع النقابي في 1985 ولم تلق القبول مما فتح الباب للحلقة الخبيثة.
في مقال أخير أجيب على السؤال: هل الانقلاب مما يوسوس به المدنيون للعسكريين أم أن للعسكريين ولعهم الخاص به أيضاً؟
IbrahimA@missouri.edu