19 يوليو سفر البشاشة والحزن !! “زكريات موغلة فى البعد”  الجزء الثانى 

 


 

عدنان زاهر
16 August, 2021

 

29 يوليو 2021


3

وجمت. تباينت و تشكلت مشاعرى بين الغضب....الحزن....خيبة الأمل و الأحباط.....مضيفى كان محقا.....لم يكن امامى من خيار غير العودة مرة أخرى الى موسكو، و لكن هذه المرة باحلام مجنحة و مجهضة.... فى ذات تلك الوجهة فقد أتصل الرفاق من موسكو ناصحين بعودتى.

علم مضيفى بحالتى المادية المتعسرة و يبدو أنه كان يمر بظروف مشابهة لظروفى لكنه ألتزم بشراء تذكرة العودة لى ....ثم ذكر لى أن السفارة تقوم بمساعدة الطلبة المتعسرين و " المقطوعين " كحالتى و طلب منى أن يذهب معى صباح اليوم التالى للسفارة لعرض حالتى،رفضت فى البداية لكن أقنعنى بأنه حق مكفول أسسته الدولة للطلبه المتعسرين لتذليل احتياجتهم، و ليس منة من أحد كما ليس هنالك سبة من المطالبه به .......أقنعنى منطقه فوافقت. اتجهنا الى منزله و قد أكرم وفادتى ذلك اليوم هو و زوجته الودودة المضيافة " ز ".

قضينا الليل و نحن نتابع أخبار السودان من خلال المحطات العالمية المختلفة. كانت الأخبار المزعجة و القاتمة تتوالى الى مسامعنا.....اجبار الطائرة المتجهة من روما للخرطوم و التى يستقلها المقدم بابكر النور ( رئيس الدولة المرتقب ) قادما من لندن للهبوط فى مطار بنغازى، و أعتقاله من قبل القذافى فى أبشع عملية للقرصنة يشهدها العالم بعد الحرب الثانية .الأعتقالات العشوائية التى طالت معظم القوى الديمقراطية فى السودان ....الأرهاب المنفلت و التأييد غير المشروط من الدول الأقليمية التى تخشى أن تمتد شرارة الثورة و التغيير الى أنظمتها كمصر و ليبيا، و هى تساند عودة نميرى و ترحب بعودته. كنا و مضيفى نتبادل كلمات قليلة متقطعة و نحن نعلق على ما يجرى فى السودان و نفوسنا ممتلئة بالقلق و التوجس......لم يكن هنالك ما يمكن التكهن به فى تلك الظروف ،و فى ظل غياب المعلومات من الداخل.

فى صباح اليوم التالى ذهبنا و مضيفى للسفارة لمقابلة المسؤول عن شئون الطلبة لعرض حالتى عليه، و كان لحسن حظى أو سوءه زميلا لشقيقتى فى جامعة الخرطوم،بعد شرح ملابسات حضورى المطول الى روما، رفض طلبى بفظاظة معللا ذلك ( بأننى من أسرة مقتدرة يمكنها دفع منصرفات سفرى )!!

أندهشت لموقفه، و اعتبرت قراره خاطئا، فقد كان يستوجب عليه النظر فى حالتى " المتمثلة أمامه " بمعزل عن ظروف أسرتى، فقد كنت حقيقة " مقطوع " ...لا أملك النقود  و لا المكان للبقاء فى روما يوما واحدا.........تفكرت بعد ذلك كثيرا فى موقف ذلك المسؤول و تساءلت هل موقفه ذلك كان أدرايا متوافقا مع اجراءات بند صرف الطلبه أم كان القرار سياسيا مرتبطا بظروف السودان الدامية و الضبابية فى تلك اللحظات ؟!......على العموم فقد كان ذلك المسؤول متعسفا فى استخدام حقه.

أسقطت موضوع السفارة فورا من ذهنى، فقد كان علىّ السفر عائدا فى نفس ذلك اليوم الى موسكو حتى لا أفقد القطار، و لتفادى محنة البقاء فى روم عدة أيام أخر. قام مضيفى بشراء التذكرة ومدى بسندوتشات للأكل فى الرحلة الطويلة.عند توديعه لى فى المحطة أخبرته اننى سأقوم بارسال مبلغ التذكرة اليه، اندهش... ورافض بشدة، وانفعال و غضب....الحق أقول لا زلت خجولا و نادما على تصرفى ذلك و عندما " تنبل " أحيانا تلك الذكرى بذهنى، أبرر و أرجع ذلك التصرف غير ( المقبول ) لصغر السن و هشاشة التجربة !!


4

تبدلت مشاعرى و أنا أمتطى قطار العودة، وودت أن تستمر الرحلة بلا نهاية،كنت أريد ترتيب أفكاري و تنظيمها و ازالة الأرتباك الذى يسيطر على ذهنى. لم يعد القطار هو ذلك القطار الجزل الراقص عند رحلة الذهاب الى روما، بل أصبح بهديره المتجهم يشابه تلك القطارات النازية الضخمة و هى تنوء بحمولتها من البشر المحشورين حشرا فى طريقهم لمعسكرات " الهولوكست " أو الموت.

عبست سهول " اوكراينا " الخضراء و تبدل لونها الى رمادى محايد.....بحر "اوزوف " تحول الى ثعبان رابض بين الجبال......حتى الجبال نفسها تحولت الى سد منيع يقف حائلا أمام الآمال المجنحة.

 فجأة تفجر فى دواخلى غضب كامن فى شكل أسئلة مزعجة و ملحاحة ....كيف يمكن أن نقوم بانقلاب و نحن ضد الأنقلابات فى الأساس ؟! ...من المسئول......

قلت لنفسى بعد فترة وجيزة من التفكير و الهدوء، يجب أن أكون موضوعيا و متفهما فليس هذا وقت الأسئلة الصعبة عصية الأجابة..... خطر بذهنى القول السائر ( كل شى بوقتو ) فليس الوقت وقت للمحاسبة......الواجب المقدم كان هو كيفية المحافظة على وجود الحزب مع الهجوم الدموى الذى يستهدف تصفيته. بعد ذلك التداعى الايجابى صفيت نفسى قليلا و سادها التفاءل الحذر. تذكرت " كميونة باريس " و فشلها و تأييد الناس لها حتى بعد ذلك الفشل ! كنت ابحث عن سلوى فى ثنايا التاريخ و التشبث بها ...استدعاء التاريخ و تحليله يعطيك فى بعض الأحيان قليل من الأطمئنان و الأمان الزائف !

كان القطار قد أصبح فى منتصف المسافة الى موسكو و طعامى بدأ بالنفاذ...حاولت التقليل من الوجبات و لم يكن ذلك مجديا فبدأت فى أكل المكسرات التى كنت قد جلبتها لوالدتى لاعطائها لها عند وصولى للخرطوم....... هنا حدثت أجمل طرفة لا بد من ذكرها فى السياق.

بعد روكوبى القطار و وداع مضيفى أتى بائع للمشروبات الغازية لبيع بضاعته الى ركاب القطار،باخر ما املك من نقود قمت بشراء زجاجة مثلجة من مشروب يسمى ( سنزانو ) لاستخدامه بعد الأكل.لاحظت فى كل مرة بعد عند انتهائى من أكل المكسرات و الشرب الزجاجة التى قمت بشراءها ينتابنى خدر خفيف أنوم بعده مباشرة . النوم كان يفيدنى فى شيئين التقليل من الأكل و المحافظة على ما تبقى منه، كما يساعد على الابتعاد من الهواجس و التفكير عما يحدث فى السودان ....كان مساعدا معقولا فى حالتى.لاحقا عند وصولى الى موسكو علمت من أصدقائى – بعد الضحك على و السخرية - ان ما كنت اقوم بشربه هو نوع من أنواع الخمور......لم أعرفه لأنى لم اتذوق من قبل طعم الخمور فقد كنت رياضيا امارس لعبة كرة القدم.

لأشباع فضولى و أنا أكتب هذا المقال قمت بالبحث عن ذلك المشروب... هاكم ما وجدت :

 (  " سنزانو" هو الأسم لمشروب ايطالى مسكر، أحمر اللون،  حلو المذاق و رخيص الثمن، تبلغ نسبة الكحول فيه 15% و يشربه المسحوقون من الفئات الدنيا فى ايطاليا )!!!


أواصل

عدنان زاهر



elsadati2008@gmail.com

 

آراء