2 ديسمبر 2022م الذكرى السنوية الأولى لرحيل الكابلي عاشق وطن الجمال (1)

 


 

أمير شاهين
2 December, 2022

 

"من النادر جدا أن تجتمع كل عناصر الإبداع في إنسان واحد ، لكنها الحالة التي تحدث مع الفنان السوداني الكبير "عبدالكريم الكابلي"

رابح فيلالي، أديب وإعلامي جزائري

بقلم: أمير شاهين

تمر علينا هذه الأيام الذكرى الأولى لوفاة الأستاذ الفنان عبدالكريم عبدالعزيز محمد عبد العزيز يوسف المعروف بعبد الكريم الكابلي والذي غادرنا إلى الدار الباقية العام الماضي في 2 ديسمبر2021م، وبرحيل الكابلي وقبله الامبراطور وردى والذي مرت علينا ذكرى وفاته العاشرة في 18 نوفمبر الماضي، تكون الموسيقى السودانية قد ترملت ودخلت في حالة حداد طويلة وفى ضوء المعطيات الحالية وما نراه ونشاهده هذه الأيام من " كبسيبة" في ساحة الغناء حيث اختلط الحابل بالنابل لا يبدو أن الفرج قريب!! والسودان خير مثال للوطن الذي ماضيه اسعد وأزهى من حاضره وفى جميع المجالات إنه بحق بلد " البدايات المتينة والنهايات الحزينة " او الماضي السعيد و الحاضر الكئيب! وفى مجال الغناء والموسيقى فإن فترة السبعينيات من القرن الماضي كانت الساحة الفنية تشهد ازدحاما غير مسبوق من المبدعين و تنافسا كبيرا بين الفنانين الكبار في الإتيان بكل ما هو جديد وجميل! أمثال عثمان حسين وإبراهيم عوض وورد والكابلي ومحمد الأمين ومحمد ميرغني وصلاح بن البادية وغيرهم من الأساطين الذين كتبوا أسماءهم بأحرف من نور في سجل الثقافة السودانية! في هذه المناسبة نسأل الله ان يمنح الباشكاتب و الموسيقار الجهبذ محمد الأمين طول العمر والصحة والعافية , فقد خلت الساحة من زملائه وأصدقائه الذين كان يأنس بهم ويتنافس معهم واصبح الان وحيدا وضاع صوته في زحمة ما يسمون أنفسهم بملوك و سلاطين فن الغناء والموسيقى والذين لا يفعلون شيئا سوى الظهور المفرط بالنيو لوك في وسائل الاعلام بترديد أغاني الغير و التكسب منها , وفى مرة من المرات وفى مقابلة مع الفنان محمد الأمين معلقا على ظهور عدد من المغنيين الذين يرددون أغاني الفنان الرائد إبراهيم الكاشف قال ابوالامين بسخريته المعهودة " لقد رحل الكاشف فقيرا و انتفخت جيوب الذين تغنوا بأغانيه من بعده" وليت الامر توقف عند الثراء المادي فقد طاله الى حمل الألقاب الفخمة و الصفات المهيبة !! وهذا الصدد فقد قال لي أحد الأصدقاء "حسنا جدا فإذا سلمنا جدلا بان هؤلاء المغنيين والمغنيات المفلسين غنائيا والمقرشين ماديا قد منحوا ألقاب من شاكلة " ملك وسلطان ولورد وخلافه والواحد منهم لا يملك اغنية واحدة تخصه وإذا امتلك واحدة فهي ركيكة الكلمات ضعيفة اللحن وغير مسموعة! فما الذي يمكن ان يطلق من ألقاب على المبدعين الحقيقيين الذين أثروا وجدان الشعب السوداني ونحتوا في الصخر وجدوا واجتهدوا لمنحنا روائع مثل " الجميلة ومستحيلة" و "بتتعلم من الأيام " و " سال من شعرها الذهب" و " الأماني العذبة" و " من طرف الحبيب" و "هذه الصخرة" و " الفراش الحائر " و " الساقية" و " حنيني اليك" "ضنين الوعد"؟؟

يمكن القول بأن الكابلي رحمه الله كان مثال للفنان الشامل! فهو شاعر لا يتطرق الشك في شاعريته فقد كان يمتلك القدرة الإبداعية الكبيرة في النظم و استنطاق الكلمات و العزف بالحروف ودونك أشهر كلمات الأغاني التي كتبها مثل : حسنك فاح مشاعر واكيد حا نتقابل و قمر دورين و جبل مرة التي كتبها وقام بتلحينها واهداها الى زميله ابوعركى البخيت لتشكل هذه الاغنية إضافة مهمة لمسيرة ابوعركى الفنية الى جانب أغنيته الخالدة " بخاف" كما ان هذه الاغنية في اعتقادي افضل عمل فنى يتغنى بجمال جبل مرة وفيها من الوصف و التصوير والتشبيه مما يجعلها لوحة فنية خالدة بديعة الألوان,. والكابلي كان أيضا ملحن بارع لا يشق له غبار وتمتاز الحانه بالسلاسة و البساطة و الحيوية و الانتقال السلس المنطقي من نغمة الى أخرى وكانت الحانه جميعها في السلم الخماسي و تتميز بالاستخدام الانيق لبعد الثالثة الكبيرة في السلم الموسيقى ، كما انه كان يمتلك حنجرة ذهبية وصوت عذب في طبقة الباريتون ويتميز الكابلي بانه أستاذ مخارج الحروف و نطق الكلمات وهو بلا شك كان معلم في هذا المجال , وفى مقابلة مع الفنان الراحل زيدان إبراهيم ذكر بان الكابلي كان أستاذه الذى تعلم منه النطق السليم و مهارة التحكم في الأصوات و مخارج الحروف !

ولكنى اعتقد باننا في السودان مدينون للكابلي ممتنون له !، فبالإضافة لا متاعنا وادخال السعادة والحبور الى نفوسنا بغنائه فقد قام تعليمها وتثقيفها ومدنا ببعض المعارف والمعلومات من خلال غنائه لم نكن لنعرفها من دونه! وحتى لا نتهم بالمبالغة وزيادة الاطراء والان دعونا ندلف الى بعض الأمثلة. ففي بدايات حياته الفنية في العام م 1960 قام بغناء" انشودة آسيا وأفريقيا "رائعة الشاعر الجهبذ تاج السر الحسن، والتي كتبها عام 1956 في الذكرى الأولى لمؤتمر باندونج الذي عقد في إندونيسيا عام 1955 وكان النواة الأولى لتأسيس حركة عدم الانحياز. مام الزعيم المصري جمال عبد الناصر الذي كان وقتها يتمتع بشعبية جارفة وكان معبود الجماهير في العالم العربي ودول العالم الثالث بوصفه نصير حركات التحرر الوطني ومحاربة الاستعمار ويقال بان جمال عبد الناصر قد اندفع الى المسرح وقام بتقبيل راس الكابلي عند غناء المقطع الذي يقول" مصر يا ام جمال وام صابر، وام صابر هذه كانت امرأة مصرية بسيطة كانت تقوم بإخفاء السلاح في ملابسها لتقديمه للثوار المصريين إبان مقاومتهم للاحتلال الإنجليزي لبلادهم والكابلي نفسه كان من اشد المعجبين والمحبين له. ويواصل الكابلي تعليمنا و تثقيفنا فيقوم بتلحين وغناء رائعة يزيد بن معاوية " نالت على يدها" المشهورة لدينا أمطرت لؤلؤا وعندها عرفنا بان ليزيد بن معاوية الخليفة الأموي والذي في عهده تم قتل سيدنا الحسين بن علي سيد شباب اهل الجنة وقطع رأسه , عرفنا انه كان شاعر مجيد ويصنف من فحول شعر الغزل في عصره وله قصيدة أخرى لا تقل جمالا عن نالت على يدها وهى قصيدة " أصابك عشق ام رميت بأسهم" , وعندما تغنى الكابلي بقصيدة شذى زهر للأديب العملاق محمود عباس العقاد عرفنا لأول مرة بان العقاد ينظم الشعر و ينشده فلم يكن معروفا ومشهورا في هذا المجال , اما قصيدة " أراك عصى الدمع" للشاعر الفارس أبو فراس الحمداني والتي وضع لها الكابلي لحنا فريدا متميزا جعل الناس يرددون كلمات الأغنية بكل سهولة و يسر بالرغم من صعوبة الكلمات التي نظمت بها القصيدة ! وهنالك قصيدة أخرى لها مكانة خاصة لدى متذوقي الشعر العربي لرقة كلماتها وعذوبة معانيها وجمال الوصف و التشبيه بها استطاع الكابلي بموهبته الكبيرة ان يضع لها لحنا زاد به من جمال القصيدة وهي قصيدة " كللي يا سحب تيجان الربا" للشاعر والاديب المصري ابن سناء الملك الذي توفي في العام 1212م والتي تقول كلماتها:

كللي يا سحب تيجان الربا بالحلي
واجعلي سوارها بانعطاف الجدول
يا سما فيك وفي الأرض نجوم وما
كلما أخفيتي نجما كم ابانت أنجما
وهي ما تهطل إلا بالطلا والدما
فاهطلي على قطوف الكرم كي تمتلي
وانقلي للدن طعم الشهد والقرنفل
تتقد كالكوكب الدري للمرتصد
يعتقد فيها المجوسي بما يعتقد
فاتئد يا ساقي الراح بها واعتمد
واملا لي حتى تراني عنك في معزل
قللي فالراح كالعشق إن يزد يقتل

 

ونواصل

amirrshahin@gmail.com
///////////////////

 

آراء