مُدْخَلاتُ التَّهَيُّؤِ، فَاسْتِجَابَاتُ الرَّحِيْلِ (14)

 


 

 

 

dokahassan@yahoo.com

"بَكَيْتُ عَلَى سِرْبِ القَطَا إِذْ مَرَرْنَ بِي فَقُلْتُ ومِثْلِي بِالبُكَاءِ جَدِيْرُ
أَسِرْبَ القَطَا هَلْ مِن مُعِيْرٍ جَنَاحَهُ لَعَلِّي إِلَى مَنْ قَدْ هَوَيْتُ أَطِيْرُ"
( الشَّاعر قَيْس بنُ المُلَوَّح " مَجنون لَيلى").
وهَبْ أنَّكَ عَفَّرتَ يديك - منذ نعومة كفيهما، وحداثةِ عضليهما، وهشاشةِ أصابعهما، بقوةِ العزيمة والجلد. تنتشي في إِقْدَامِكَ وتصديك الهميم بالتفاعل تكافلاً ونفيراً، بحش الزرع، ورعاية البهائم، وصرِّ الأغنام وحلبها، وتيراب بذور القطن والذُّرة والعيش ريف (أم أباط) والطماطم ومسمس البصل، وعزق الأرض ورِيِّها، مرافقاً في صُحبةٍ أليفةٍ، سرابات الحواشات والتقانت، وأبو عشرين، وأبو ستَّه، ساقياً البوغه، والشربات المائية. وأنَّك قد تعلمتَ ألفبائية السِّباحة (العُوم) سابحاً في التُّرعتين (الضَّنبية والرئيسية)، وجوَّدت السباحة والغطس مع أسماك وحَيَوات النَّهر النبيل مع الأصدقاء رفاق الصبا والطفولة، وقد تعلمت شواء الأسماك النيلية على النَّهر جامعاً الحطب والقش من الشجيرات الفتيَّة جارات النيل وصديقاته.

هَبْ أنَّك دَعَوتَ مُصطحباً إلى بلدتك الحبيبة زميلاً أو زملاء دراسة بالمدرسة المتوسط أوالثانوية العليا بالرنك، أو زملاء دراسة جامعية من الخرطوم، أوان العطلات الدراسية، فيَتبارَىَ أهلُ البلدة الحبيبة في إكرامهم مهيئين لهم إقامةً أقل وصفٍ لها أنَّها " مُلُوكيَّة" حيث الكل في خدمة الضيف، وحاجاته ملبَّاة قبل أن ينطق بها، وأنَّك "في جاهِ المُلُوكٍ، تَلُوك!" تنعمُ بخيراتِ قُدوم الضَّيف. فالضَّيفُ عندهم "رحمة وبركة وخير وفير"، تتوفَّر بمجيئه الخيراتُ، وتَعُمُّ الجميع، ودائماً هناك أشياء مُدَّخرةٌ للضيوف، (والضَّيف بِتَدِّيْهُو عَشَا جَنَاك). يسأل النَّاسُ عنه، يَغيبُ اسمُه تماماً ليصير الاسم المُعْتمد هُو الضَّيف. وين الضيف؟ كيف أصبح الضيف؟ تعالوا اتعشوا معانا الليله مع الضيف. دِي هدية للضيف، ودي لأسرة الضيف. وجمعٌ غفير من أهل البلدة يتقاطرون مودعين الضيف أمام اللوري أو البص أو البنطون، والكلُ يحمل هديته " مُعَدِّي الضيف" يودعه بدفءٍ إنساني حميم، ودموعٍ هي الأصدق في تاريخ التَّفاعل الإنساني، تنمُّ عن أنفس كريمة، وأرواح شفَّافة نقيَّة تلُفّ أهل البلدة وتحملهم على أكفِّ الوفاء وحسن الصُّحبة والأفق الإنساني المنتمى للوطن والحياة والإنسانِ على منحى شعار برنامجنا الإذاعي "لاحقاً" صباح الخير يا وطني.

هَبْ أَنَّكَ كنتَ من محظوظي أبناء البلدة الحبيبة وما جاورها، بدخولك الجامعة كثاني اِثنين من ريف جنوب النيلِ الأبيض نواحي أم جلالة والكويك، وأرياف شمال أعالي النيل على عدوة النيل الغربية بدايات الثمانينات من القرن الذي رحل، بر كدوك والبشارة ووداكونه وليلو أماره والمطيمر وكاكا التجارية وكدوك ، حتى تخوم فشودة وتونجا. وقد أخذت الفرحة أهل قريتك الحبيبة (وداكونه) وجاراتها، فذُبحت الذبائح، وأقيمت الولائم، وأُطلقت الأعيرة النَّارية مثلما تم إطلاقها يوم إعلان نتيجة الشهادة السودانية وحصول ابن البلدة الحبيبة أخي الحبيب أحمد محمد عبد الرحمن، على المركز الثاني على مستوى السودان (ثاني السودان) للمساق الزراعي ودخوله معهد الكليات التكنولوجية (معهد شمبات الزراعي)، وأنَّكَ قد شرفتَ الأهل والبلدة بدخولك إحدى جامعات السودان الخمس حينها (الخرطوم، أمدرمان الإسلامية، القاهرة الفرع، جوبا، ومعهد الكليات التكنولوجية Polytechnic والذي صار لاحقاً جامعة السودان). فقد صارت مواعيد عطلاتك الجامعية موسماً للأسئلةِ النبيلة، التي تنتظر إجابات المضيئة ما استغلق على بعض الناس، وأنك عينهم التي ترى وترصد وتنقل ما تخيل لديهم عن المدن الكبيرة والعواصم، وأنك مرصودةٌ خطواتُك وحركاتُك وسكناتُكَ وكل ما يصدر عنك لأنك ابن الجامعة، وصغار براعم القرية تدور حولك وتقتدي. كما أنَّكَ تتبوأ منزلةً بين رواد الديوان، بالجلوس والتعاطي في ما يتمُّ طرحه ومناقشته، وبالتالي ، تُعفى عن أداء المهام الخدمية اليدوية، تاركاً لمن يصغرك القيام بذلك.

ونواصل

 

آراء