الصَّادق المهدي.. تجلِّيات زعيم طائفي (1 من 6)

 


 

 


shurkiano@yahoo.co.uk


مقدِّمة

ترددت كثيراً، أو ملكني التردُّد في أكثر من مرة فيم أسمِّي هذا العمل الذي أودُّ أن أقوم به، أو أعكف عليه. أهو خطاب مفتوح إلى من يهمه الأمر خاصة، والمواطنين من أهل السُّودان عامة، أم مقال يُنشر فيما أتيح لنا من مكان للنَّشر لنذيعه في النَّاس حتى يقرأه القرَّاء مادحين أم قادحين، راضين أم لاعنين. ثم إذ نحن في حيرة من أمر مخاطبتنا لهذه الشخصيَّة التي ملأ السماء السِّياسي في السًّودان منذ فترة ليست بقصيرة؛ فبأيَّة صيغة اعتباريَّة من صيغ المخاطبة يمكن أن نصطفيها لمخاطبتها بها: إذ أنَّ هذا الزعيم كان رئيس وزراء السُّودان مرتين، وفي هاتين الفترتين تمَّ إخلاؤه برلمانيَّاً أو عسكريَّاً، ثمَّ إنَّه الإمام الحبيب لكيان الأنصار ورئيس حزب الأمة القومي.
ففي فترة خلت تحدَّث السيِّد الصَّادق الصدِّيق عبد الرحمن المهدي عن سيرته الذاتيَّة ومسيرته السِّياسيَّة، فأملاها وأذاعها في النَّاس في مجلَّة "الوسط" اللندنيَّة، التي شرعت هي الأخرى في نشرها بالتتابع العام 1994م.(1) وقبل أن نلج في كلام الصَّادق ينبغي علينا أن نفرِّق بين اليوميَّات المدوَّنة (Diary) من جانب، والمذكِّرات (ترجمة حياة المرء بقلمه) (Memoirs) من جانب آخر، والسيرة الذاتيَّة (المعتمدة أو غير المعتمدة) (Biography – authorised or unauthorised) من جانب ثالث، حتى ندرك أي نمط من الأنماط الثلاثة أقدم عليها الصَّادق في ترجمته لحياته.
ففي حقيقة الأمر، إنَّ مدوِّن اليوميَّات ليسعى أن يجعل من نفسه مركز الأحداث ولا يلجاً إلى موبقات الحذف أو التكليف، فضلاً عن أفعال الغباوة التي قد تبدو في أعمال أخرى. ثمَّ إنَّ كاتب اليوميَّات ليس بمدرك إلى أيَّة جهة ستهب الرِّياح إن كانت خيراً، أو الرِّيح إن حمل في ثناياها شرَّاً. إذ ما يدوِّنه الشَّخص في اليوميَّات يعبِّر عن التأريخ في الزمن الحقيقي أو الواقع المنطوق والمسموع والمرئي، أي كما يعيشه هذا الشَّخص. ولذلك كذلك لا يدري من ذا الذي سيكسب المعركة، وأي عملاق سيتعثَّر، ثمَّ أي لاعب سوف يظفر بالسُّلطة. ولكن بعد خبو نيران اللَّحظات الحرجة، تبلور المذكِّرات حقيقة الظروف البشريَّة، والتي يقلِّل من قيمتها المؤرِّخون، لأنَّ المستقبل قاتم وغير معلوم العواقب. أما السِّيرة الذاتيَّة – معتمدة كانت أم غير معتمدة – فهي تحكي سيرة الشَّخص منذ ميلاده والبيئة الأسريَّة والاجتماعيَّة التي نشأ فيها، والأحوال الاقتصاديَّة أو السِّياسيَّة التي أثَّرت في نشأته، والشخوص التي كانت لها أثراً فعولاً في تربيته وحياته وصيرورته، والمدارس الفكريَّة أو الأدبيَّة أو السِّياسيَّة التي تشبَّع بها واغترف منها، والدور الاجتماعيَّة التي كان يلجأ إليها، والهُويَّة أو الهُويَّات الذاتيَّة التي تقمَّصها، والحرف المهنيَّة التي امتهنها في مسيرته. وهذا هو ديدن السِّير الذاتيَّة المخوَّلة والتي يأمل صاحبها في شيء من الأمل عظيم أن يؤطِّر لفكر سياسي، أو مذهب ديني، أو يمجِّد طائفة أثنية، وذلك في سبيل نيل مجد مؤثل.
وهذا الأخير هو ما أقدم عليه الصَّادق في سيرته التي أذاعها في النَّاس في المجلَّة إيَّاها. بيد أنَّ الصَّادق كان قد أضفى على هذه الحكوات طابعاً خرافيَّاً حيناً، وإعجازيَّاً حيناً آخر بحيث لا يصدقه العقل، ولا يقبله المنطق، وبخاصة حين طفق يذكر ما يشبه أضغاث أحلام ورؤى في مجرى الحديث عن ميلاده وحياته التي اعتاشها، وأغدق عليها هالة إلهيَّة حتى أُحططنا انطباعاً بأنَّه أوتي من تأويل الأحاديث شيئاً. فمفهوم التأويل يتمحور دوماً حول حركة ذهنيَّة في إدراك الأشياء والظواهر والوعي بها قبل حدوثها؛ حيث أنَّ الإدراك هو إعطاء الأشياء والظواهر معاني محدَّدة؛ أما الوعي فهو كيفيَّة التعامل مع معاني الأشياء والظواهر. ففي جانب من جوانب روايته ذكر الصَّادق بأنَّه أخبر الملأ من حوله بأنَّ الانتفاضة الشعبيَّة وزوال نظام الرئيس الأسبق جعفر محمد نميري سيكون يوم 6 نيسان (أبريل) 1985م وهذا ما كان، وكان ذلك قبل الحدث ببضعة أيَّام. بيد أنَّ هذا الإخبار الذي تكرَّمت به قريحة الصَّادق لم يكن ناتجاً من علم لدني، وهو ذلكم العلم الذي يتنزَّل من السماء على العبد الصالح أو الشَّخص المصطفى، ولا يظهره الله إلا على أيدي أوليائه، مما يجعل المرء يحتار في أسلوب الوعي العقلي وكيفيَّة التعامل مع معاني الأشياء والظاهرات الذي يستخدمه الصَّادق في التفكير. وكذلك من يقرأ حكاوي الصَّادق في أعداد المجلَّة إيَّاها تعطيك انطباعاً بأنَّ الصَّادق صاحب حظوة إلهيَّة، وأنَّ الرَّب أعدَّه وأتى به كهديَّة مدهشة، والهديَّة في حد ذاتها هي ما توافق عليها النَّاس وتمَّ قبولها قبولاً حسناً، والدَّهشة تعتبر عنصر الفرحة المصحوبة بالفجاءة.
مهما يكن من أمر، فقد تناول الباحث الفرنسي جيرارد برونيه ملمحاً واحداً من ملامح الصَّادق المتعدِّدة، حين تعرَّض لدراسته في جامعة أوكسفورد، وذلك حينما تكلَّم عن تحصيله الأكاديمي في ذلكم الصرح العلمي العتيق.(2) إذ كان من طبائع الإمبراطوريَّة البريطانيَّة، التي لم تكن الشَّمس لتغيب عنها وقتذاك، أن ترسل أبناء من هزمتهم جيوش الإمبراطوريَّة، أو أبناء الأمراء والشيوخ والملوك، إلى بريطانيا للتعليم الخاص وأنجلزتهم وإعادتهم إلى بلدانهم لخدمة الإمبراطوريَّة ورعاية مصالحها السِّياسيَّة والاقتصاديَّة في البلاد إيَّاها. وكانت هذه المنح السنويَّة التي تعطي الفرص لعدد غير كبير من الأفارقة للدِّراسة في جامعتي كيمبردج وأوكسفورد ذات أهميَّة قصوى لبريطانيا، مما دعتها وهي في أوج الحرب العالميَّة الثانية (1939-1945م) أن تدفع تكاليف سفينة تحت حراسة غوَّاصة أن تمخر عُباب المحيط الأطلسي والبحار وعلى متنها هؤلاء الطلاب من غانا إلى ميناء ليفربول في بريطانيا. مهما يكن من شيء، فإنَّها لعادة رومانيَّة ورثتها المملكة المتَّحدة منها، حيث ذهب الرومان في هذا المسعى مذاهباً شتى؛ إذ كانت تتم رومنة هؤلاء الأبناء بما فيها تبنِّيهم أسماءً رومانيَّة. فعلى سبيل المثال: إذا سُمِّي هذا الأمير مارك عند ميلاده، يصبح اسمه بعد رومنته ماركوس، وبريتون يمسي بريتانيكوس، وجيرمان يصبح جيرمانيكوس وهلمجرَّاً.
أيَّاً كان من أمر الرومان، ففي ترجمة الصَّادق المهدي لحياته بهذا الأسلوب الاصطفائي لم يسق نوعاً من النَّقد الذاتي، ولم يعط كل ذي حق حقه من الحداثيين أو التراثيين، ثمَّ لم يطرح تساؤلات بحجم جدوى بعض أو جل ما قامت به حكومته أو حزبه من إخفاقات بشجاعة يُشهد لها. إذ أنَّ سرد الوقائع بهذا النمط الموارب يشي بشك مريب في العلاقة بين الحقيقة والتأريخ، مع العلم بأنَّ الأخير يعني تأريخ الماضي البشري وما حصل فيه من أحداث، ثمَّ إنَّه ليعني كذلك الجهد المبذول لمعرفة الماضي ورواية أخباره، ولكن بصدق وشفافيَّة. وينبغي أن نعلم أنَّ الماضي والحاضر والمستقبل لمرتبطون ببعضهم بعضاً، وإذ نحن لا نريد أن نورِّث الأجيال سوءات الحاضر، ومن هذا المنطلق لاحظ مؤرِّخ القانون الإنكليزي العظيم فريدريك وليام ميتلاند أنَّه "يستوجب أن نكون واعين دوماً أنَّ ما يقبع الآن في الماضي كان في يومٍ ما قابعاً في المستقبل." إذ إنَّنا ننتمي إلى تيَّار في البحث التأريخي السِّياسي الذي ينظر إلى التأريخ كتواصل لا قطيعة فيه، وإلى العمل الحضاري كتلاقح لا هيمنة فيه لحضارة على أخرى إلا بقدرتها على الاستيعاب والتمثُّل والاستمرار، وذلك بالتراضي والتفاعل الاجتماعي لمصلحة الإنسانيَّة وخدمة المجتمع. بيد أنَّ هذا هو ما لم نجده في حكاوي الصَّادق التي هي في حقيقة الأمر تضخيم للذات، ورصد انتقائي لأحداث تأريخ السُّودان السِّياسي في الحقب التي كان فيها الصَّادق نفسه سيِّد الموقف، وفي ذلك بغية تغبيش الوعي الجمعي للشَّعب السُّوداني.
وإذ نحن في كتابنا الذي بين يدي القارئ عن الصَّادق المهدي لم نبغ الاهتداء بالمنهج النفسي (السيكلوجي)، بل لسوف نبدي رأينا في تصريحات الرَّجل، وأدائه في الشؤون العامة وبعض من أقواله، وذلك لأنَّ الرَّجل مكثار في كل مناسبة أو غير مناسبة، ومقوال في كل شيء وعن كل شأن في الإطار المحلِّي أو المحيطين الإقليمي والعالمي، حتى نعته الدكتور منصور خالد بأنَّ الرَّجل "مصاب بشهوة إصلاح العالم". إزاء ذلك سوف لا نخوض في مولده ونشأته الأولى فتلك أمور لا هم لنا فيها في شيء، فدعنا نترك تينك الأمور وشأنها لأنَّها تقع في إطار خصوصياته. غير أنَّ من أراد أن يؤمن بما أورده الصَّادق في تلك السيرة الذاتيَّة، فليقرأها ويتدبَّر في أمرها، ويتفكَّر في عرضها متى ما شاء وكيفما شاء، ومن ثمَّ يصدر حكمه عليها بنفسه.
ومع ذلك، فنحن نعلم – وفي الأمر غرابة – أنَّه حتى كبار المثقَّفين من جماعة الأنصار وحزب الأمة يتحدَّثون عن الصَّادق بكثرٍ من التطبيل والتزمير والإطراء والتبجيل أحياناً ولردح طويل من الزمان. هذا، فقد قال أحد الديبلوماسيين السُّودانيين في لندن العام 1996م إنَّ شعور الصَّادق المهدي "الزائد بأهميَّته الشَّخصيَّة يجعله يضفي ظلالاً غير عاديَّة على شخصيَّته، وتلك مشكلته ومشكلة المعجبين به."(3) فالصَّادق في خطابه إلى أنصاره وأشياعه يلجأ إلى أمشاج من العواطف الدِّينيَّة العميقة وتقنيات لوي الأدمغة، ومن ثمَّ يتفاعل شيعته مع خطاب الوجدان الرُّوحي؛ أمَّا الانتهازيُّون الذين يأملون في حظوة الاستوزار فلا يعصون له أمراً، مما علق بأولئك وهؤلاء من تشويه وشوائب وقروح مذهبيَّة وطائفيَّة وانتهازيَّة؛ إذ نحن نأمل أن يبرأوا منها نهائيَّاً. إذ ربما استيأس السُّودانيُّون من الحديث عن الصَّادق المهدي حتى – والقول هنا لأحمد حمدان – "أصبح ما نكتبه عن الإمام الصَّادق المهدي كلاماً مكروراً مملَّاً، ولكن ماذا نفعل، سنظل نكتب ونكرِّر ما نقول عسى ولعلَّ تنقشع الغشاوة عن أعين المريدين والأحباب."(4)

 

آراء