الصَّادق المهدي.. تجلِّيات زعيم طائفي (2 من 8)

 


 

 

 

shurkiano@yahoo.co.uk

تهافت الصَّادق في المعارضة

الغريب في الأمر أنَّ الصَّادق المهدي حين ولج في دهاليز السِّياسة في السُّودان شرع بالمعارضة داخل بيته وحزبه، وولوج المرء الباكر في مثل هذا المعترك الشائك الذي تكتنفه الأشواك دون دراية بما هو فاعل قد يفسد عليه حاله وحال البلد، وبخاصة إذا كان منطلقه من أجل إشباع الطموح الشَّخصي، والرَّغبة الجانحة في السُّلطة. ففي إبَّان عهد الدِّيمقراطيَّة الثانية (1964-1969م) تسيَّد الصَّادق المهدي الموقف السِّياسي في ساحة حزب الأمة وكيان الأنصار على وجه الخصوص، والساحة السُّودانيَّة على وجه العموم. ومن ثمَّ أمسى يكيل كيلاً، ويضع العراقيل والدسائس للسيِّد محمد أحمد محجوب رئيس الوزراء عن حزب الأمة، طالباً منه التنازل عن رئاسة الحزب، حتى يتولَّى هو رئاسته ومن ثمَّ رئاسة الوزراء. وقد كان تهافت الصَّادق على السُّلطة ليس لأيَّة خبرة إداريَّة، أو حنكة سياسيَّة، بل لأنَّه سليل المهدي، ثمَّ إنَّه لقادمٌ من بلاد الصقيع وقد نال إجازة من جامعة أوكسفورد إحدى أرقى الجامعات في بريطانيا، أو بالأحرى لنقل في العالم، ومنذئذٍ امتلأ هذا الخريج المهدوي، والذي كان في مقتبل العمر وريعان الشباب، زهواً وفخراً واعتداداً بالنَّفس. وقد تنبأ له محمد أحمد محجوب بأنَّه سوف يصبح رئيساً للوزراء في يومٍ ما، ولكن سوف لا يستمتع برئاسته أكثر من تسعة أشهر، وقد صدقت نبوءة المحجوب في الصَّادق كما صدق في صهره الترابي، ولسوف نجيء إلى موضوع الأخير في موضع آخر. وفي الحق، أمسى الصًّادق المهدي رئيساً للوزراء، فكان له ما أراد ولكنه لم يستطع أن يحافظ على ما أراد.
ففي ذلكم الحين من الزمان كان أكبر مشكل أمني وسياسي واجتماعي يواجهه السُّودان هو مسألة الحرب الأهليَّة في جنوب القطر. فهذا هو الأستاذ كمال الدِّين عبَّاس المحامي رئيس وفد حزب الأمة في مؤتمر المائدة المستديرة، الذي عُقِد العام 1965م خصيصاً لحل ما أسموه في ذلك الحين من الزمان "مشكلة جنوب السُّودان"، يوثِّق للتأريخ والأجيال دور الصَّادق المهدي وصهره حسن الترابي في إفشال الاتِّفاق. وفضلاً عن دوره كرئيس وفد الحزب، فهو الذي كتب بيان ثورة تشرين الأوَّل (أكتوبر) 1964م بخط يده. بيد أنَّ الأستاذ عبَّاس كان عضواً في لجنة الأثني عشر، وهي اللجنة التي انبثقت عن المؤتمر لصياغة مقرَّراته. وهنا يقول الأستاذ عبَّاس "لقد كان الاتِّفاق مرضيَّاً لأهل الجنوب والشمال على حدٍ سواء، ولم يطالب الأول بالاستقلال أو الحكم الفيديرالي أو الكونفيديرالي، بل كان الاتِّفاق مرضيَّاً لنا ولوطنيَّتهم؛ وقد وقف وليام دينق رئيس حزب سانو مخاطباً حسن الترابي بأنَّ هذا السُّودان وطننا قبل أن يكون وطنكم أنتم أيُّها العرب، ثمَّ التفت إلى أبيل ألير وقال له هذا السُّودان وطننا قبل أن يكون وطن هؤلاء العرب، ولا نحب أن نقسِّمه." إذ اكتفى وليام دينق بالقول على أن تكون الحكومة الإقليميَّة سلطاتها كذا وكذا، والحكومة المركزيَّة سلطاتها كذا وكذا. غير أنَّ الصَّادق المهدي قد رفص الاتِّفاق دون أن يبدي أيَّة أسباب، بل أراد أن نقبل برأي حسن الترابي القائل بأن يكون رئيس الجمهوريَّة مسلماً بحكم الدستور وله ثلاثة نواب، وينبغي أن يكون النائب الأوَّل والثَّاني مسلمين بحكم الدستور. ومن ثمَّ وقف وليام دينق وأراد أن ينسحب من المؤتمر، وقال بالإنكليزيَّة الآتي ترجمته: "نحن سوادنيُّون، وسوف نبقى سودانيين، ولكن سوف لا نقبل أن نظل سودانيين من الدرجة الثانية."
مهما يكن من شيء، فقد استطرد الأستاذ كمال الدِّين عبَّاس المحامي قائلاً: "كان الصَّادق لا يسألني عما يدور في اللجنة، لكنه كان يجتمع يوميَّاً مع الترابي، ويتَّفقا فيما يقولولان، وكان الصَّادق يُعتبر ممثِّلاً للترابي في المؤتمر، حتى طرشق (أفشل) علينا الاتِّفاق بين الشمال والجنوب؛ فالصَّادق والترابي مسؤولان عن كل الأرواح التي راحت من الشمال والجنوب، والتشريد والتهديم والخراب الذي حصل في السُّودان منذ العام 1967م، وهما مسؤولان عن خراب السُّودان إلى يوم الدِّين." أيَّاً كان من أمرهما، فقد جاء نظام العقيد حينئذٍ جعفر محمد نميري في 25 أيار (مايو) 1969م، وأخذ قرارات وتوصيات لجنة الأثني عشر وتمَّت صياغتها والتوقيع عليها مع حركة تحرير جنوب السُّودان (الأنيانيا) بقيادة جوزيف لاقو باسم اتِّفاقيَّة أديس أبابا في أذار (مارس) 1972م لكي يكون أكبر إنجاز لنظام نميري، ولئن انقلب عليه بعد استصحاب الأحزاب التقليديَّة والطائفيَّة في السُّلطة بعد المصالحة الوطنيَّة العام 1977م. هذا، فإذا كانت هناك ثمة حكومة تتحمَّل مسؤوليَّة الفشل في تطبيق قرارات مؤتمر المائدة المستديرة، والذي عقد لحل مشكل الجنوب كما أسلفنا ذكراً، فإنَّها لحكومة حزب الأمة. ومن هنا نرى أنَّ نصيب الصَّادق المهدي في حزب الأمة في الفشل كان هائلاً، لأنَّه وحَّد جهوده مع الدكتور حسن الترابي في إطلاق فكرة الدستور الإسلامي لأوَّل مرَّة في تأريخ السُّودان الحديث، وذلك في بلد متعدِّد الأديان والثقافات؛ ومنذئذٍ بدأ العد التنازلي في السِّياسة الإقصائيَّة في السُّودان إلى أن وصل إلى القاع العام 1989م باستيلاء الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة على الحكم.
وفي سبيل خذلان الصَّادق المهدي لرفاقه في الجبهة الوطنيَّة المعارضة لنظام نميري قال الشريف حسين الهندي: "اجتمعنا نحن في المكتب السِّياسي للجبهة الوطنيَّة، وحدَّدنا عشرة شروط مختلفة كثيراً عن شروط السيِّد الصَّادق المهدي، ولكنها جماعها شروطاً ديمقراطيَّة، ووقَّعناها جميعاً؛ وقَّعتها أنا ومعي السيِّد أحمد زين، ووقَّع السيِّد الصَّادق المهدي عن حزب الأمة، ووقَّعها عثمان خالد مضوي عن الإخوان المسلمين، وعثمان صالح عن المستقلين. ثمَّ كوَّنا لجنة قانونيَّة مكوَّنة من الأستاذ أحمد زين والأستاذ فاروق البرير والأستاذ شريف التهامي والأستاذ عثمان خالد مضوي لصياغة هذه المقترحات العشرة كتابة وتم التوقيع عليها، وتسلَّمها أمامنا جميعاً السيِّد الصَّادق وقال إنَّ هذه هي جماع مفاوضاتي، إذا وجدتها فسأرجع إليكم بها، وإذا لم أجدها فليس هناك تفاوض ولا مفاوضات، ولم يجر ذكر لكل هذا إطلاقاً، ثمَّ استمعنا بعد ذلك للمغالطات التي استمع لها آلاف السُّودانيين." ويواصل الشريف حسين مسترسلاً بأنَّ النميري قال: "ليس هناك شروط، وليس هناك اشتراطات، وليس هناك مفاوضات؛ ثمَّ كان الصَّادق يقول: "أنا لدي شروط." ويُسأل هل هي مكتوبة، ويقول لا مقالة. واستمرَّ هذا النقاش فترة طويلة في مغالطات عقيمة. ينكر نميري وجود شروط، والصَّادق يصر على تأكيد وجودها ولكنها مقالة. وأما الوسيط الذي حضر يقرُّ أنَّه لم تكن هناك شروط إطلاقاً، لا في بورتسودان ولا بعدها ولا قبلها، ولا عندما كلَّفه شريف التهامي، وعبد الحميد صالح بهذه المصالحة."(5)
وفي اجتماع أخير عقده نميري والصَّادق المهدي في منزل فتح الرحمن البشير، قال نميري للصَّادق أنت تقول هناك شروط وأنا أقول ليس هناك شروط؛ دعنا لا نتغالط، أنا لا أعرف لك شروطاً، ولكن دعنا نكلِّف لجنة لكي تبحث مسائل أخرى، وندع المسائل الأخرى للمستقبل، فأُلِّفت لجنة كان فيها اللواء عبد الماجد حامد خليل واللواء عمر محمد الطيِّب والدكتور عمر نور الدايم وبكري أحمد عديل، وبحثت هذه اللجنة مسألة استرجاع الدائرة ومبانيها، ومحلج ربك ومعصرة ربك، ومسائل ماليَّة وماديَّة لا عللاقة لها إطلاقاً بالكفاح الوطني ولا بمسيرته؛ كل هذه المحالج كانت موجودة عندما دُمِّرت الجزيرة أبا، ولم يعبأ بها شخص إطلاقاً. ويستطرد الشريف حسين الهندي قائلاً: "هذه المفاوضة الآن هي مفاوضة لاسترجاع ممتلكات أو إيجارات ممتلكات، أو مسائل ماديَّة خاصة، أو تعويضات أو مزارع جماعيَّة، أو مزارع أخرى، أو ما فات السيِّد الصَّادق أن يشترك فيه في مسالب ومكاسب هذا النِّظام طوال العشر سنوات السابقة؛ لم تكن هناك مصالحة وطنيَّة إطلاقاً، ولا يستطيع أن يدِّعي السيِّد الصَّادق المهدي أنَّ هناك مصالحة وطنيَّة؛ هناك مصالحة شخصيَّة حول محالج ودوائر وممتلكات لا علاقة لها بمسيرة الحركة الوطنيَّة."(6)
وفي شهادة أخرى يقول الأستاذ كمال الدِّين عبَّاس المحامي: "عندما انتهى نظام جعفر محمد نميري كُوِّنت عدداً من اللجان من المستشارين في ديوان النائب العام للتحقيق في موضوع انقلاب نميري؛ وكانت الأسئلة حول كيف قام وما هي الأخطاء التي ارتكبها نميري، وكيف تمَّت، ومن المسؤول عنها. ومن ضمن هذه اللجان لجنة برئاسة المستشار محمد سعيد بدر، من أهل حلفا، وعدد من المستشارين. وأما أنا فقد كنت مستشاراً في ديوان النائب العام منتدباً للعمل في المملكة العربيَّة السعوديَّة في الشركة العربيَّة لتنمية الثروة الحيوانيَّة التابعة للجامعة العربيَّة، وقد جئت من السعوديَّة لمقابلة النائب العام بغرض طلب مد فترة انتدابي. ولكن طلب مني المستشار محمد سعيد بدر زيارة الوزير عمر عبد العاطي، الذي كان يشغل منصب النائب العام. ويتابع الأستاذ كمال الدِّين حديثه: "وأثناء تجاذب أطراف الحديث التفت محمد إلى وكيل الوزارة، وقال له ماذا حدث في لجان التحقيق في ثورة مايو؟" جاء رد الوكيل له: "ظهر أنَّ الصَّادق المهدي كان له دور أو فعل في قيام الثورة، وكان متآمراً مع مجموعة جعفر نميري، وكانت مفاجأة لي." ولكن من داخل بيت المهدي كانت تأتي الأخبار، وكان الوكيل يؤكِّد صلة الصَّادق المهدي بالحركة التي قام بها نميري وضبَّاطه؛ ومن ثمَّ قرَّرت مقابلة محمد سعيد بدر للتأكُّد أكثر منه شخصيَّاً، فأكَّد لي أنَّ الصَّادق كان غارقاً في هذا الانقلاب المايوي حتى الثمالة، وكان جالساً خالفاً رجليه منتظراً أن ينادوه ليتولَّى رئاسة الوزراء."(7)
عل أيِّة حال، فقد علم كمال الديِّن عبَّاس أنَّ جنديين كانا في خور عمر أثناء تنوير الرائد خالد حسن عبَّاس والرائد أبو القاسم هاشم للضبَّاط وصف الضبَّاط والجنود قبل التحرُّك للقيام بالانقلاب. في تلك الأثناء تسلَّل اثنان من الشاويشيَّة، وكانا من الأنصار، زحفاً على بطنيهما حتى هربا من المعسكر وقصدا بين الصَّادق المهدي جرياً تارة، وعلى لوري تارة أخرى، فأنزلهما السائق الذي لم يدر ما يجري بالقرب من نادي الهلال. فمن هناك أخذا عربة أجرة (تاكسي) تارة ثالثة وأتيا الصَّادق المهدي، ووجداه جالساً في الطابق الأعلى منفرداً وأخبراه أنَّ قوَّاتنا تمَّ تنويرها للزحف نحو الخرطوم للقيام بعمل انقلابي، وربما بدأوا التحرَّك الآن، فأتيناك أن تتصل بوزارة الداخلية ووزارة الدِّفاع والمسؤولين الآخرين لوقف هذا التحرُّك. وقال لهما الصَّادق أصمتا، إنَّ هذا الانقلاب هو انقلابنا، ووعدهما بأنَّه سوف يتَّصل بضبَّاطهما ليعفوا عنهما هذا الهروب من المعسكر. فلم يخطر الصَّادق أحداً إطلاقاً بأنَّ هناك انقلاباً قائماً حتى قيام الانقلاب. ويوضِّح الأستاذ كمال الدِّين عبَّاس بأنَّه كان نائب السكرتير العام لحزب الأمة، وكان أعضاء الحزب يأتونه بهذه الأخبار، لأنَّهم كانوا يثقون به ولا يكادوا يثقون في السكرتير العام للحزب. من السَّرد أعلاه يتَّضح الدور الفعيل للصَّادق المهدي في نجاح الانقلاب لأنَّه كان شريكاً فيه، وإلا لأوقف التحرُّك كما طلب منه الجنديان الأمينين والصادقين.
ففي اليوم التالي للانقلاب، أي يوم 25 أيار (مايو) 1969م، كان الصَّادق المهدي وعبد الله نقد الله ومعهما بعض شبان حزب الأمة يجلسون في بيت المهدي، وجاءهم في هذا الصالون اللواء (معاش) مقبول الأمين الحاج وزير الداخلية في عهد حكومة الفريق إبراهيم عبود (1958-1964م)، وصاح فيهم اللواء مناديَّاً: "يا صادق، يا نقد الله ما تخلوها تكسح (بهذا اللفظ)، أنتم لديكم جماعة كانوا في الجيش وهم (الآن) خارج الجيش، ويستطيعون أن يضربوا الرصاص، أعطوني منهم 150 فقط وأنا استطيع أن أجد السِّلاح واسترد لكم نظامكم الدِّيمقراطي في ساعات." فردَّ عليه نقد الله: "الأولاد ديل (يقصد نميري وجماعته) أولادي وفي جيبي، وذلك لكي يؤكِّد للصَّادق أن الخلل الذي حدث في تعريف الوزارة، لأنَّ اسمه لم يظهر كرئيس للوزراء، سيُصحح."
لا شك في أنَّ هناك من يعتقد أنَّ الصَّادق قد رفض قبول هذا العرض السخي من الواء (معاش) مقبول حاج الأمين توجُّساً وخيفة من أن ينفرد الأخير ورهطه من العسكر بالسُّلطة، ولكن كان الصَّادق يأمل في أعظم ما يكون الأمل في أن يتبوَّأ مقعداً في السُّلطة الجديدة، ويستعظم بحقيبة رئاسة الوزراء، التي طالما وعده بها عسكر مايو. وفوق ذلك كله هي الحقيبة التي طالما ذُكِرت اشتهت إليها غريزة الصَّادق السُّلطويَّة، واشتاقت إليها نفسه المولعة بالتحكميَّة. وقد قيل إنَّ حبُّ الرئاسة لسقم لا علاج له، وغالباً لا يجد المرء من ذا الذي يكون قانعاً بالقسم المكتوب له، حتى قيل:
حُبُّ الرياسة داءٌ لا دواءَ له
وقلَّ ما تجد الرَّاضين بالقسَمِ

ولم يخل زمن من الأزمنة من هذه الطَّبقة؛ فقد هلك من هلك من الأمم فيما سلف بحبِّ الرئاسة منذ نشأة المجتمعات البشريَّة، وما يزالون في هلاكهم إلى أن تقوم السَّاعة، وذلك بولعهم بحب التسلُّط على النَّاس بالأمر والنَّهي وما على الآخرين إلا السَّمع والطاعة، فتنثني إلى أقوالهم الأسماع وهي رواغم. وفي ذلك بناءً على مفهوم الإطلاق في الطاعة لأولي الأمر، وعدم جواز النسبيَّة فيها. وهو المفهوم الذي كان الحكَّام الأمويُّون يدأبون على ترويجه، وعلى أساسه كانوا يطالبون المسلمين بطاعتهم طاعة مطلقة في الخير والشَّر. وفي هذا الأمر قال قائلهم:
هَلاكُ النَّاس مُذ كانوا
إلى أن تأتي السَّاعة
بحُبِّ الأمر والنَّهي
وحُبِّ السَّمع والطاعة

فعلى غير ما اشتهاه الصَّادق خاب مسعاه طالما انتظر السانحة الذهبيَّة إيَّاها بشق الأنفس، وما هي إلا أشهراً حتى وجد الصَّادق نفسه مع سكرتير الحزب الشُّيوعي السُّوداني عبد الخالق محجوب في طائرة واحدة منفيين إلى مصر.
وفي موضع آخر ذكر كمال الدِّين عبَّاس المحامي – فيما ذكر – أن المعلومات الأخري التي جاءته لتوكيد ضلوع الصَّادق في انقلاب نميري قد أتته من اثنين كانا يعملان في بيت الصَّادق المهدي وهما حسين جلال الدِّين والطيِّب نور الدِّين، وكانا يعملان منذ طفولتيهما ومنذ أيام السيِّد الصديق المهدي (والد الصَّادق) ثمَّ عاصر الصَّادق المهدي. يقول الأستاذ المحامي: "فقد ذكرا لي أنَّه في يوم الانقلاب، وقبل صلاة الصُّبح وقبل أن يُذاع أي خبر عن الانقلاب، جاءتهم والدة الصَّادق المهدي واسمها رحمة عبد الله جاد الله، وطلبت منهما بعد الصَّلاة أن يلبسا أرقى ما عندهما وأن يضعا مسدَّسيهما في جيبيهما، ويقفا وراء الصَّادق، لأنَّه سيحدث انقلاب وسيأتون إليه أناس قد لا نعرفهم، وجاء أولاً عبد الله نقد الله، وقال للصَّادق المهدي بصوت خافت وبرغم من ذلك سمعنا ما قال له، أي أنَّ الجماعة ديل سوف يجوك، ووجَّهنا النَّاس أن يأتونا في بيت المهدي. وبعد قليل سمعنا طرقة على الباب، وإذا هناك ثمة ضبَّاط يريدون مقابلة الصَّادق المهدي، ثمَّ إذا هم يقولون: "لقد أرسنا إليك جعفر محمد نميري وهو يقول لك لقد ألَّفنا الوزارة، ولكن تركنا لك ثلاث خانات شاغرة لكي تملأها أنت بمعرفتك. فغضب الصَّادق وقال لهم أذهبوا وقولوا لنميري إنَّ الاتِّفاق ما كان على كده (لم يكن الاتِّفاق هكذا)، الاتِّفاق كان على شيء آخر." وقد عرف الأستاذ كمال الدِّين عبَّاس المحامي أنَّ نقد الله كان هو الشَّخص المتولِّي عمليَّة الاتِّصال بين نميري والضباط الذين كانوا معه من ناحية وبين الصَّادق من ناحية أخرى، وهو الذي وضع شروط الاتِّفاق. ومن هنا يقول عبَّاس إنَّه علم أنَّ شروط الاتِّفاق – أي الشيء الآخر - بين نميري ومجموعته من جانب، وبين الصَّادق المهدي من جانب آخر هو أن يتولى الصَّادق حقيبة رئيس الوزراء. "لذلك – والحديث هنا ما يزال للمحامي عبَّاس – لم اندهش كثيراً أن يكون للصَّادق دور خطير وأوَّلي في عمل انقلاب نميري، ولكن حين نجح الانقلاب تنكَّر نميري للصَّادق المهدي وعبد الله نقد الله، واتَّجه متقرِّباً إلى الحزب الشُّيوعي السُّوداني."(8)
هذا، فقد ورد إلى مسامعنا أخيراً أنَّ الأستاذ كمال الدِّين عبَّاس المحامي قد نشر كتاباً ضخماً يتألَّف من 1.500 صفحة عن سيرة الصَّادق المهدي السياسيَّة، حيث أورد – فيما أورد – نماذجاً عن سلوك الصَّادق ومسؤوليَّته السِّياسيَّة فيما حلَّ بالبلاد من الكوارث والنِّزاعات. بيد أنَّنا لم نعثر على نسخة من هذا التأليف، وقد بحثنا عنه في طول البلاد وعرضها دون جدوى، مما طفقنا نتساءل في أنفسنا ونسأل غيرنا أين اختفى كتاب ابن عبَّاس عن الصَّادق المهدي؟ أجل، فلا يغرنَّكم ما يكتبه سليل المهدي في الكتب المنشورة، أو يقوله تصريحاً في الصُّحف السيَّارة، أو يتنظَّر به في دور الإعلام المرئيَّة والمسموعة والمقروءة، فإنَّ أحاديثه لمتناقضة، وحججه مرتدة ومنطقه معوج، وكلها لا تقف على بيِّنة من أمرها، وهي بعد كل شيء وقبله كالغرابيل التي لا تحمل ماءً. ولعمري ما لهذا الزعيم لا يكاد يستقر على مبدأ واحد برغم مما ادَّعى من مبادئ! ولعل الشَّاعر المسرحي الإنكليزي وليام شكسبير (1564-1616م) كان محقاً حين قال: "إنَّ البعض ولد عظيماً، والبعض الآخر حقَّق عظمة، والبعض الثالث وجد العظمة مقذوفه إليه،" وكان الصَّادق المهدي من أولئك الذين وجد العظمة مقذوفة إليه لأنَّه من أسرة آل المهدي.

 

آراء