الصَّادق المهدي.. تجلِّيات زعيم طائفي (7)

 


 

 

 

 

shurkiano@yahoo.co.uk

الصَّادق المهدي وحقوق الإنسان المفترى عليها

مهما يكن من شأن، ففي يوم واحد 27-28 أذار (مارس) 1987م قُتِل 1.500 من المدنيين النَّازحين من الدينكا وغيرهم في مدينة الضعين، وقد قُتِلوا بطريقة قد تجرح مشاعر الآخرين إذا أقدمنا على وصفها بالتفصيل، وذلك في حضور القاضي والجهاز التنفيذي وشيوخ القبيل المعتدي، أي الرزيقات، وفي حضرة حكومة رئيس الوزراء الصَّادق المهدي، والبرلمان الدِّيمقراطي. وبعد أن اجتهد الدكتوران عشاري أحمد محمود خليل وسليمان علي بلدو في تدوين تلكم الأحداث المأسويَّة في كتاب "مذبحة الضعين والرِّق في السُّودان"، فإذا بحكومة الصَّادق تصف من دقوا ناقوس الخطر ونبَّهوا السلطات إلى هذه المذبحة بأنَّهم طابور خامس، فقط لأنَّهم سلَّطوا الضوء على أحداث وتفاصيل المذبحة. ومن ثمَّ اشتاط الصَّادق غضباً، وشعر بشيء من غريزة الانتقام يدبُّ في أوصاله، ومن ثمَّ تحدَّث في إحدى اللقاءات العامة بأنَّ الكتاب أساء إلى سمعة الدولة، مما اضطرَّ الدكتور عشاري أن يرد عليه بالقول ليس هناك ثمة ما يُسمَّى بسمعة الدولة، بل سمعة الحكَّام. وحين لم تحتمل حكومة الصَّادق هذه الحقائق الدَّامغة اعتقلت الدكتور عشاري وخُضع لاستجواب بوليسي، وتركوا القتلة الجناة أحراراً.
وبعد أن سفَّه الصَّادق تقرير الدكتورين الموقَّرين بأنَّه غير دقيق وغير علمي ومسيء للسمعة شكَّل الصَّادق "لجنة شعب الرزيقات لتوضيح الملابسات حول حادثة مذبحة الضعين" برئاسة أحد أعيان الرزيقات أحمد عقيل، وهو الذي كان نائباً برلمانيَّاً لحزب الأمة، وممثِّلاً لدائرة الرزيقات في الجمعيَّة التأسيسيَّة. فكيف يكون من شأن مَنْ استغنى عنك أن يقيم عليك! ومنذ المبتدأ كانت اللجنة منحازة لقبيل الرزيقات، لأنَّ المتَّهم أصبح حكماً في القضيَّة. إذ ادَّعت اللجنة – فيما ادَّعت – أنَّ الرزيقات كانوا في طريق عودتهم إلى ديارهم (من إغارات شنوها على قرى الدينكا في تخوم بحر الغزال، حيث تكبَّدوا خسائر فادحة في الأرواح)، فجاءوا حاملين موتاهم إلى ديارهم، وكان النَّازحون الدينكا في كنيسة المدينة يتمتَّعون بالوليمة ويستمعون إلى خطاب مسجَّل للدكتور جون قرنق، وحدث اشتباك بينهم وبين الدينكا. وكذلك شكَّكت اللجنة في عدد الضحايا من الدينكا، حيث أورد تقريرها بأنَّ موتي الدينكا كانوا 210 بينما فقد الرزيقات 14 من ذويهم، ثم كذلك أدَّعت اللجنة أنَّ الأرقاء هم في الأصل أسرى الحرب، وليسوا برقيق للبيع. هذه كلها افتراءات على الحق، وكذب بوَّاح باستثناء ما وضعناه بين المعكوفتين أعلاه. بيد أنَّ اللجنة كانت قد فشلت في أن تأتي بتفسير مقنع كيف تمَّت مجزرة النَّازحين الدينكا بدمٍ بارد، وتمَّ أخذ أطفالهم وبيعهم كعبيد. ومع ذلك، أسمَّت اللجنة المذبحة حرباً، والضحايا أسرى حرب! هذا التقصي الانحيازي للحقائق قد برَّأ الرزيقات من أي لوم. إذ أنَّ هذه اللجنة التي كانت مكوَّنة من ممثِّلي الحكومة المحليَّة والشرطة والجيش لم يكن متوقعاً منها أن تنصف ضحايا الدينكا في شيء. برغم من هذه العدالة الزائفة (Travesty of justice) وقف الصَّادق المهدي إلى جانب الرزيقات لأنَّهم يمثِّلون قبيلاً هو العمود الفقاري لحزب الأمة حزب رئيس الوزراء الصَّادق المهدي، مما جعله يبدو وكأنَّه شيخ قبيل الرزيقات وليس بزعيم قومي. إذ أنَّ تعامل الصَّادق مع هذه المأساة الإنسانيَّة وبهذه الصُّورة الظلوم يعكس شيئين: إما أنَّ الصَّادق لم يكن يهمَّه أمر هؤلاء الضحايا البؤساء، أو أنَّه كان موافقاً سكوتيَّاً على أفعال ميليشيات الرزيقات ضد جزء من المجتمع السُّوداني.

على أيِّة حال، فقد انشرح صدرنا حين قرأنا بأنًّ الدكتور عشاري بصدد نشر كتاب عن قصَّة طباعة "مذبحة الضعين والرِّق في السُّودان"، وكذلك نُقل إلى مسامعنا أنَّه بصدد إصدار طبعة ثانية منقَّحة عن الكتاب إيَّاه، حتى يقرأه الجيل الحالي والأجيال القادمة، وذلك ليعرفوا شيئاً عن أفعال الإنسان الجمعيَّة المشينة، وما يمكن أن تفضي إليه العقول الإجراميَّة، وليأخذوا الدُّروس والعبر من التأريخ، ومن ثمَّ ليدركوا مدى الإحساس بفقدان العدالة والظلم الواقع على المهمَّشين في السُّودان.

وهل انتهت تجاوزات حقوق الإنسان المصنَّف إفريقيَّاً عند ذلك الحد حد الضعين؟ كلا! ففي العام 1988م نًشِر تقريراً مكوَّناً من 25 صفحة بعنوان "مذبحة السُّودان السريَّة.. انتهاكات حقوق الإنسان في الحرب الأهليَّة" (Sudan’s Secret Slaughter: Human Rights Violations in the Civil War). إذ تمَّ تجميع التقرير خارج السُّودان باستخدام مواد من عددِ من المصادر العليمة داخل البلاد. ولأنَّه كان من المعلوم مسبقاً ردة فعل الخرطوم العدائيَّة في أشدَّ ما تكون العداوة والبغضاء تجاه التقرير، أمسى كُتَّابه غير مسمِّين. وبما أنَّ التقرير اعتمد على معلومات مؤكَّدة، فقد شدَّد كاتبوه في ديباجته أنَّ هذا العمل ليس مصدره أيَّة مجموعة معارضة، أو حزب سياسي معارض، أو فصيل حركة متمرِّدة، أو حكومة إقليميَّة منافسة، علاوة على ذلك إنَّه لم يكن مدفوعاً بأيَّة نزعة سياسيِّة أو دينيَّة أو إقليميَّة أو عرقيَّة.

وقد اصطبغ التقرير صورة مأسويَّة للحرب الأهليَّة الضارية حينئذٍ، والتي فاقمت ضراوتها أعمال الجيش السُّوداني وميليشياته القبليَّة المتحالفة معه. وكان يبدو أنَّهم ينفِّذون إستراتيجيَّة مخطَّطة بدقَّة ضد المدنيين الجنوبيين، حتى يتم تدمير أيَّة فرصة لمعاونة أو مساندة الجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان. وكانت هذه الإستراتيجيَّة تشمل – فيما تشمل – سياسة الأرض المحروقة في قلب بلاد الدينكا في بحر الغزال، والنَّهب، وتدمير كل ما ليس له قيمة أيَّاً ما كان، والقتل على نطاق واسع، وممارسة التعذيب. وقد ذكر التقرير أنَّ مهندس هذه الإستراتيجيَّة هو وزير الدولة بوزارة الدِّفاع اللواء فضل الله برمة ناصر، والقائد العسكري في إقليم بحر الغزال اللواء أبو قرون. وحسبما جاء في التقرير فإنَّ الأخير كان يُعرف ب"القاتل" تارة، و"شيطان القوات المسلَّحة السُّودانيَّة" تارة أخرى، و"هتلر" تارة ثالثة وسط ضبَّاط الجيش في الخرطوم. ولعلَّ المعين على الغدر شريك الغادر، كما أنَّ شريك الفجور شريك الفاجر.

وقد بدت المنطقة حول بحر الغزال أكثر المناطق تضرُّراً من هذه الحملة. إذ تمَّ تقسيمها إلى جزئين: الجزء الغربي وهو الجزء الذي كان يسيطر عليه الجيش السُّوداني وميليشياته من قبيل الفرتيت المتحالف معه، والجزء الشرقي الذي كان تحت إشراف قوَّة من الشرطة الدينكا. وقد أورد التقرير تفاصيل الأحداث التي وقعت حول المدينة خلال العام 1987م، والتي تمَّ تأكيدها بواسطة عناصر مستقلة، أو شهدها شهود عيان، أو دوَّنها أحد أو أكثر المصادر من ذوي الثقة.

على أيَّة حال، فقد تضمَّن التقرير – فيما تضمَّن – أنَّه في 20 حزيران (يونيو) 1987م تمَّ العثور على 18 فرداً من قبيل الدينكا موتى في منطقة لوكولوكو في مدينة واو، وقد تمَّ الامتثال بجثامينهم، حيث لم يتم العثور على رؤوسهم وأعضائهم التناسليَّة، وكذلك تمَّ بقر بطون النِّساء الحبلى. وفي آب (أغسطس) شكَّلت الرتب الدنيا في الشرطة (جلهم من الدينكا) فرق القتل لتصفية الفرتيت. وفي يوم 11 آب (أغسطس) أشرف اللواء أبو قرون شخصيَّاً على حملة التفتيش في منطقة واو، والتي كان يسكنها الدينكا، وذلك كردَّة فعل للقذف الصاروخي الذي تعرَّضت له المدينة. ومن لم يكن يملك أوراقاً ثبوتيَّة في تلك الأثناء كان يتم اعتقاله وإطلاق النار عليه بواسطة الجيش، وتمَّ كذلك حرق بيوت عديدة، ونهبها. إذ لم تتسن معرفة العدد الإجمالي للقتلى، ولكن جاء في تقرير الشرطة أنَّها عثرت على 89 جثة، وقد أُحضِر مئات منهم باللواري إلى شاطئ النهر، وأُطلِق عليهم النار بواسطة مدفع رشاش، وأُلقيت جثامينهم في النهر. وقد أمسى ذلكم المنظر أشبه بما قاله الشَّاعر الروماني فيرجيل في (Aeneid)، حينما تحدَّث عن نهر التايبر وهو ممتلئ برغوة دماء غزيرة (The River Tiber foaming with much blood). كما أُجبِر أطفال الدينكا، الذين تراوحت أعمارهم ما بين 6-10 سنوات، على قتل ذويهم بالحراب، وتمَّ وضع 62 شخصاً في مخزن الذخيرة الفارغ، وقُتِلوا اختناقاً بالغاز بواسطة الجيش عن طريق أنبوب عادم موصول إلى عربة نقل للجيش. وقد أقرَّ شهود عيان رؤيتهم لشفاه حمراء لجثامين الضحايا، وكان ذلك دليلاً على التسمُّم بواسطة أوَّل أكسيد الكربون. أما القائمة الجزئيَّة للمفقودين أو القتلى فقد بلغ تعدادهم 1.132 شخصاً، وقد زعم أبو قرون أنَّ الجيش قد قتل ثلاثة إرهابيين فقط.

وفي يوم 6 أيلول (سبتمبر) قتلت الشرطة العسكريَّة مدنيين جنوبيين، حيث لم تتسن معرفة عدد القتلى، ولكن جمعت الشرطة جثامين تراوح تعدادها ما بين 310-350 جثة، حيث شوهد أربعة لواري تابعة للجيش، وهي محمَّلة بجثامين أغلبها لمواطنين من الدينكا. كذلك لقد شوهد ما بين 100-150 شخصاً كان يتم قتلهم والإلقاء بجثامينهم في النهر، وكان قد تمَّ قتل كثرٍ من النازحين، الذين أقاموا وسط المدينة، بالرصاص بواسطة الجيش ودهسهم بالمدرَّعات؛ وكذلك أفاد أحد كبار الضبَّاط أنَّ 560 منزلاً قد تمَّ حرقها أو تدميرها بواسطة المدرَّعات، وفي بعض الأحايين مع وجود النَّاس بداخلها. إذ قدَّر أحد كبار ضبَّاط الشرطة أنَّ تعداد القتلى بلغ أكثر من 2.000 ضحيَّة.

مما سبق سرده، تجدر الإشارة هنا إلى أنَّ حياة الإنسان الجنوبي في ذلك الرَّدح من الزمان أمست رخيصة لا تسوى شيئاً، وكان من اليسر يسراً التخلُّص منه. لقد قُتِل أولئك وهؤلاء دون أن يخوضوا معركة، وكان لسان حال الذين أسعفهم الحظ أن يبقوا على قيد الحياة يقول: "دعنا لا نصل إلى هذا الوضع مرَّة أخرى، حتى نسجد للجلاد لقتلنا دون المقدرة على الحرب من أجل حياتنا." فيا تُرى كم من الزمن كان يقضيه هؤلاء القتلة في تصفية ضحاياهم.. ربع الساعة، عشرين ديقيقة أم أكثر من ذلك. على أيٍّ، لم نكد نجد وصفاً لنعت هذه الجرائم غير عبارة "تفاهة الشَّر أو ابتذال الشَّر" (Banality of evil).
وفي يوم 22 تشرين الأوَّل (أكتوبر) هاجمت ميليشيات الفرتيت، التي كانت متحالفة مع الجيش، مركز الشرطة في مدينة واو بواسطة المدرَّعات. كذلك أورد التقرير ظروفاً مروِّعة عن مئات الآلاف من النازحين الجنوبيين، الذين أخذوا يفرون من المنطقة متوجِّهين شمالاً صوب الخرطوم، التي أمست تحيطها 40 معسكراً للنازحين، حيث بلغ تعدادهم ما يفوق المليون شخص، ولجأ البعض الآخر إلى إثيوبيا. وقد زعمت الحكومة بوجود طابور خامس من مؤيِّدي الحركة الشعبيَّة والجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان وسط النازحين، مما باتت الحكومة تقوم بمضايقتهم والتحرُّش بهم.

واختتم التقرير بملخص مفاده أنَّ وجود هذين الضابطين الرفيعين يعد بمثابة الموافقة على الاغتصاب والانتهاب والتعذيب والقتل الجماعي كتكتيكات مشروعة ضد المدنيين الأبرياء الذين شاءت الأقدار أن يكونوا في موقع الحرب، ولم يكن ذلك من صنعهم. ثمَّ استطرد التقرير مضيفاً إنَّه لمن المأساة أنَّ السُّودان الذي كان يُنظر إليه داخل الإقليم بأنَّه قلعة التسامح، وحسن المزاح في وجه التناقضات ها هو الآن يتمزَّق شرَّ ممزق في شكل حرب أهليَّة موحشة. إذ كان أكثر الأمور إيلاماً وكآبة أنَّ حكومة الصَّادق كانت قد سمحت لهذا الوضع أن يستمر في بلد قام سكانه بخلع رئيسه الديكتاتوري، وإبدال نظامه بواحدٍ من الدِّيمقراطيَّات التعدُّديَّة القليلة في إفريقيا.(40) ذلكم هو الصَّادق المهدي وها هي حكومته يومذاك، وهو الذي أمسى يقول لمحاوريه إنَّه لمؤمن بضرورة أن تكون السِّياسة "شيئاً رحمانيَّاً"، أي أن تخلو من عناصر الضَّرر والخبث. ثمَّ هذا ما كان من أمر المخطَّط الذي نفَّذه من جعلوا من إراقة الدِّماء تجارة مربحة، ومن اتَّخذوا من العنصريَّة وإزهاق الأرواح عقيدة مسلَّماً بها. بعد كل هذا الذي حدث في عهد حكمه لا يمكن أن يكون الصَّادق المهدي مؤهلاً في الكلام عن حقوق الإنسان، وما حدث في الجنوب بعد إخلاعه عن الحكم ما هو إلا امتداداً للسِّياسات القميئة التي اعتادت عليها الحكومات المتعاقبة على السلطة في الخرطوم منذ أحداث توريت في 18 آب (أغسطس) 1955م بما فيها حكومتي الصَّادق نفسه في الستينيَّات والثمانينيَّات من القرن المنقضي.

وفي فترة حكومة الصَّادق المهدي (1986-1989م) شهدت منطقة جنوب النيل الأزرق نشاطاً عسكريَّاً، وموجات نزوح ولجوء، وبخاصة إلى دولة إثيوبيا. ففي العام 1986م تمَّ تمليش وتسليح عرب رفاعة البدو مع بعض المجموعات الإثنيَّة الأخرى حول القطاع الأوسط الفاصل بين شمال السُّودان وجنوبه، وباتوا يخدمون كعملاء للحامية العسكريَّة للقوات المسلَّحة السُّودانيَّة في المنطقة أولاً، ثمَّ شرعوا في إشباع رغباتهم الإجراميَّة ومصالحهم الذاتيَّة ثانياً. وفي هذه الأثناء أخذوا يختطفون الأطفال من الجنسين الذكر والأنثي، ويغتصبون النِّساء في منطقة بليلة، ثمَّ كان الرِّجال يُقتلون على التو أثناء قدومهم من المشاريع الزراعيَّة في جبل بوت. إذ كان المستهدفون على وجه الخصوص إثنيَّة أدوك، والإثنيات غير العربيَّة الأخرى على وجه العموم. عليه، قتلت هذه القوات المتمليشة رجلاً من إثنيَّة مابان بعد الضرب المبرح، وكانت آثار التعذيب بائنة عليه، وجيء به إلى مصيره الحتمي وهناً على وهن. وكذلك قتلت الميليشيات العربيَّة حاجكو قنقوش، والذي كان يعمل في مركز صحي واديقا، أمام الشرطة. وحين استطاع الجيش الحكومي إطلاق سراح الأطفال المختطفين من قبل ميليشيات عرب رفاعة لم يتمكَّن من تحرير طفلين حيث بقيا مع الشيخ الناير الكنيتة شيخ رفاعة، وباتا يرعان أغنامه ويخدمانه كعبيد في الأعباء المنزليَّة دون أجر. وبعدئذٍ سرعان ما أخذ جنود الحكومة ينافسون الميليشيات المسلَّحة في القبض على النِّساء واغتصابهن تحت تهديد السِّلاح، وفي ذلك كان يتنافس المتنافسون. وفي يوم واحد من إحدى الأيَّام قُتل 308 شخصاً مدنيَّاً أعزل، كان 300 من قبيل أدوك و8 من مابان.

وفي منتصف شباط (فبراير) 1987م حدثت مناوشات عسكريَّة بين الجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان والقوات الحكوميَّة في خور بودي بالقرب من شالي. وما هي إلا أسابيع – في نهاية أذار (مارس) – حتى تحرَّكت قوات الحكومة من شالي جنوباً صوب وادي دقة في إقليم أعالي النيل "للنظافة"، وهي تعبير عسكري يعني تمشيط المنطقة من التمرُّد والمتمرِّدين، وتحذير القرويين بأنَّهم ستحرق قراهم إذا احتمى المتمرِّدون بهم، أو حاول الأوَّل احتماءهم أو مساعدتهم في شيء. وكانت تلك الحملة بالتنسيق مع إغارة شنَّتها العرب البدو من شالي إلى بليلة، وقتلوا كثراً من القرويين، وكذلك تمَّ استئصال منطقة بان قايو – وهي إحدى قرى أدوك – استئصالاً تاماً من ساكنيها. ومن أمثلة صنوف التَّعذيب تمَّ ربط صبي يُدعى تيسو في شالي، وتمَّ تعذيبه حتى الموت؛ أما كويا بشير فعلاوة على ربطه، تمَّ سكب موية نار (حامض الكبريتيك) من بطاريَّة عربة على يديه، لتحترق يداه، وبالكاد أن يتوفى إثر ذلك التعذيب المروِّع. بيد أنَّه شاء القدر أن يعيش بعد العلاج في إثيوبيا، ويقابله محدثي بعد ثلاثة أعوام هناك.

فقبل سقوط حامية الكرمك في يد الجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان العام 1987م بعام من ذاك التأريخ شهدت محليَّة الكرمك ومناطق إثنيَّة الأدوك تحديداً جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانيَّة والإبادة بواسطة الرَّائد الطيِّب المصباح. فبتوجيهات من القيادة العامة للقوات المسلَّحة السُّودانيَّة تمَّ حرق العديد من القرى جنوب الكرمك وهي مناطق شالي، حيث كان الرَّائد المصباح قائداً لحامية شالي العسكريَّة، وقام بالإشراف على حرق قرى الأدوك وهي قرى الجندي وبرفا وأليلي وبليتومة، وكذلك تمَّ قتل أكثر من مئاتين من أبناء الأدوك من الأطفال والنِّساء والرِّجال، وكذلك أحرقت القوات المسلَّحة السُّودانيَّة مخازن الغلال برغم من أنَّ قوانين الحرب تمنع تجويع النَّاس لإجبارهم على الاستسلام، حتى تداعت الأشياء بصورة لم يسبق لها مثيل، وأمست محنة النَّاس العاديين في خضم الحرب مأسويَّة، وذلك من جرَّاء كثافة إطلاق النيران على كل شيء، حتى النِّساء والأطفال، مما أحدث موجة مأسويَّة من اللجوء إلى إثيوبيا. ومع ذلك، تمَّ تكريم الرَّائد المصباح من قبل حكومة الصَّادق المهدي. هذا، فقد مات عدد من الأطفال والنِّساء غرقاً في بعض الوديان أثناء عبورهم إلى إثيوبيا، واستقرَّ بهم الوضع في معسكر تنقو بإثيوبيا. أما في قيسان فقد واجه الكثيرون تهم الطابور الخامس، ومن ثمَّ فضَّلوا الفرار أيضاً إلى إثيوبيا. إذ مثَّلت فترة حكومة الصَّادق المهدي أسوأ الفترات لانتهاكات حقوق الإنسان بولاية النيل الأزرق، حيث لاحقت تهم الطابور الخامس كل القبائل الأصليَّة في المنطقة، حتى شهدت زنازين وحراسات الاستخبارات العسكريَّة في المنطقة وفي تلك الفترة تعذيب العديد من المواطنين الأبرياء من أبناء النيل الأزرق.

بعد الاجتياح والسيطرة على مدينة الكرمك في 16 تشرين الثاني (نوفمبر) 1987م بواسطة الجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان تمَّ اعتقال الجنوبيين وأهالي الأنقسنا ورجال آخرين من ذوي السحنات اللاعربيَّة في منطقة الدمازين، وتمَّ قتل بعضهم خارج نطاق القضاء وبدم بارد انتقاماً عن هزيمة القوات المسلَّحة السُّودانيَّة في الكرمك. وقد شهدنا التلفزيون الأمدرماني يعرض أحد الجنوبيين وبه آثار الضرب على وجهه ورأسه، وجلبابه مسربل بالدِّماء، وزعمت السلطات الحكوميَّة بأنَّه اعترف أنَّه عميل للحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان؛ وما كان ذلك الاعتراف المنزوع تحت وطأة التعذيب الجسدي والنَّفسي إلا تغبيشاً لمفاهيم الشُّعب، ومحاولة يائسة من قبل الحكومة لتسويغ ما جرى عليه من تجاوز في حقِّه الإنساني وتعذيب، وهو مشروع عظيم المكر، ثمَّ كان ذلك هو ديدن الاستخبارات العسكريَّة. هذا، فقد وثَّقت الدكتورة ويندي جيميس لهذه التجاوزات المروِّعة في حقوق الإنسان عقب المقابلات الميدانيَّة التي أجرتها مع النَّازحين من المنطقة واستوطنوا في الخرطوم، ولاجئي الإقليم الذين استقرَّ بهم الوضع في معسكرات اللجوء في إثيوبيا.(41)


وللمداد بقايا،،،

 

آراء