بين “ماظ” الخرطوم و”ماظ” المكسيك”: خواطر عن روايتي “رحلة العسكري الأخيرة”: رسالة إلى “الورّاق” الأستاذ غسان عثمان

 


 

 

 

(1)


تابعت حلقة برنامجك في قناة "سودانية 24"، أيها "الورّاق" الألمعي، وأنت تحاور الأديب الدبلوماسي عمار محمود ، وقد كانت بحق حلقة مميّزة، قدمتما فيها، فيضاً من المعلومات التاريخية، وجرعات من التحليل العميق، لوقائع بيننا وبينها، ما يزيد عن المائة وخمسين عاما. .! هي وقائع إرسال كتيبة عسكرية قوامها عسكريون تمّ استجلابهم من السودان- خلال فترة حكم السودان تحت الخلافة العثمانية، مشاركة بين تركيا ومصر- بغرض القتال في المكسيك لصالح فرنسا، وذلك نزولاً على رغبة امبراطورها "نابليون الثالث" .
بعيداً عن الدوافع والأهداف، فإن أبناء السودان الذين يقاتلون في اليمن هذه الأيام، يعيدون إلى الذاكرة، تجربة كثيرة الشبه بسيرة أجدادٍ لهم ، قاتلوا في المكسيك في ستينات القرن التاسع عشر الميلادي. .بعض مشاهد التاريخ تستنسخ نفسها ، كما قد ترى معي. .


(2)
لفت نظري أنكما اتفقتما، أن الإبداع السوداني لم يستلهم تلك الوقائع ، فيما سبقنا الإبداع المصر لاستلهامها ، فكتبت "سلوى بكر" روايتها "كوكو سودان" ، ثم محمد المنسي قنديل في روايته "كتيبة سوداء" ، ولا أعرف إن كان للإبداع الروائي المصري، تجربة ثالثة في استلهام وقائع تتصل بكتيبة السودانيين التي حاربت في المكسيك أواسط القرن التاسع عشر..
ولنأتي إلى روايتي"رحلة العسكري الأخيرة"، وقد أمضيت وقتا طويلا لاختمار فكرتها منذ سنوات العقد الأول من الألفية الثالثة. لا أنكر أن رواية الروائية المصرية "سلوى بكر"، لفتت انتباهي لقصة الكتيبة السودانية في المكسيك وللتفاصيل التي أوردها على صعيد التوثيق، الأمير المصري "عمر طوسون" ن في كتابه الذي صدر في ثلاثينات القرن العشرين عنها. ولأني لاحظت مروركما، أنت وضيفك الأديب الدبلوماسي، مرورا سريعاً على روايتي "رحلة العسكري الأخيرة" (2013)، فقد عنّ لي أن أعلق على حديثكما، بما لا يقلل من قيمة حلقة "الوراق" عن تلك الكتيبة، بل لحثك لي أن ألقي شيئاً من الإضاءة عن تجربتي في كتابة تلك الرواية.


(3)
أول ما استوقفني-قبل سنوات- هو مبادرة الروائيين المصريين في استلهام تلك الوقائع، فيما لم أجد عملا ابداعياً سودانياً عنها . ثمّة كتابات كثيرة بأقلام سودانية ، ولكنها كانت أشبه بتقارير توثيقية لتلك التجربة الفريدة. ثم بدأ اهتمامي بظاهرة الجنود السودانيين الذين استجلبتهم مصر، ليكونوا جزءاً من الجيش المصري. ذلك كان بالطيع يتصل بتجارة الرقيق التي شارك فيها تجار مصريون وسودانيون. من تداعيات تلك التجارة المنكورة، استغلال حكام مصر لأعداد منهم وتجنيدهم في الجيش المصري . ليس الزبير باشا وحده من أشار التاريخ لتورطه هو وإبنه في تلك التجارة ، بل من المصريين المشهورين تاجر إسمه "العقـاد"، ولعله أحد أقرباء المفكر "الأسوانلي" "عباس محمود العقاد"، ولكني لا أجزم بذلك.


(4)
دفعني ذلك الاهتمام لمراجعة ما كتب عن ثورة 1924 في السودان، للتأكد من مقولة أن رجال تلك الثورة السودانية ، والموالين لمصر، هم من أهل الهامش أو"المنبتين" أومن ذوي أصول في أدنى السلم الاجتماعي. لم ترو غليلي تلك الكتب. عدت إلى كتاب "ملامح من المجتمع السوداني" للراحل حسن نجيلة، فوجدت الكثير الكثير عن ثورة 1924، وعن "على عبداللطيف"، وعن "عبدالفضيل الماظ".
فيما أنا أراجع تلك الوقائع، فاجأني صديقي الناقد والأكاديمي البريع، الدكتور أحمد الصادق برير، فهو الذي أحالني إلى كتاب الأمير "طوسون"، بل وألمح إلى أنه لاحظ إسماً، يشابه إسم "الماظ" ورد في كتاب الأمير "طوسون". نظرت في كتاب الأمير في نسخته "العنكبوتية"، فوجدت أن إسم قائد ثاني كتيبة السودانيين التي قاتلت تحت راية فرنسا في المكسيك، إسمه "محمد الماس". ذلك نطق المصريين للإسم ، ولكننا ننطقه بحرف الظاء. تدارسنا طويلا أنا وصديقي أحمد الصادق حول الحيثيات والوقائع ، حيث كنت قد أعددت خطة لكتابة رواية عن ثورة 1924 ورجالها الذين جاء بعض رجالها من جنوب السودان، وطاف بذهنينا سؤال إن كان ثمة صلة بين عسكري المكسيك وعسكري ثورة 1924.


(5)
أعددتُ حبكة روايتي، بأن أربط بين رحلة الجد للقتال في المكسيك ورحلة حفيده الأول "عبدالفضيل الماظ" في شتاء عام 1924 ، لمواجهة قوات المستعمر في الخرطوم، ثم رحلة الحفيد الثاني للقتال في الحرب الأهلية الدائرة في جنوب السودان، وبين الرحلات الثلاث، تقع تفاصيل أحداث الرواية. . إن كان بطل روايتي سيُكلف بالقتال قي جنوب السودان، وأصوله هناك، فما أشبه رحلته إلى الجنوب، برحلة أولئك السودانيين الذين قاتلوا في المكسيك، قبل أكثر من قرن كامل هناك، لما في الرحلتين من عسفٍ وإجبار. . .
وبعد مراجعاتي لسيرة البطل "عبدالفضيل"، فوجئت بقلة ما كتب عنه في كتب التاريخ التقليدية. على أن ذلك لم يشكل عقبة ، فأنا أزمع أن أخوض تجربة كتابة، تتصل بما يسمى التخييل التاريخي، أو استلهام وقائع تاريخية في عمل روائي تخييلي. لي أن أحمّل روايتي الرسالة التي رأيت أن تتضمنها، بتوازنٍ محسوب، يراعي اتساع مساحات الخيال، وضيق مجال المناورة حول وقائع التاريخ . .


(6)
لم يصادفني رأي قاطع عن خلفية البطل "عبد الفضيل"، لكن المصادفة وحدها ، منحتني الخيط الذي كنت أحتاجه, كنتُ أجلس كثيراً إلى والدي الراحل الحاج محمد ابراهيم عمر الشقليني، فأسرّ لي وأنا أحكي له عن نيتي للكتابة عن ثورة 1924، أنه رأى البطل "عبد الفضيل" بأم عينيه، ووقتها لم يكن سن والدي قد تجاوز السادسة أو السابعة، فاستزدته أن يشحذ ذاكرته ، فظفرتُ منه بمعلوماتٍ بدت لي مذهلة، كان قد سمعها بعد ذلك. ثم أني بدأت أنبش في زواريب "المواقع الالكترونية ، فوجدت شباباً من بعض أهلي في مدينة "الفتيحاب"، قد تناولوا بصورة أوسع تفاصيل عن الذي سمعته من والدي رحمه الله . . أهديت روايتي إلى روح والدي، فقد رحل قبل صدورها بعامين. .


(7)
المفاجأة الكبرى ، هي اكتشافي أن جدي -عم والدي- هو عرّاب البطل "عبد الفضيل"، وقد ارتبط - بما لم يتأكد لي- بعقد زواجٍ عرفي مع خالة البطل "عبدالفضيل"، وهي شقيقة والدته التي توفيت و"عبدالفضيل" دون العاشرة من العمر. كفله جدّي أحمد الشــقليني ، وأشرف على تعليمه، حتى التحق بالمدرسة الحربية، وتخرج ضابطاً في حدود 1916م... وقفتُ طويلا حول التحاق "عبدالفضيل" بالمدرسة الحربية. لقد كان والده "عيسى الماظ" من بين السودانيين المجندين ضمن الجيش الغازي الذي قاده كيتشنر للقضاء على دولة "المهدية" في السودان، عام 1898 . . من القصص التي تحرّيت عنها ميدانياً، ومن مراجعتي لشهادات سماعية ، علمت أن والدة "عبدالفضيل" التي رافقت زوجها في تلك الحملة، لجأت للسكنى مؤقتاً عند شقيقتها التي تقيم في حوش كبير في منطقة "الفتيحاب"، ليس بعيداً عن شاطيء النيل الأبيض، يملكه عم والدي، وهو تاجر معروف في "أم درمان" يلقبونه بـ "ود الشقليني" .كان جدي رجلاً موسراً، حكى الشيخ "بابكر بدري" عن قصص تمويله تجار سوق "أم درمان" في تلكم السنوات. أما ذلك "الحوش" فقد خصّصه الرجل للأرامل اللائي فقدن أزواجهن في معركة "كرري". .


(8)
تلك وقائع فيها الكثير من الحقيقة ، ولكن لأني أكتب عملاً روائياً متخيلاً ، فليس هنالك ما يمنع من تجاوز الوقائع ، حتى تكون روايتي عملاً سردياً وفق اشتراطات الإبداع الزوائي، متكئاً بحرية على خلفية وقائع تاريخية فضفاضة. راجعت حبكة روايتي، فما وجدت ما يمنع أن استنشيء رابطاً بين البطل "عبدالفضيل" ، وذلك القائد الذي حمل إسم "محمد الماظ" في سيرة الكتيبة السودانية التي كتبها الأمير "طوسون" ,
في مطالعاتي وتنقيبي في كتب التاريخ ، ثمّة إشارات عن وجود أكثر من شخص – من الضباط وربما من الإداريين- يحمل إسم "الماظ"، أو (الماس) كما كتبه "طوسون". أحد هؤلاء عمل في جنوب السودان ، ولكن الضابط "عبدالفضيل عيسى الماظ"، عمل في "تلودي" بـ"كردفان"، ثم عاد إلى أم درمان، وإلى مراتع صباه في "الفتيحاب"، وقد كانت له زوجة هناك ، وله من أبناء دفعته ضباط يقيمون في منطقة "حي الضباط" و"بانت" بأم درمان، بينهم صديق له إسمه "عبدالفراج"، ظهر في روايتي . في عام 1924، قاد تمرداً يفرقته العسكرية- في رحلته الأخيرة- واستشهد في "مستشفى التهر" ، قبالة شاطيء "النيل الأزرق: ليس بعيداً من قصر الحاكم العام .


(9)
ما جاء في حلقة "الورّاق" على لسان الأديب الدبلوماسي عمار محمود ، جازماً بأن لا علاقة لـ"محمد الماظ" قائد ثاني الكتيبة التي قاتلت في المكسيك، بـ"عبد الفضيل الماظ" بطل ثورة 1924، لاختلاف القبائل التي ينتمي إليها كلاهما. أني أحسب ذلك، ومن واقع مراجعاتي، أمراً يصعب الجزم فيه بقول قاطع!!
لكن بحساب السنوات، فيمكن أن يكون لضابط في السنوات الوسيطة من القرن التاسع عشر ، حفيداً في السنوات الأخيرة من ذلك القرن، أوالسنوات الأولى من القرن العشرين. غير أني أكرر هنا أن "التخييل التاريخي" يمنحني سلطة إبداع لا غبار عليها. .
جانب مهم ولا ينبغي أن يغيب عن النظر، ويتصل بأسلوب المستعمر البريطاني في التجنيد للخدمة العسكرية. إذ لو توفرت خلفية عسكرية في أسرة المجنّد، فإنّ ذلك يعدّ ميزة تساعد في قبوله للانخراط في الخدمة العسكرية. ذلك النمط من التجنيد، عُرفَ عند المستعمر البريطاني إبان سيطرتهم على أحوال البلاد، خلال العقود الستة التي قضوها في السودان. .


(10)
أكرر قولي أن هنالك تفاصيل كثيرة في روايتي، ليست كلها خيالية، بل لأني قد أجريتُ بحوثاً ولقاءات ميدانية ومطالعات. . فتحصّلتُ على تفاصيل، ضمّنت بعضها في الرواية. .
كم وددتُ أن لو كانت روايتي أخذت حيّزاً أطول في النقاش في تلك الحلقة ، أيها "الورّاق"، بما يكمل ما ورد فيها من حديث عن كتاب الأمير "طوسون"، وما ورد فيها عن إشارات لأعمال الروائيين المصريين: الأستاذة "سلوى بكر" والأستاذ "المنسي قنديل". جدير بالذكر أني التقيت هذين الكاتبين ، وأخبرتهما عن روايتي التي تقدم استلهاماً سودانيا، من زاوية غير تلك التي عكستها روايتيهما، وكررا ذات الملاحظة عن قلة الإستلهام السودان لوقائع مدهشة مثل قصة تلك الكتيبة السودانية التي قاتلت في المكسيك. .
لك التحايا ولضيفك في حلقة "الورّاق" تلك، فقد أسعدتماني بأكثر من إسعادكما متابعي ومشاهدي ذلك البرنامج وتلك الحلقة. ولي أن أضيف ختاماً، أن في التاريخ من الوقائع ما يشكل مادة لأعمال إبداعية، يُكمل فجواتها الخيال، ولكن ذلك لن يكون بديلاً عن استجلاء حقيقة وقائع ، عبر ما يردده البعض عن ضرورة مراجعة أو إعادة كتابة التاريخ . .

الخرطوم- 8 نوفمبر 2018

 

Jamalim1@hotmail.com

 

آراء