بسم الله الرحمن الرحيم
في مقاله الأخير بالإسفيرية "سودانايل" بعنوان (الإسلاميون وجرثومة العداء والإقصاء)، ساح بنا العلامة شوقي بدري مشرقاً ومغرباً كالعادة، ومتعنا بأقصوصاته الأمدرمانية السلسة منذ عهد الصبا ببيت الأمانة الوسطى، وأيام الشباب بالأحفاد الثانوية، في الفترة 1953 – 1961 على ما أظن؛ ويبدو أن تيمته الأساس كانت تتعلق هذه المرة بإبن دفعته عبد العزيز محمد علي حميدة، وكيف أنه وقريبه عبد الرحيم حسن عثمان عليهما رحمات الله كانا صديقين لشوقي إبراهيم بدري وإخوانه، وكانا زواراً مستديمين بمنزلهم بزريبة الكاشف طوال سنوات المرحلة الوسطى، ولكن الأمر تبدل تماماً خلال فترة الأحفاد الثانوية، إذ تصرم حبل الود وقلب لهم عبد العزيز ظهر المجن ولم يبادلهم أي سلام أو كلام طوال تلك السنوات الأربع، ويرجع شوقي تلك ال"يو تيرن" للتأثير السلبي من لدن أستاذهم علي عبد الله يعقوب الأخ المسلم المتزمت (بخلاف أستاذهم الآخر المتسامح صادق عبد الله عبد الماجد، وبخلاف شقيقه المرحوم السماني التقدمي الوطني النظيف، مؤسس جامعة جوبا)؛ ويعقوب هذا هو أحد أعمدة بنك فيصل الإسلامي فيما بعد، وأحد مهندسي الممارسات الإقتصادية المافيوزية الإخوانية الأخطبوطية المدمرة منذ المصالحة مع نميري في 1977 - تلك الممارسات التى ما انفكت تنشب أظافرها في جسم السودان السياسي والإقتصادي body politic والتى أوشكت أن تُذهب ريحه وتبدد وجوده وتبيد أهله، كما حدث لأمم عديدة خلت من قبلنا.
وعبد العزيز وعبد الرحيم من أبناء سنار، وحيث أن الشيء بالشيء يذكر فقد استطرد شوقي digressed صوب المدينة نفسها، وتحدث عن بيوتها المشيدة بالطوب الأحمر بعكس أم درمان التي قال عنها صلاح أحمد إبراهيم في رثاء علي المك: "مدينته مجدولة من تراب..."، (ولعله يقصد بمباني الطوب الأحمر حي الموظفين والسوق وحي السوق والكنابي وأم عسكر وقطاطي عمال الري والورش ومصنع الأسمنت وقصر الغابات والمستشفي والمكاتب الحكومية والمدرسة الأولية بنين ومدرسة البنات والمسجد الكبير، أو كما كانت المدينة في أول أمرها، متزامنة مع قيام الخزان الذى بدأ العمل فيه عند بداية الحرب الكونية الأولى، ثم توقف بسببها، إلى أن عادوا له عام 1919 وفرغوا منه في 1925)؛ كما تحدث شوقي عن بعض أبنائها من أقربائه – أولاد أحمد العبيد صالح – وشخصي الضعيف؛ ولقد أخجل شوقي تواضعي وطوقني بأكثر مما أستحق، ولكنه على كل حال أيقظ الشجون واستثار الخيال بذكر سنار الجميلة، فصرت أتقلّب في فراشي كملدوغ الحية، ومر بخاطري شريط ذكريات تلك المدينة الساحرة، منذ الطفولة في الأربعينات والخمسينات، حتى الإنخراط في الحركة الديمقراطية التقدمية والنقابية في الستينات والسبعينات، وطافت بذهني قصيدة محمد سعيد العباسي:
أرقت من طول هم بات يعروني
يثير من لاعج الذكرى و يشجوني
وبالفعل كما، قال شوقي، فإن عبد العزيز ينتمي لواحدة من أكبر الأسر بسنار وأكثرها عراقة ورسوخاً وتديناً وبسطة في الرزق، مع الأكناف الموطأة والتواضع وحسن المعشر والتوادد مع الجيران – الحميداب القادمين أصلاً من بربر – الذين أقاموا متلاصقين ومتجاورين في حوالي خمسة عشرة بيتاً بحي السوق (أو فريق التجار، أو الجلابة) الذى أصبح إسمه هذه الأيام حي تكتوك، وهو الحي المتاخم للسوق وللمجلس الريفي (البلدية). وسنار المدينة هذه ليست "سنار القديمة" ست الإسم حاضرة مملكة الفونج التى توجد أطلالها على الضفة الغربية من النيل الأزرق وبمحازاته، وتفصلها عن "المدينة" قناتا (ترعتا) الجزيرة والمناقل. وكان إسم المدينة الرسمي والشعبي هو (مكوار) نسبة ل"أحمد مكوار"، الشخص الوحيد الذي كان مقيماً بهذا المكان عندما بدأ العمل في بناء السد عام 1916. وكما قال لي المرحوم حسن بابكر الحاج المهندس أحد رموز المدينة في الستينات والسبعينات فإن إسم "مكوار" صادف هوىً في نفوس الإنجليز الذين حرصوا على طمس وتهميش الرموز المكانية التاريخية ذت الإيحاءات الوطنية، فاستبدلوا أم درمان بالخرطوم، وبربر بعطبرة، وسواكن ببورتسودان، وسنار بمكوار، في مسعاهم لتخليق إنسان كولونيالي جديد على شاكلتهم.
وبالفعل، كان الحميداب من رواد الأعمال والتجارة، ولهم بصمات واضحة في كل الأعمال الخيرية والإنسانية الطوعية، ودافعوا بالتعاون مع رجال المدينة الآخرين عن حقوقها في خدمات الكهرباء والمياه والتعليم. وفي الحقيقة، لم تدخل الكهرباء وصنابير المياه بيوتنا في حي تكتوك إلا بعد مجئ شركة فيليب هولزمان التى حفرت قناة المناقل في أول أيام نظام الفريق إبراهيم عبود 1958/ 1964 وشركة سيمنز التى شيدت محطة كهرباء سنار بالتوربينات في 1961. وكانت سنار تشرب الماء من الأخراج التى تحملها الحمير، وكان خطباؤنا مثل عبد الوهاب محمد الشيخ يمثلون أمام كل وزير يمر بمحطة مكوار وينزلونه ويكرمونه بحفل صغير، ويرفعون له مطالب المدينة الخاصة بمياه الشرب والتيار الكهربائي والمدرسة الوسطي وسيارة إطفاء الحريق؛ ولا زلت أذكر ما قاله عبد الوهاب أول خريج جامعي بالمدينة أمام خلف الله خالد وزير الدفاع في أول حكومة وطنية عام 1954 : "نحن في سنار كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول." وسألناه لاحقاً عن معني ما قال وشرحه بتؤدة وصبر حتى رسخ في أذهاننا، فقد عمل الرجل بعد تخرجه في كلية الخرطوم الجامعية....عمل مدرساً بكسلا الحكومية الوسطي لفترة بسيطة ثم تقدم باستقالته وجاء لسنار ليعمل بالتجارة مع أخويه سليمان وعبد الرازق وأبناء عمه موسى وحسن التوم حاج يوسف، الأيقونات الإقتصادية المعروفة بكل من المدينة وسنار التقاطع، وليصبح أحد زعماء الإتحاديين بسنار ونائب الدائرة في انتخابالت 1968. وترقد سنار علي صفحة النيل جنوب الخزان مباشرة، وكان هنالك صهريج بالمدينة ومحطة توليد كهربائي هايدرولوكي صغيرة بالخزان، منذ افتتاح الخزان، ولكن خدماتهما كانتا مقتصرة فقط علي منازل الإداريين الإنجليز وحي الموظفين والمكاتب الحكومية والمستشفى والسجن ونادى الموظفين، بالإضافة لثلاث حنفيات عامة إحداها بالسوق وإثنتان بوسط المدينة ليعبئ منها السقايون أخراجهم.
ولقد ساهم شباب سنار وتجارها منذ وقت مبكر في الأعمال الخيرية الرامية لترسيخ دعائم البنية التحتية بالمدينة؛ فنذكر على سبيل المثال فصول إتحاد المعلمين المجانية للجالسين لامتحان للشهادة السودانية من منازلهم فى النصف الثاني من الستينات، كما نذكر المدرسة الشعبية الوسطى في منتصف الستينات التى كان رئيس لجنتها الشعبية عمنا المرحوم محمد علي حميدة، وسكرتيرها إبن سنار زكريا أبوجودة المهندس المقيم بمحطة الكهرباء، وكان شيوعياً معروفاً، أمد الله في أيامه؛ ولم يستنكف عمنا محمد علي المتدين للغاية عن التعاون مع زكريا علي مثل هذا البر حتى اكتملت المدرسة وتم افتتاحها، وتبعتها مدرسة البنات الشعبية الوسطى التى تزعم الجهد الشعبي الخاص بها نفر طيب من رجال الأعمال السناريين أذكر منهم المرحوم حامد حميدة وأحمد العبيد وحسن التوم حاج يوسف وجعفر والطيب الخليفة وفضل تور الدبة وعبد الله محيريق.
وأذكر سالفتين مدهشتين لعمنا محمد علي، فقد التقي والدي ذات مرة بالمسجد في عام 1952 ودعاه لشراكة في لوري جديد 6 طن ماركة بد فورد من شركة متشل كوتس، قائلاً لأبي إن مهنة التاكسي ما عادت تلائم سنه، واتفقا على أن يعمل اللوري ليس فقط في الترحيل من مدني للروصيرص وبالعكس، إنما في نقل البضاعة الخاصة بسائقه صعيداً أو سافلاً، مثل المراكب الشراعية بالشمالية؛ وبالفعل ذهب والدي للخرطوم محملاً بثمن اللوري نقداً في جيبه، وتم تصنيع التخشيبة "الصندوق" عند حدادي المنطقة الصناعية بود مدني. واستمرت تلك الشراكة لثلاث سنوات درت على والدي أرباحاً مهولة بحمد الله، اشتري منها مزرعة ب"مضربها" على الشاطي بقرية المرفع بمساحة خمسين فداناً قضي فيها باقي عمره إلى أن توفي عام 1985 عليه رحمة الله؛ وكان الحصول على مضرب لمزرعة موالح أو مشروع قطن صغير أمراً فى منتهى السهولة بكل من سنار وسنجة وكوستي في تلك الأيام. كما قامت شراكة مشابهة آنذاك بين عمنا محمد علي ورجل من رفاعة كان باشكاتب مجلس ريفي سنار إسمه عثمان عبد الرحمن، إذ جاء عمنا عثمان بتصديق مزرعة (جنينة) على الشاطئ الغربي لسنار بالقرب من سنار القديمة، وطلب من عمنا محمد على التمويل، فوافق بلا تردد على أن تتم زراعة الأشجار بشكل متساوي، آخذين في الإعتبار تقسيم المزرعة إلى نصفين متوازيين ومتساويين، واحدة لكل منهما، بعد أن تثمر الأشجار. ولشد ما حزنت عندما تم "تطهير" عمنا عثمان من المجلس الريفي بعد انقلاب مايو 1969، ومعه العديد من الموظفين بالمجلس وبعض المصالح كالغابات، للصالح العام، وسبب حزني أنه ما انفك يتهمني بتزعم تلك الحركة "التطهيرية" في سنار حيث أني كنت من الناشطين البارزين بالحركة اليسارية، ولكن، شهد الله أني كنت بريئاً من تلك التهمة بالتحديد، وكنت ضد مسألة التطهير بلا محاكمات وضد نزع الحواشات من تجار سنار (ومنهم قصابون وعمال) بمشروع السيد علي "كساب شمال"، (ومما جلب لي التهمة أن حواشتي الوالد بذلك المشروع تم استثناؤهما من النزع، ولا زالتا موجودتين حتى اليوم)؛ وبسب اعتراضي ذاك درج الرفاق على كنيتي بالبرجوازي الصغير. وهكذا، كان من الواضح أن جيل عمنا محمد علي يؤمن بأن "البياكل براه بخنق"، وعليك بصنع المعروف في أهله وفي غير أهله، فإن لم يجد أهله فالله أهله. ولم تربط عمنا محمد علي أي صلة قربى أو صداقة مميزة بهؤلاء الشركاء - أكثر من كونهم يؤدون الصلوات سوياً بالمسجد الكبير، وكونهم فقط أبناء مدينة سنار، ولا يهم بتاتاً كونهم ينتمون لتيارات سياسية أو طائفية متباينة.
وكان الحميدابي الآخر، عمنا حامد حميدة رحمه الله وأكرمه فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض، أثرى أثرياء المدينة، ومن أكبر مقاولي سدي خشم القربة والدمازين عند إنشائهما، وأحد ملاك المحلج بعد خصخصته، وصاحب بعض البنايات الإستراتيجية بالعاصمة القومية، والمباني التى استأجرها بنك باركليز بمدني وسنار وكوستي والدمازين، ومن أصحاب أكبر شركة لإستيراد الأدوية بالسودان؛ ومع ذلك ظل يمشي بين الناس في الأسواق كأحد الغبش العاديين، ويتجول راجلاً بطول المدينة وعرضها مسجلاً حضوراً جميلاً في كل مناسبات الأفراح والأتراح، يلاطف هذا ويوادد ذاك، ويتعايش مع أهل سنار بإيجابية وتفاعل، ولا يستغل سيارته الخاصة إلا للمشاوير البعيدة. وكان في غاية الإنسانية والإغداق بلا تحفظ على مشاريع النفع العام، بلا ضوضاء أو جلبة إعلامية. كان رئيساً لفرعية الحزب الوطني الإتحادي، وأحد المؤسسين الأساسيين للسينما الوطنية عام 1955 التى بذلت ملكيتها لمن يرغب من المساهين، فبلغ عددهم ثلاثين في تلك الشركة المحدودة مالكة دار السينما؛ وبنفس الطريقة أسس مع صديقه وجاره رئيس حزب الأمة عمنا أحمد العبيد، أسسا مصنع غزل ونسيج سنار في منتصف السبعينات، وساهم فيه كل من أراد من أهل سنار. ويكفي ما قدمته السينما من ترفيه بريء لشباب سنار حتى تكالب عليها الحكام الإخوان المسلمون قبل بضع سنوات، فنزعوها غصباً وبلا أدنى تعويض، ليتم تقسيمها كمحلات تجارية لرهط الوالي الإسلاموي القادمين من الريف كأنهم طوفان من الهكسوس نفخت به الحركة الإسلامية أشرعتها، من باب التمكين المتاح فقط للرهط ومنسوبي المؤتمر الوطني. ويكفي ما يسره مصنع النسيج من حركة تجارية عمت المدينة كلها وعمالة شملت المئات من سكانها، حتى نضبت الحياة فيه مؤخراً وتوقف تماماً، وتحول إلى خرابات وأطلال كسنار القديمة.
أما جرثومة الجفا والمساخة والإقصاء التى تحدث عنها شوقي بدري فهي غريبة على مجتمعنا، لا سيما مجتمع سنار موئل البر والحنان والدفء العائلي والمودة والتضامن بين الجيران. وفي حقيقة االأمر، كانت الحياة مفعمة بالخير والتكافل، ولم تطفح تمايزات طبقية صارخة بين سكان المدينة حتى ظهور مشاريع القطن الخاصة بالنيل الأزرق والنيل الأبيض؛ إذ يبدو أن الإدارة الإستعمارية أرادت أن تقدم رشي مغلفة للمثقفين وقادة الحركة السياسية وزعماء العشائر، وأن تخلق منهم في نفس الوقت طبقة كمبرادورية أرستقراطية تتفهم وتتعايش مع لغة المستعمر القادم من مجتمع رأسمالي مؤسس على التمايز الطبقي، حتى قال عنه كارل ماركس إنه عبارة عن مجتمعين وليس مجتمعاً واحداً: البرجوازية من جانب، والطبقة العاملة (البروليتاريا) من الجانب الآخر. وعلى هذا المنوال، شرعت الحكومة الجديدة التى نشأت من رحم الجمعية التشريعية عام 1948 تحت إشراف الحاكم العام سير روبرت هاو والسكرتير الإداري السير جيمس روبرتسون، المطعمة ببعض رموز حزب الأمة مثل عبد الله خليل وزير الزراعة وعلي بدري...إلخ، شرعت في منح تراخيص الإقطاعيات الضخمة بمضاربها على شاطئي النيل الأزرق والنيل الأبيض لزراعة القطن الذى طارت أسعاره للسماء في نهاية الأربعينات، خاصة بعد توقف الإنتاج الأمريكي عام 1951 بسبب الحرب الكورية. ولقد منحت تلك المشاريع لأفراد، وليس لجمعيات تعاونية، بعيداً عن أي مفهوم للإصلاح الزراعي أتت به الثورة الإشتراكية في شرق أوروبا، أو الثورة المصرية في يوليو 1952. ولقد منحت تلك التراخيص بلا أي رهن أو ضمانات، وما على صاحب المشروع إلا أن يذهب لشركة أبو العلا الزراعية بقيادة عوض حسنين أبو العلا التى تلعب دور الوسيط بين صاحب المشروع وبعض البنوك التى ولجت هذا المجال بحماس شديد، خاصة الكريدي ليونيه الفرنسي وباركليز البريطاني؛ ثم يقوم صاحب المشروع بتعيين الإدارة من مدير ومفتشي الغيط والمحاسب والصراف والباشكاتب والخفراء، وتقوم شركة أبو العلا المشرفة بشق القنوات وإعداد الحواشات وتوزيعها على سكان المنطقة المجاورة وتحمل النفقات الجارية، ويتم تقاسم الريع في النهاية حسب الكوتات المعمول بها في مشروع الجزيرة أيام شركته الزراعية Sudan Plantation Syndicate، فيكون للشركة جعل بمثابة أقساط تكلفة المشروع، وجعل لصاحب المشروع من البداية لم يضربه فيه حجر دغش (من قولة تيت)، ونذر يسير لا يغني من جوع للمزارع الذي انتزعت أرضه بعد أن كان يزرعها بالأمطار، وترعي فيها دوابه وأنعامه، ولم يشكل البديل الجديد نقلة نحو التخلص من الفقر، بل أصبح المزارع كالأقنان في روسيا القيصرية - يكد ويكدح العمر كله من أجل سد الرمق (أي يعملون ببطونهم).
وكان بعض أصحاب المشاريع يمرون بسنار في أبهة المهراجات،غير أن بعضهم أقام بيننا في سنار وانسجم في مجتمعها وساهم في مشاريعها الخيرية والتنموية مثل عمنا أحمد العبيد صاحب مشروع الحجيرات، وآل مصطفي ساتي شركاء سلطان مايرنو في مشروع مايرنو، الذى كان ملاصقاً لمشروع سيد داود الخليفة عبد الله. ونادر جداً من استدبر البنوك وازورّ عن شركة أبو العلا وآثر أن يمول مشروعه بنفسه وتحت إدارته المباشرة، مثل عبد الحميد المهدي من الحميداب المقيمين بالأبيض وأحد أكبر تجار الماشية بها، صاحب مشروع الخيرات بود العباس، وكان معروفاً بالصرامة الإدارية والحنكة الإدارية وعض القرش بالبنان. ومن أصحاب المشاريع الذين رأيتهم في سنار الدكتور سيد أحمد عبد الهادي والدكتور سيد عبد الرازق والسيد الفاضل محمود والأمير محمد عبد الرحمن نقد الله صاحب مشروع ود هاشم جنوب. أما ود هاشم شمال فقد كان بحوزة الجمعية التعاونية الوحيدة المؤلفة من تجار سنار. ولقد تملكت شركة أبو العلا أكبر مشرعين بالنيل الأزرق – مسرة والبساطة، بالإضافة لمحلج كساب، وكان مدير مسرة لفترة طويلة صادق بدري، ومدير كساب شمال الشاعر اسماعيل حسن الذى قضى به عدة سنوات أحسن فيها الأداء وأنتج أجمل أشعاره (مثل بالله ياطير الرهو...). ومن أصحاب المشاريع كان البيه عبد الفراج (كساب جنوب) وعبد الرحيم الترزي (عصار بود العباس)، ويوسف العجب وأخوه منصور وعبد الرحمن عابدون شريك دائرة المهدي في مشروعي الحرقة ونور الدين. (وكان من أصحاب مشاريع النيل الأبيض المعروفين، بالإضافة لدائرة المهدي، السيد عبد الله الفاضل والسيد عبد الله خليل وإبراهيم بدري وعلي الأزهري (شقيق الزعيم إسماعيل).
وهكذا، وجدنا أنفسنا في خضم الصراع بين المزارعين ممثلين في إتحادهم برئاسة شيخ الخير حاج أحمد وأمينه العام عيسي حكيم أحمد آدم ومحمد فضل الله وآخرين منذ مطلع الخمسينات، من جانب، والبرجوازية الكمبرادورية الصاعدة من الجانب الآخر، فانحزنا لمعسكر الفلاحين الكادحين قلباً وقالباً. ويبدو أن هذا النضال قد أتي أكله بشكل أو بآخر بعد ثورة أكتوبر 1964 - إذ قام الشريف حسين الهندي وزير المالية ثم الحكومات المحلية ثم المالية مرة أخرى حتى انقلاب مايو 1969، قام بتأميم مشاريع النيل الأزرق والنيل الأبيض، ووضع إدارتها تحت مؤسستين حكوميتين، وحاول أن يغري أصحاب المشاريع بالإستثمار في الزراعة الآلية بالقضارف وجنوب النيل الأزرق، خاصة في منطقة الفشقة، لكي يتسنى تعميرها المستدام حتى لا يطمع فيها الأحباش ويغزونها شيئاً فشيئاً بالطريقة المسماة (دبيب النمل). ولكنه لم يفلح تماماً، ولم يتجه صوب الزراعة سوى نفر قليل شبه مغامر، وآثر معظم أفراد البرجوازية التى حاول الإنجليز أن يصنعونها، آثروا الإستثمار في العقارات وفي المضاربات النقدية وكل ما يجنبهم العمالة والمشاكل والإضرابات وهلمجراً. وعلى كل حال، لم تنجح تجربة التأميم وإدارة المشاريع بواسطة مؤسستي النيل الأزرق والنيل الأبيض، إذ أصابهما داء البيروقراطية والتكلس والشيخوخة المبكرة والفساد ، نفس الداء الذى أودى بالتجربة الإشتراكية برمتها في الإتحاد السوفيتي ومنظومة الدول الإشتراكية، ولم يسلم من هذا الداء إلا الصين التى استصحبت نظريات "اللازي فير" وما زجت بين القطاع العام والخاص، فحققت تقدما مذهلاً خلال العقدين المنصرمين، بيد أنها مهددة كذلك بمخاطر وجودية جمة إذا لم تحترم حقوق الإنسان وتسمح بحرية التعبير والتنظيم.
وعموماً، ظل السناريون سواسية بقدر الإمكان، ولم تظهر بينهم الفوارق الطبقية الحادة إلا بعد مجيء النظام الإخواني الحالي؛ فظهر نوع جديد من الجلابة القرويين الذين تطاولوا في البنيان وولغوا في السحت والفساد المؤسس، والذين لا يعرفون الرحمة أو حقوق الجيرة أو استحقاقات المواطنة. كان السناريون حتى وقت قريب يتآزرون ويتزاوجون ويتمازجون في الساحات الإجتماعية، ولم ينكفئ الموسورون داخل قصورهم، بل لم تكن هناك قصور كما هو الحال الآن. ولم يكن هنالك فرق بين منزل عثمان ساتي ومنازل جيرانه محمد عثمان الطويل ومحمد ميرغني ويس أبو عاقلة وحمد السمكري وعبد القادر البوسطجي وعباس السواق؛ كلها منازل طوب أحمر، الحال بداخلها مستور، والناس يحبون بعضهم بعضاً كجيران لا فرق بينهم من حيث المأكل والملبس والمظهر الاجتماعي.
و لقد أفرز الصراع الطبقي تمايزاً سياسياً معلوماً، فنشأ إتحاد مزارعي النيل الأزرق منذ بداية الخمسينات بزعامة الشيوعيين، و تم افتتاح نادي عمال الري عام 1951، وأذكر تلك المناسبة بوضوح شديد إذ كنت أجلس على يد الكرسي الوثير الذي جلس عليه والدي في الصف الأمامي، بإعتباره ممثلاً لنقابة سائقي التاكسي، و كان يجلس بقربنا رجل أحمر فارع ومهندم قيل إنه محمد سيد سلام، وآخر أسمر وأكثر طولاً قيل إنه قاسم أمين، و كان أحمد المصطفى يغني كبلبل ملائكي غريد، متمنطقاً بقميص أبيض مسكّر و كرافتة عجيبة.
و على الرغم من انضمامي للشيوعيين منذ وقت مبكر ورغم نشاطي المتصل في رابطة المعلمين الإشتراكيين وفي نقابات المعلمين، إلا أنني لم أشعر بغربة أو بأي مسافة تفصلني عن أهل حينا تكتوك، و كنت لفترة بسيطة سكرتيراً لنادي الأهلي تحت رئاسة مهدي محمد علي المهدي عم وخال عبد الرحيم الذي حكى عنه شوقي، ونادي الأهلي كان ملاذ الجلابة ومسرح الحركة الوطنية منذ بواكيرها، ومنه انطلقت حملة الوطني الاتحادي الانتخابية عام 1953 وكان مرشح الإتحاديين الذى لم يحالفه الحظ آنئذ هو عمنا وابن حينا عبد الغني إبراهيم حمدون.
و أذكر أن قيادة الحزب الشيوعي أخطرتنا في بداية عام 1969 أن الأمين العام عبد الخالق محجوب سوف يأتي لمنطقة سنار في جولة تستغرق شهرين، وتم تكليفي أنا والزميل عبد الرحيم عبد الرحمن باستقطاب بعض الدعم من أصدقاء الحزب، وأول شخص وقفنا أمامه هو بالطبع عمنا حامد حميدة رئيس الحزب الوطني الإتحادي، الذي سألنا: لمن ذهبتم قبلي؟ قلنا له إنا لم نذهب لأي شخص آخر. فقال: لا تذهبوا لأي كائن بعدي وهاكم هذا المبلغ، وإذا احتجتم لأي شيء ارجعو لي، وأعطانا سيارته المرسيدس بسائقها عبد الله السيد لتبقى ملازمة للأستاذ عبد الخالق حتى يغادر سنار، وأصر على أن نتناول معه وجبة العشاء في نفس يوم حضور الأستاذ. و لقد أنزلنا عبد الخالق ببيت فتحو عبد الرحمن شقيق عبد الرحيم بحي الموظفين لأنه كان خالياً إذ ذهبت أسرته لقضاء إجازتها السنوية بتنقسي. وكان أول الزوار لعبد الخالق عمنا حامد، وكنت موجوداً بالصدفة في معية شيخ الخير عليه رحمة الله، واتضح لي أنهما صديقان حميمان وبينهما حديث ذو شجون وأنس لطيف وقفشات وقهقهات.
وباختصار شديد، نجد أن اختلاف الرأي لم يفسد للود قضية بين أهل سنار، وكانت البيوت والقلوب مفتوحة على بعضها البعض، وأصبحت مدينتهم في نهاية الأمر melting pot تداخلت فيها الأنساب عن طريق المصاهرة، ولقد كان الحميداب بالذات من أكثر الناس انفتاحاً ورحابة ونظرة تقدمية في هذا الصدد، إذ تقدم العديد من زملائي المدرسين بالثانوية من أبناء القرى المجاورة، وليس لهم من عرض الدنيا إلا الراتب، طالبين القرب من كريماتهم، وتم الترحيب بهم وتمت زيجات مباركات، وازدان حينا ومدينتنا بمزيد من التمازج والانصهار الذي يرسخ اللحمة الوطنية في نهاية الأمر، وبالذرية الصالحة الطاهرة بإذن الله.
ولقد هبت علينا العواصف المايوية، ومن بعدها التسونتامي الإخواني، فتبعثرنا في كل واد، وتلاشت الحركة النقابية والديمقراطية التي شيدناها منذ الخمسينات، وأطلت علينا جماعات التتار القروية التي استقوت بها حركة الإخوان، فعاثوا فساداً في الأرض وكنزوا الثروات ذات المصادر المشبوهة، وأشرفوا على تهميش الطبقة الوسطى وحلوا محلها في الأسواق وورثوا منازلها، وباختصار حدثت هرجلة ديموغرافية وخلط عشوائي للكيمان.
ولكن، وبما أن جذوة الخير والوطنية السنارية لا تنطفئ بسهولة، فقد نشأت من أبناء سنار الأصليين، خاصة حي تكتوك، وبزعامة نفر جميل مثل مولانا سيد ابن عمنا عثمان حميدة وإخوانه وأبناء حسن التوم وحسن عمران ومحمد جلا عبد الرازق الشيخ وآخرين، نشأت جمعية إنسانية إسمها (منظمة الحوش الكبير الخيرية)، قامت بتنفيذ مشاريع مذهلة لإعادة تأهيل وترميم المدارس القديمة، وغير ذلك من الإنجازات المعتمدة على الجهد الطوعي الذاتي ومساهمة الجماهير السنارية الشهمة من داخل وخارج البلاد.
ويبدو أن تلك الأسود الغابرة قد تركت وراءها أشبالاً وثابة مقدامة بحق وحقيق؛ وبهذه المناسبة، ادعو صديقنا شوقي بدري لزيارة سنار، وليتذكر أن ابن عمه الرباطابي محمد خير البدوي مدفون بهذه المدينة الباهرة، إلى جدوار ضريح الشيخ فرح ود تكتوك؛ فلا بد أن في سنار هذه سر باتع رهيب جعل هذا الرجل يختارها من كل مدن السودان موطئاً لرفاته، عليه سحائب الرحمة المدرارة.
والسلام.
fdil.abbas@gmail.com