سنتان في تشيكوسلوفاكيا

 


 

 


بسم الله الرحمن الرحيم

بعد شهرين تحدثت عنهما في مقال سابق، ولسان حالي يردد بيت المتنبي: "أبوكم آدم سنّ المعاصي - - وعلمكم مفارقة الجنان"، حزمت أمري على مغادرة لندن التى لجأت إليها من لهيب 19 يوليو 1971، مولياً وجهي شطر براغ للدراسة بجامعة فيها تسمى "17 نوفمبر، سدومناست ليستيبادو"، بتنسيق من الرفيق الراحل د. عز الدين علي عامر عطر الله ثراه وخضر تربته؛ ولما راى الدكتور عزالدين نزقي وغبطتي المنفلتة حذرني قائلا: (بالله ياإبني ما تفرح ساكت، إنت ماشي لأكبر حتة حفرة في العالم)؛ وأشار علي بقراءة كتاب صغير بعنوان "Nineteen Eighty-Four" لجورج أورويل (كاتب "مزرعة الحيوان Animal Farm" الذى كان ضمن المنهج الدراسي بالسنة الأولى ثانوي)، علّني أسلح نفسي بشيء من الحكمة والتحوط ضد خيبة الأمل - إذا وجدت التجربة الشيوعية التشيكية محبطة ومغايرة لما تشبعنا به من أفكار وأحلام أو illusions and delusions عن اليوتوبيا الشيوعية، وحذرني من التفاؤل المفرط فيما يختص بالجامعة المذكورة، فهي بمثابة حل مؤقت ريثما تستقر الأحوال في السودان، بها دفء المسكن والمأكل وشيء من الاستزادة الأكاديمية المجانية الآحادية "بمعنى أن كل شيء فيها مسيّس ومطعم بالماركسية اللينية الستالينية - ومن منظورها"؛ وهي في الحقيقة "تكية للشيوعيين وأصدقائهم" – مجرد محو أمية ناطقة بالإنجليزية، لا يدخلها أبناء التشيك أو أي من الأوروبيين، وليس بها مساق دراسي سوى العلوم السياسية والإقتصاد السياسي " aka نيكيتين فقط" وشيء من هذا القبيل، وطلابها من العالم الثالث، كالسودان وبعض الدول الإفريقية خاصة نايجيريا؛ وليس بها مكتبة أو مطعم أو كافتيريا أو "قهوة نشاط" أو ميدان لأي رياضة أو منتدى أو صحف حائطية أو أي حراك ثقافي أو سياسي أو إجتماعي من أي شاكلة، وهي عبارة عن بضع غرف بإحدي البنايات، وجميع أساتذتها قادمون في أوقات فراغهم part-timers من النوع الذى يتحدث الإنجليزية بلكنة ظاهرة، وجلهم معاشيون متقدمون فى السن octogenarians، ولا يوجد فيها كتب أو دوريات – فقط دفاتر المحاضرات والملزمات التى يوزعها الأساتذة؛ وتسعون بالمائة من الإختبارات والإمتحانات شفهية، وهناك بعض الورقات التحريرية theses كمتطلبات التخرج للبكالوريوس أو الدكتوراة التى حتماً سوف تجد من يكتبها لك من قدامي القابعين "كاسري الركبة" ببراغ - ghost writers، بأجر زهيد قد يكون بضع قوارير من الخندريس و"حلّة مدنكلة"؛ ولا تشترط الجامعة مؤهلاً لدخولها سوى توصية الحزب، فلم يسألني أحد عن شهادتي الثانوية، وقابلت فيها من لم يمر بالمرحلة الثانوية أصلاً. والأدهى وأمر أنها كانت تمنح الدكتوراة كذلك خلال عام واحد فقط، ومن طلبة الدكتوراة أفواج الموظفين السودانيين المبعوثيبن من وزارتي التجارة والمالية والتخطيط - أذكر منهم الدكتور إبراهيم عبيد الله والدكتور عبد الوهاب عثمان رحمهما الله. وهي جامعة غير معترف بها عالمياً أو إقليمياً، إلا في السودان لأن أصحاب هذا القرار هم المبعوثون لها أنفسهم. (لا غرو أنني عندما زرت براغ لاحقا عام 2011 لم أجد أثراً لتلك الجامعة التى سلخت فيها سنتين من عمري، فقد أبيدت من الوجود تماماً بعد الثورة المخملية Velvet Revolution التى أطاحت بالنظام الشيوعي فى نوفمبر/ ديسمبر 1989، ولم أجد لها أثراً على الأرض، ولا في الأراشيف أو المتاحف أو القوقل أو ذاكرة البشر).

وبالفعل، قرأت "ناينتين إيتي فور" قبيل سفري وتركته خلفي بالطبع، كما قرأت شيئاً من تاريخ تشيكوسلوفاكيا. أما كتاب أورويل فهو قصة خيالية/واقعية تنطلق من قناعاته المستوحاة من تجربته بالحرب الأهلية الإسبانية في الثلاثينات التى شارك فيها متطوعاً إلى جانب الثوار الجمهوريين ضد الفاشيين بقيادة الجنرال فرانكو، ومن التحولات metamorphoses التى حدثت له - من الميل نحو الإشتراكية إلى الإستنكاف عنها والإحاطة بالثقوب والنقائص التى تحيل أنظمتها إلى كوابيس قمعية جهنمية. وتتنبأ أطروحة أورويل الميلودرامية بما سيكون عليه الحال في الدول ذات الأنظمة الشمولية في المستقبل، خلال نصف قرن، فقد صنف ذلك السفر عام 1949 بعيد نهاية الحرب الكونية الثانية وقيام دول المنظومة الإشتراكية بشرق أوروبا، بالإضافة لإسبانيا التى سقطت فى يد الدكتاتور الفاشستي فرانكو وظلت قابعة تحت قبضته الحديدية لأربع وأربعين عاماً. وبطل الرواية هو ونستون سميث الذى يحاول أن يجترح لنفسه حياة خاصة به وسط هيمنة الحزب الحاكم في دولته "أوشينيا" حيث الأنفاس محسوبة والرقابة كاملة وشاملة ومتغلغلة في جميع مسامات المجتمع وعقول وسرائر أفراده، ليقوده ذلك السلوك إلى غياهب السجن.
ومثلاً، وقع سميث في حب فتاة اكتشف لاحقاً أنها كادر أمني سري كانت تتجسس عليه وترفع تقاريرها للجهاز بما فعل وقال وما لم يفعل ويقل؛ وصادق شخصاً إسمه إدموند قولدشتاين كان يهمس له عن تنظيم سري معارض وعن كتاب أسود The Book يحمل رؤية المعارضة متداول بطريقة غاية في السرية بين أعضاء ذلك التنظيم، إذا به يجد نفسه في زنازين التعذيب بجهاز الأمن، وقائد فريق التحقيق/التعذيب هو صديقه إدموند قولدشتاين نفسه. فكل شيْ في أوشينيا على مرمى رادارات وتحت بصر وسمع وسيطرة الحاكم الأوحد – "الأخ الأكبر" Big Brother، الذى يشبه ستالين بروسيا وقوملكا ببولندا ونوفوتني بتشيكوسلوفاكيا وفالتر أولبريشت بألمانيا الشرقية وشاوشيسكو برومانيا، إلى أن تصل لماو تسي تونج وكيم إيل سونج وإبنه وحفيده، ومقلديهم مثل صدام حسين والأسد وعمر البشير.
وهكذا، يتم استخدام اللغة، ليس في إطار رمزيتها ومدلولاتها المعروفة فيما قبل بزوغ الشيوعية، إنما برمزية جديدة تساعد في غسيل الأدمغة والدعاية الكاذبة والإيحاء السايكلوجي والتربية على عبادة الشخصية personality cult. ولقد تم تغيير إسم اللغة لتصبح "اللسان الجديد Newspeak"؛ ومن المفاهيم المجترحة السائدة: "الإيمان بشيئين متناقضين في نفس الوقت doublethink"، وأي خروج على نصوص خط الحزب يشكل جريمة تسمي thoughtcrime، وشعار الدولة وفلسفتها هي أن "تدرك ولا تدرك في نفس الوقت" to know and to not know؛ ولقد أعطيت الوزارات أسماء تعبر عن العكس من حقيقتها، فوزارة التموين إسمها "الوفرة Plenty" مع أن الدولة ما فتئت تعاني النقص الفظيع في المواد الغذائية وفي كل شيء، ووزارة الحرب إسمها "السلام Peace" مع أن الدولة تخوض عدة حروب مع جيرانها، ووزارة الإعلام إسمها "الحقيقة Truth" مع أنها لا تبث سوي الأكاذيب. ويوجد في غرفة نوم كل مواطن بالدولة جهاز راديو إسمه telescreen التليسكرين، يعمل بالتحكم من غرفة المراقبة برئاسة الحزب الحاكم، ويبث البرامج والأناشيد والموسيقي الحكومية، ويوقظ المواطن من النوم مبكراً ويأمره بأداء حركات رياضية معينة لزوم اللياقة الجسدية والإنضباط الطقوسي كالصلاة، وإذا تقاعس أو تناوم يتم توبيخه بشدة وحزم ويحاسب لاحقاً حساباً عسيراً، فالجهاز يحتوى على كاميرا ومجسات دقيقة تنقل كل ما يدور بمنزل المواطن من سكنات وحركات حتى لوكانت دبيب نمل، وتلتقط الروائح والأبخرة والإفرازات الكيماوية....إلخ.
وعندما حللت ببراغ بأواخر سبتمبر 71 وجدتها شديدة الشبه ب Oceania التى وصفها أورويل في كتابه. فلقد استقبلني ضباط الجمارك بالمطار متجهمين كأني قتلت والد أحد منهم؛ وبدأت إجراءات الإنخراط في الجامعة بفترة إعتقال دامت لأسبوعين كاملين بكرنتينة بائسة كالحة - ريثما تعود نتائج الفحوصات المختبرية للعينات التى أخذتها ممرضة شوهاء مفتولة الزند بإدخال أنبوبة إختبار في دبرك وسحبها بسرعة وإغلاقها بفلينة، وكذلك تستمر محبوساً بالكرنتينة ريثما تظهر الأمراض التى قد تكون جلبتها من إفريقيا. وليس في الكرنتينة كتب ولا تلفزيون ولا صحف ولا زهور ولا بشر ولا قطط ولا طيور، فقط أكل ونوم، وكان معي بتلك الكرنتينة أعظم صديق مر علي بتلك الأيام، ولا زال كذلك، هو الدكتور محمد عبد الرحمن عابدين الحسن، وآخرين لا أذكر أسماءهم، وخرجنا من الكرنتينة لغرف المحاضرات بالجامعة وهي أكثر كآبة وشحوبا يبعث على الملل والدبرسة.
ولقد سكنت في عامي الأول بداخلية "بودولي" المتاخمة لسكن البنات - حيث أقامت إحدى عشر فتاة سودانية جئن مبعوثات من الإتحاد النسائي لدراسة الغزل والنسيج ومهن أخرى، ولكنهن تحولن لدراسة الطب وغيره من التخصصات الجامعية، وكن يعشن في غرف بها طالبات تشيكيات كل واحدة يلازمها صديقها boy friend. وكان بالغرفة جهاز راديو يشبه التلسكرين الأورويلية، تنبعث منه الأناشيد والثرثرة المستمرة بالتشيكية التى لم أتعلم منها شيئاً طوال إقامتي، بينما التقطت كثيراً من الكلمات الألمانية واستمريت في التدريب على الإنجليزية. أما الدراسة في الجامعة، فقد كانت كما توقعتها - تلقيناً ببغاوياً يفترض الحفظ عن ظهر قلب بلا أدنى إبتكار أو تصرف أو إعمال للعقل، وليس هنالك أي كتب أو مراجع أو صحف أو مجلات إنجليزية أو عربية. وكنت أذهب لفتحي فضل سكرتير إتحاد الطلاب العالمي لأتصفح مجلة نيوزويك الأمريكية، ولم يكن ساخياً بها، بل حجبها عني بعد بضع زيارات. وقد تعرفت على أسرة تشيكية أفادتني كثيراً من حيث الكتب والإلمام بالتجربة التشيكية، مضيفين الكثير لما قرأته قبل قدومي إلى براغ. وكان فرع الحزب السوداني متأثرا بالعقلية الأمنية النوفوتنية الستالينية المهيمنة، فتجده تحت قبضة شلة من الكوادر التاريخية منذ الستينات حتى اليوم (أقصد حتى اليوم في هذا العام 2018)، ولقد رحلت الشيوعية ولم يرحلوا، وكانوا نفراً أرستقراطياً أوليقاركياً من البخل بمكان وليس بهم سيماء الزعامة السودانية، ولم أتشرف برؤية بيت أي منهم طوال السنتين، بينما كنت في لندن مداوماً بشكل يومي بشقة الدكتور عز الدين والأستاذ محجوب عثمان. ويتألف الفرع من الطلاب السودانيين الشيوعيين بكافة الجامعات والمعاهد، وظل مسؤوله السياسي شيخاً مفصولاً من السنة الثانية بكلية الهندسة منذ مطلع الستينات؛ كما ظل سكرتير اتحاد الطلاب العالمي في موقعه لعشرات السنين حتى هرم، واستمر مقيما ببراغ لعشرين سنة أخرى بعد انهيار النظام الشيوعي، ثم عاد للسودان قبل عامين. ومن ممارسات قيادة فرع الحزب الستالينية قرارها ذات مرة في عام 1973 بتشكيل مجموعات همباتية صعلوكية لضرب وسحل كل الطلاب الذين انضموا للإتحاد الإشتراكي السوداني في بداية تكوينه (أذكر منهم الطالب الجنوبي المرحوم منوّع إبن أخ أبيل الير)، ولقد ذهلت لما قابلني المسؤول السياسي (ح س) بمحض الصدفة في إحدى المقاهي ووصف لي تكتيكات البلطجة المزمعة وكيفية ترتيب المفارز التى اشتركت في الضرب، بحيث ينقض ثلاثة أو أربعة من الرفاق الغلاظ الشداد الذين لا يعصون الأخ الكبير ما أمرهم....ينقضون على الطالب المسكين، في الموقع الإستراتيجي الذى لا يلفت النظر بقدر الإمكان، (وكأنه يريد أن يبعث لي برسالة ردعية تهديدية غير ذكية، فقد كانت تلك هي المرة الأولي والأخيرة التى تجاذبنا فيها اطراف الحديث). وقد تناهي إلى سمعي أن الرفاق محجوب ومراد وقاسم وعبد المنعم وقفوا ضد تلك البلطجة، وقالوا للقيادة الستالينية المستأسدة: "أنتم تضربون خصومكم وتنفردون وتفتكون بهم هاهنا، محتمين بالحزب الحاكم وأجهزته الأمنية؛ فماذا لو رد الإتحاد الإشتراكي الصاع صاعين لرفاقنا في السودان، وهم بلا أي غطاء؟ هذا موقف انتهازي ومشبع بالجبن والغدر والغباء السياسي." وعندما عدت للسودان، كتبت ورقة للسكرتارية المركزية عن تلك الممارسات الشائهة، وشكرتني السكرتارية على ذلك، وقابلني الرفيق سليمان حامد رغم ظروف اختفائه، وتجولنا ليلاً لمدة ساعتين بالخرطوم بحري، راداً لي إعتباري كاملاً، ومؤكداً أنهم سوف يشكلون لجنة للتحقيق فيما يجري بشرق أوروبا، لا سيما في تشيكوسلوفاكيا.
ولما لحق بنا الرفيق محجوب في براغ مندوباً للحزب بمجلة "قضايا السلم والإشتراكية"، أصبحنا مجموعة من اللاجئين اليوليويين يشد بعضنا من أزر بعض، ونلتقي بانتظام إما في شقة محجوب أو مكاوي خوجلي سكرتيرإتحاد المعلمين السوداني ونائب رئيس إتحاد المعلمين العالمي (الذى أصبحت مترجماً part-time له)؛ وأقرب شخص بالنسبة لي في براغ كان هو الدكتور محمد مراد الذي شاركني الغرفة لعام كامل وكان لا يكف عن الوقوف بجانبي والرفع من معنوياتي، وكان يسقيني أطناناً من الشاي حتى جعلني أرغب عن غيره من "المشروبات"، ويبدو أنه الوحيد الذى كان يعرف قدري بحكم الفترة الوجيزة التى عملت فيها معه بوزارة شؤون الجنوب عام 1971؛ وكان الرفيق قاسم أمين رئيس اتحاد عمال النسيج العالمي كذلك رجلا سودانيا يفيض وطنية وشهامة وتواضعاً وأريحية، وكثيرا ما استضافني ودكتور مراد بمقهي كافكا الذى كان يرتاده في عشرينات القرن العشرين الروائي التشيكي المشهور فرانز كافكا.
وقد كنت من المعجبين بالرفيق كلمنت قوت والدوف Gottwald Clement أحد مؤسسي الحزب الشيوعي التشيكي وأمينه العام من 1929 حتى 1953، والذى قاد المقاومة السرية ضد الاحتلال النازي من 1938 حتى 1945، والذى اكتسح الحزب تحت قيادته انتخابات 1946 البرلمانية بأغلبية مريحة بدون أي تدخل من أي جهة، بفضل شعبية الحزب وسط العمال والوطنيين التشيك، وكان الجيش الأحمر قد طرد الألمان في النهاية وحل محلهم بكل دول شرق أوروبا، ولكنه لم يحشر أنفه في تلك الإنتخابات. ودخل الحزب في تحالف مع الأحزاب الوطنية اليسارية الأخرى لكي يحقق الأغلبية المطلوبة. ولكنى اكتشفت لاحقاً أن قوتوادوف كان بكل أسف قد استعذب السلطة وثمل بها وأحس ب"ضيق العين" تجاه حلفائه الديمقراطيين الثوريين بمجلس الوزراء، وسلك نفس سلوك الحزب الشيوعي السوداني الذي قلب ظهر المجن لحلفائه مرتين: مرة بتأييده لإنقلاب 25 مايو 1969 ضد النظام الديمقراطي، وبالمشاركة في حملات التطهير، ومرة ثانية بحركة 19 يوليو 1971 للتخلص من حلفائه القوميين العرب الديمقراطيين الثوريين بمجلس الثورة ومجلس لوزراء؛ ولقد نظم قوت والدوف إنقلاباً كامل الدسم عام 1948 استبعد بموجبه كل الوزراء الديمقراطيين الثوريين وأصدقاء الحزب، كما قام بتطهير جهاز الدولة بأكمله - خاصة الجيش والأمن - وأصبحت الدولة العميقة برمتها في يد الشيوعيين. وما أحزنني للغاية أن قوت والدوف انقلب حتى على أقرب أصدقائه مثل المناضل رودولف سلانسكي سكرتير اللجنة المركزية، وشكل له محكمة صورية مع ثلة من رفاقه الوطنيين النظيفين الذين أبلوا بلاء حسناً في حرب التحرير، وتم إعدام الزعيم سلانسكي ورفاقة الأحد عشرة في ديسمبر 1952، وكانت التهمة هي التواطؤ مع جوزيف بروز تيتو الزعيم اليوغسلافي. ومنذ تلك اللحظة أصبح الجيش الأحمر والسفير السوفيتي هما الآمر والناهي بتشيكوسلوفاكيا، وضربت المصالح الوطنية التشيكية، وتناقص الإهتمام بالصناعات التشيكية التقليدية الراسخة منذ نهاية القرن التاسع عشر – مثل صناعة سيارات وآليات (كراكات) الإسكودا وصناعات الكريستال والخزف والزجاج والكبريت أبو مفتاح، وصناعة أحذية باتا (التى هاجر صاحبها للولايات المتحدة وأقام مصانعه هناك)؛ واتجهت الصناعة التشيكية نحو تلبية المتطلبات السوفيتية الدفاعية فقط، وأصبحت تشيكوسلوفاكيا مجرد ترس في المنظومة السوفيتية، مع إهمال تام للظروف والمعطيات والتخصصات المحلية، وعدم الإهتمام بالزراعة التى كانت تمثل شريحة مكتنزة من الناتج القومي، خاصة النباتات hop التى تدخل في انتاج البيرة. وبالإضافة لذلك، أصبح النظام قمعياً بالكامل، تماما مثل دولة أوشينيا عند أورويل، وغابت حرية التعبير والتنظيم، وجثم "الأخ الأكبر" وجلاوزته على صدر الشعوب التشيكية/السلوفاكية المسالمة الودودة التى كانت قد قدمت العديد من المساهمات والإنجازات للبشرية – مثل جامعة شارلس الرابع التى أنشئت في القرن الرابع عشر الميلادي.
ولكن جذوة الحركة الوطنية التشيكية لم تمت تماماً، فلقد تحركت بعض الكوادر الرافضة لخط نوفوتني الستاليني بالحزب، بقيادة الإسكندر دوبشيك الذى صعد لقيادة الحزب عام 1968 (كما فعل قورباتشوف فيما بعدً بالإتحاد السوفيتي)، وعلى الفور أدخل بضعة إصلاحات ديمقراطية "ربيع براغ" مثل القلازنوست والبريستورويكا القورباتشوفية، لضمان بعض الحريات ونزاهة الإنتخابات، ولكن الجيش الأحمر ومعه جيوش حلف وارسو اجتاحوا براغ في صيف ذلك العام ووضعوا حداً لربيع دوبشيك، وعادت الدولة خاضعة بصورة أكثر وضوحاً وصرامة للنفوذ السوفيتي الذى يحدد للبلاد نوعية وكيفية وكمية الإنتاج الصناعي، ومفردات الخطة الخمسية؛ ولقد تم تطهير جهاز الدولة من كل العناصر المشبوهة في نظر "الحكام" السوفيت، وأصبح زعماء الحزب وقادة الدولة هما قستاف هوساك ومسؤول العلاقات الخارجية فاسل بيلاك، وهما ستالينيان حتى النخاع. ولما أتيت لبراغ بعد ربيعها بثلاث سنوات وجدت آثار الدبابات بالميدان الرئيسي "فاتسلافسكي نجامستى" خاصة بالقرب من المتحف القومي، وحكي لي الزملاء بتلمظ ونشوة وسذاجة عن دحر "القوى الرجعية" وتحجيمها بواسطة الرفاق السوفيت، وما كانوا يدركون ألا فرق بين ذلك وبين إنقلاب النميري المضاد في 22 يوليو الذى أودى بحياة رفاقنا الآباء المؤسسين بلا محاكمات عادلة، ووضع نهاية مؤسفةً للحركة النقابية والجماهيرية. وكنت أحس بالإستقطاب الذى يفلخ المجتمع التشيكي إلى نصفين: منشقون تلمحهم هنا وهناك، وحركة شبابية متمردة تحس بها في الشوارع، في طريقة اللبس وإرسال الشعر وتقليد شباب ثورة أغسطس 1968 الفرنسية والأمريكية، وتحس بها آخر الليل في الحانات الشعبية حينما يتغني الجمهور بالأغاني التى كانوا يرددونها أثناء ربيع براغ، وحينما ينخرطون في البكاء والنحيب الخافت بلا سبب ظاهر؛ ومن الجانب الآخر تجد الحكام الشيوعيين وعسسهم وكوادرهم الأمنية التى تلاحظها أينما ذهبت، وتستشعر وجودها مثل الهم في القلب كأنها "الأخ الأكبر" الذى وصفه أورويل.
وما أن نجحت حركة تضامن عمال الميناء Solidarity في بولندا بقيادة ليك فالنسا في اكتساح انتخابات 1989 وتكوين أول حكومة غير شيوعية بالمعسكر الإشتراكي، حتى أخذ المعسكر برمته في التصدع والإنهيار؛ وما هي إلا بضعة شهور حتى لحقت تشيكوسلوفاكيا بالنموذج البولندي الرائد بثورتها المخملية السلمية، على سواعد شبابها المتمرد وبقايا العناصر الليبرالية المشتركة في ربيع 1968 - رغم تقدمهم في السن.
ولقد عشت طوال السنتين اللتين قضيتهما ببراغ كحاج يتوقع الأوبة لبلده لما تنهي مراسم تلك الشعيرة، وكان زادي الأكبر والأهم هو خطابات زوجي أم عثمان التى كانت تصلني بانتظام كل عشرة أيام طوال السنتين، ومعها أحياناً كيس من الويكة والشرموط والشطة والحلو مر والدكوة والعراريق والسراويل. وحاولت أن أستمتع بما يستمتع به السواح الذين فتحت لهم بعض المنافذ تشجيعاً لهم، خاصة على إثر الرخاء الإقتصادي الذي نعمت به أوروبا الغربية خلال الستينات والسبعينات، فتدفقت وفود السواح نحو تشيكوسلوفاكيا وبعض الحواضر الجميلة الأخري بشرق أوروبا مثل بودابست، فكنت أزور السينما الإنجليزية باستمرار، كما حضرت العديد من العروض بالمسرح الوطني – نارودني دجيفالدو – مثل "بحيرة البجع" لتشاوكوفسكي، وكان الدخول بصندوق سجاير بنسون "أعصره" لخفيرة الباب التى تجلسني بأحد المقاعد الأمامية، مع أن الحجز من جانب السواح والرواد الآخرين يتم بصعوبة قبل أسابيع كثيرة من العرض. وفي عطلة صيف 1972 ذهبت لإشتوتقارت عاصمة ولاية شفابيا بألمانيا الغربية حيث قضيت شهرين مع أصدقاء ألمان تعرفت عليهم في براغ، وعملت كصبي نجار براتب مريح اكتسيت منه وأرسلت الهدايا لعثمان بسنار، وكان جيبي لا يخلو من بعض مارك ألماني إلى أن رجعت للسودان في أغسطس 1973. وفي تلك الأيام حدث هجوم أيلول الأسود على المدينة الرياضية بميونيخ أثناء منديال الألعاب الأولمبية، وتم إغتيال أكثر من عشرة من الرياضيين الإسرائيليين وبعض الألمان وثلاثة من الفلسطينيين المشاركين في العملية. ولما رجعت بعد إجازتي بالقطر من إشتوتقارت صوب براغ، أنزلني خفر الحدود بمحطة نورنبيرج باعتباري من السودان المصنف كدولة عربية، وحبسوني بزنزانة ضيقة تواليتها بداخلها بالمخفر لمدة يومين، حتى جاءهم من رئاستهم ما يثبت أنني لم أذهب لميونيخ ولست مشبوهاً وليست لدي علاقة بأيلول الأسود.

ولقد حاولت أن اجترح لنفسي حياة خاصة بي مثلما فعل ونستون سميث في رواية أورويل، وكنت قد أحضرت معي بعض الكتب من ألمانيا التى خففت عني رتابة الحياة بأوشينيا. ولكني وجدت أن فرع الحزب ببراغ لديه "مكتب رقابة" مثل الجهاز الذى كان يلاحق سميث ويحصي أنفاسه؛ وقد وجه لى ذلك المكتب تهمة بأني "قطعت" في قيادة الفرع ووصفتها بالستالينية، واكتشفت أن مسؤول تنظيمي المكتب هو، مثل إمانويل قولدستاين عند أورويل، صديقي وإبن صفي "دفعتي" بالجامعة. وانتهي الأمر بكتابة نقد لنفسي المقصود به إذلالي وتمريغ أنفي، وكلما أكتب شيئاً يعود لي به ع. س. شقيق الميم سين، وهو رجل فاضل وفاهم عليه رحمات الله، ويرجوني أن أبتعد عن "المطاعنة" والتهرب، وأن أكتب كلاماً أكثر تمشياً مع "اللائحة والنظام الداخلي"، إلى أن توصلنا لصيغة نهائية.
المهم في الأمر، عقد فرع الحزب مؤتمره في صيف 73 وقررت قيادته عودة كل الكوادر التى جاءت لاجئة من السودان بسبب أحداث 19 يوليو – مثلي والدكتور م ع عابدين الحسن والدكتور عبد المنعم عطية ومكاوي خوجلي. وفي الحقيقة كان ذلك أصوب قرار إتخذه ذلك الفرع في حياته، وخاطبت المؤتمر الذى كان به خمسة أضعاف حضور المؤتمر الرابع، وهاجمت جامعة 17 نوفمبر وقلت لهم هذا تزييف للعمل الأكاديمي وضحك على شعب السودان. ورد علي بعضهم: "إنك تقول ذلك لأنك ذاهب عنها". فرجعت وواصلت الدراسة من السنة الثالثة بكلية آداب جامعة الخرطوم (مع ماينورminor العلوم السياسية بكلية الإقتصاد)، ولقد أفلتُ من الإعتقال ولكن من أتي بعدي بأسبوع، محجوب ومحمد مراد، تم اعتقالهما وإرسالهما لسجن الأبيض. كما أفلت العائدون الآخرون من الإعتقال وواصلوا حياتهم الطبيعية الغنية بالسودان، وكانت ثمة انفراجة منذ منتصف ذلك العام أطلق أثناءها سراح المعتقلين الشيوعيين واصدقائهم الديمقراطيين، باستثناء محجوب ومراد اللذين قضيا ردحاً من الزمن بمعتقلات الأبيض، وقد أكرمهما أهل تلك المدينة أيما إكرام.
ولقد كفرت تماماً بالماركسية اللينينية كما هي مطبقة في بتشيكوسلوفاكيا، وقد زودني أصدقائي التشيك بكتب المنشقين الروس مثل آرثر كوستلر صاحب Darkness at Noon وميلوفان جيلاس المنشق اليوغسلافي، وبمسرحيات فاتسلاف هافل الذى أصبح أول رئيس لجمهورية التشيك الجديدة 1989 ثم أصبح أول رئيس منتخب لجمهورية التشيك بعد إنفصال سلوفاكيا عنها في 1993. بيد أني لم أستقل من الحزب لأني كلما فكرت في افستقالة أتذكر الرفاق الذين أعدمهم نميري دون وجه حق، ولأني ما كنت أرغب في هدم الصف المواجه بصلابة ورجولة لدكتاتورية النميري وجماعته الرأسماليين الطفيليين والبرجوازية الصغيرة المتهافتة. ولكن، وبعد أن أقمت في بريطانيا لعدة سنوات ببعثة دراسية من جامعة جوبا 1979 - 1985، تقدمت باستقالتي. والمهم في الأمر، إنني لا زلت ألتقي مع معظم أطروحات الحزب الشيوعي السوداني المتعلقة بالنضال ضد النظام الإخواني الراهن المتناسل من دكتاتورية النميري، ومن أجل استرداد الحرية والديمقراطية، ولكن عندما يجيء الوقت المناسب لطرح النظرية على طاولة البحث والمناقشة سيكون لي رأي كرأي مالك في الخمر، أسوة بالأحزاب الشيوعية الأوروبية التى أدركت خطل الماركسية كنظام حكم بعد تصدع المعسكر الإشتراكي وفشل أنظمته، وحلت نفسها وتحولت إلى أحزاب اشتراكية ديمقراطية أو think tanks مجموعات بحثية ديمقراطية ليبرالية مثل الحزب الشيوعي البريطاني والفرنسي والإيطالي.
والسلام.

fdil.abbas@gmail.com
//////////////

 

آراء