تسري النسائم عذبة من بلادنا مضمخة بأحدث تطورات المواكب والاعتصامات والإضرابات الصامدة في جميع مدن السودان وقراه؛ ولقد ثار شعبنا لشهر كامل
(قال الصادق المهدي إن ما يحدث الآن ليس وجع ولادة، ونحن نقول العكس، فهو طلق ناجح بإذن الله).
تسري النسائم عذبة من بلادنا مضمخة بأحدث تطورات المواكب والاعتصامات والإضرابات الصامدة في جميع مدن السودان وقراه؛ ولقد ثار شعبنا لشهر كامل في وجه القمع الهمجي والبطش الوحشي الذى تمارسه أجهزة النظام السرية والعلنية وجندرمته الشعثاء الصعلوكية. ولم نسمع بانتفاضة في تاريخ الدنيا كلها استمرت لشهر كامل سوى هذه التى يشهدها السودان الآن؛ ففي الإنتفاضات السابقة كان الجيش يتدخل لوقف نزيف الدم، ويطلب من الدكتاتور المتشبث أن يتنحي، ويرسل في طلب مناديب الحركة السياسية ليتفاوض معهم لبضع ساعات أو أيام تخرج بعدها قرارات المرحلة الإنتقالية - من مجلس رأس الدولة والجهاز التنفيذي والميثاق الذى يحكم الفترة الإنتقالية. أما هذه المرة فقد اختفى الجيش تماماً ولاذ بصمت القبور، ولقد هتفت الجماهير البارحة: (الجيش وينو؟ الجيش وين راح؟)، على وزن ( شليل وينو؟ شليل وين راح؟ "خطفه التمساح"). والتمساح الماكر المتسلط الذى اختطف الجيش السوداني هو تنظيم الإخوان المسلمين منذ ازدراده للسلطة برمتها في 30 يونيو 89، فأعمل فيه تقليماً للأظافر وتهشيماً للأنياب وتصفية لكل من ليس أخاً مسلماً، وإغلاقاً لأبوابه أمام أي سوداني لا ينتمي لتنظيمهم، وتثبيتاً لعقيدة جديدة تقول بأن مهمة الجيش ليست الدفاع عن الوطن، ولكن عن النظام الإخواني الحاكم ظالماً أو ظالماً إلى يوم الدين، حتى لو أدى ذلك لتصفية الشعب السوداني عن بكرة أبيه. بيد أن هذا النفق المظلم المسكون بأفاعي الإخوان المسلمين وجلاوزتهم وجيشهم المخصي قد ظهرت في آخره كوة ضوء انتزعها شعب السودان عنوة واقتدارا من شدوق الأراقم الإخوانية. وعلى الرغم من صمت الجيش، ومن صمت الإعلام العربي، ومن تواطؤ بعض الأنظمة الخاضعة لتنظيم الإخوان المسلمين العالمي أو التى تخشى بأسه مثل الجارة مصر التى تحتفظ في سجونها بستين ألف أخ مسلم وفي نفس الوقت تدعم رصفائهم الحاكمين بالسودان، (إذ جاء في آخر الأنباء أن طائرة شحن عسكرية مصرية قد هبطت بمطار الخرطوم محملة بالقنابل المسيلة للدموع والعصي الكهربائية والشماليخ "جمع شملوخ أي عكاز")، فإن الثورة ماضية لنهايات إيجابية تصب في مصلحة الشعب السوداني، وما هي إلا بضع أيام حتي يذهب البشير ورهطه القاطنون بحلة كافوري، وجيشه الصوري الديناصوري، إلى ركن سحيق في مزبلة التاريخ. ليس هذا تفكير رغبوي wishful thinking أو (أحلام زلوط)، ولكنها قناعة مبنية على ما تناهي إلينا من دقة ونجاعة التنظيم الذى يدير به شباب السودان ثورتهم؛ شباب أتقن الإلمام بتكنولوجيا المعلومات وسلح نفسه بتجارب الثورات السلمية المعاصرة – في الهند وأمريكا وجنوب إفريقيا وصرببيا والدول الإشتراكية السابقة وفي كل من تونس ومصر، آخذين في الإعتبار إخفاقات وسلبيات الإنتفاضات المذكورة، ومتمنطقين باليقظة التامة إزاء التجارب المحلية من انتفاضات منهوبة ومن توازنات القوى ومكامن الثعالب اللابدة المشرئبة لسرقة نضال الشعب. ولقد طمأنتنا الأخبار التى حملها السابلة والهواتف النقالة على سير الإنتفاضة في خطها المستقيم، وعلى شبكات قيادتها المعقدة والعبقرية والمنتشرة أفقياً ورأسياً، وعلى إجراءات السرية والأمان المحيطة بها، وعلى أنها بالقطع تسبق أجهزة النظام الأمنية بفراسخ، بدليل صمودها لنيف وشهر أمام أكبر آلة تكميم وتوقيف وتقتيل شهدتها البلاد منذ مملكة سنار في القرون الوسطى. فهنالك لجان ظل سرية من عدة طبقات وفروع عنكبوتية متسلسلة، وما أن تضرب أو تكشف إحداها حتى تشب أختها أتوماتيكياً على الفور ليتواصل النضال التنظيمي والتوعوي واللوجستي والتخطيطي والسياسي دعماً للمسيرة الشعبية الرامية لتحقيق الشعار الأكبر والأهم – إسقاط النظام بلا قيد أو شرط، ثم الشروع في تأسيس الدولة العلمانية الديمقراطية الفدرالية الحقيقية عبر المرحلة الإنتقالية المتفق عليها. إننا نرفع قبعاتنا ليس فقط للجان الظل التى تولت أمر هذه الإنتفاضة طوال الأسابيع المنصرمة، ولكن للأشخاص العاديين من أبناء وبنات شعبنا من خارج هذه اللجان الذين هبوا للشوارع مدفوعين بمشاعرهم الوطنية المحضة قبل أن يحرضهم شخص أو جهة، والذين فتحوا بيوتهم للمستجيرين من البمبان عندما تكاثف عليهم لدرجة الإختناق، والذين جادوا بالموجود من قرىً وماء وبطاطين للمنتفضين المعتصمين والمرابطين هنا وهناك؛ وأهلنا ينطلقون في هذه الأريحية من أمثالهم السائدة: (عيب الزاد ولا عيب سيده). و (الفقرا تقاسموا النبقة). وهكذا، رأينا بيوتاً تكاد تكون خاوية على عروشها من الإدام تخرج آلاف قطع الخبز المحشوة بالطعمية (الفلافل) للمتظاهرين، ببركة هابطة عليهم من المولى عز وجل، وشاهدنا العشرات من أمثال هؤلاء الأبطال يقدمون ما يقدمون دون من أو أذىً، ودون أي ميول استعراضية أو محاولات لحجز مقاعد في النظام القادم: إنهم أبطال غبش أشاوس يأتون من الظلام ويختفون في الزحام مثلهم مثل النبي الخضر عليه السلام. ومن الإيجابيات الباهرة لهذه الثورة أن المرأة السودانية تتقدم الصفوف، مستندة علي إرث الكنداكات العظيمات مثل مهيرة بت عبود ورابحة الكنانية وفاطمة أحمد إبراهيم، ولقد اكتسبن حقهن في المساواة بالرجل بوضع اليد، وسوف يكون من العسير بعد اليوم جرهن القهقرى لعهد الحريم، فقد تهاوت دولة الإخوان المسلمين الشهوانيين الذين حولوا المرأة إلى مصب لنزواتهم وولغوا فيهن مثنى وثلاث ورباع. ومن الإيجابيات الباهرة كذلك أن الوحدة الوطنية التى كنا نتحدث عنها في الجرائد والأسافير كسلاح ضد التشرذم والكنتننة والصوملة والفتن المناطقية والإثنية، أصبحت واقعاً ملموساً في الشارع، من خلال انتفاضة رددت نفس الشعارات وبنفس الحماس في "معسكر كلمة" بأقصى الغرب وفي جوبا عاصمة دولة الجنوب المستقلة وفي كريمة ودنقلا وكسلا والقضارف وبورتسودان وأبو جبيهة وسنار والدمازين وكوستي؛ فلم يحدث توافق مثل هذا حتى في المهدية ولا في أيام النضال ضد الاستعمار ولا في انتفاضتي اكتوبر 64 وأبريل 85. وهذا ما أكده المناضل عبد الواحد محمد نور في مقابلاته بالتلفزيون الفرنسي وبالبي بي سي خلال الأيام القليلة الماضية. وهكذا، فإننا نكتشف كل يوم أن الفكر ونوعية التدين الذى سعي الإخوان المسلمون لترسيخه في التربة السودانية عبر الثلاثة عقود المنصرمة قد ذهب أدراج الرياح، كأنه لم يكن، تماماً مثل نازية أدولف هتلر التى حكمت ألمانيا منذ 1933 حتى نهاية الحرب الكونية في 1945 وفاشية موسليني التى تحكمت في إيطاليا لنفس الفترة تقريباً، وإذا بهما يتلاشيان كلوح ثلج تحت شمس مدارية شاوية، وإذا بالحزب النازي الألماني والفاشي الإيطالي يصبحان نسياً منسياً، فهما ممنوعان من الوجود بحكم الدستور؛ ولقد نشأت في الدولتين أنظمة راسخة تحكمها دساتير ديمقراطية قامت بصياغتها فرق من الخبراء الغربيين. ولا شك أن الإخوان المسلمين وكل حزب قائم على أساس ديني سيكون خارج المعادلة السياسية السودانية إلى يوم القيامة. وسوف تذهب مع الإخوان المسلمين المفاهيم العنصرية والقبلية التى حاولوا أن يوطنوها في بلادنا، والإنصياع لفكرة "الأمة الإسلامية" التى ربطتهم عضوياً بدول مثل إيران وتركيا وقطر وبتنظيم الإخوان العالمي، وسوف تنبعث "الشعوبية بمعنى الوطنية" من رقادها لأنها تعني الولاء للوطن والتمسك بلحمته متعددة الأعراق والأديان والثقافات في انسجام واحترام متبادل وصيانة لحقوق الكل في التقدم والتحول الاجتماعي، unity in heterogeneity . ولسوف تشهد الأيام القليلة القادمة انتصار شعب السودان على البشير وطغمته، وأنا واثق تماماً من أن شعبنا لن ينسي الذين أجرموا في حقه طوال الثلاثين سنة المنصرمة، وسوف يقدمهم لمحاكمات حضارية عادلة، فهو شعب يتمتع بخصال غابت عن الإخوان المسلمين الذين استحلوا الحرمات وانتهكوا البيوت وبطشوا بالنساء والأطفال. تلك أخلاق السفلة عديمي الأصل القادمين من أركان الحرمان الإجتماعي ومن الأسر المفككة. إن همنا الأكبر هو التركيز على ترسيخ دعائم الدولة الديمقراطية الوليدة وتوفير لقمة العيش للكادحين الذين طال صبرهم وبلغت بهم المعاناة حدوداً غير مسبوقة. وبالطبع فإن الدولة الوليدة لا تملك حقداً على هذا أو ذاك من الجيران، فهي نصيرة للتآخي وللشعوب المحبة للعدالة والسلام بشتي أركان الأرض. وبالتأكيد فإن الخير الذى سيجنيه جيراننا من الدولة الجديدة أكثر بكثير من الوعود الكاذبة والبروق الخلب التى حاولت بها طغمة البشير أن تستقطب المستثمرين الأجانب ودولهم. نسأل الله أن يلطف بأهل السودان وأن يوصلهم لبر الأمان وأن يزيح عن كاهلهم هذا الكابوس الذى ألم بهم منذ ثلاثة عقود، كابوس الإخوان المسلمين ودولتهم الاستبدادية الباغية التى تلفظ أنفاسها الأخيرة.
إن المجد معقود لواؤه بشعب السودان. والسلام. الفاضل عباس محمد علي 21 يناير 2019