في سياق هذا اليوم الأبلج المبارك بإذنه تعالى، الرابع والعشرين من يناير 2019، يتدفق إلى شوارع معظم الحواضر والقرى السودانية رجالاً وعلى كل ضامر، ذكورٌ وإناث وصبية وشباب ميامين، مشرأبون للغد المشرق السعيد الذى ظلت بلادنا تتطلع إليه منذ ثلاثين عاماً، مذ أناخ عليها قطاع الطريق القتلة المتسربلون بالإسلام زوراً وبهتاناً وتقية، وهم مجرد متهافتون كواسر وضواري جارحة لا تتورع من خطف اللقمة من أفواه المساكين، ومن أكل أموال اليتامى، في دولة قرونوسطوية خانقة إرهابية جائرة وجاهلة مؤسسة على مال السحت المختطف بالرعب والظلم والتعدي على حقوق الرعية، ولا تخاف الله وليست لها قبيلة تخشى لومها، وتبطش ببني العمومة والخؤولة شيباً طاعنين في السن وأيفاعاً وصبية وصبايا بلا أدنى رحمة. وإن شعبنا المعلم الصبور العبقري المغوار...لا تلين قناته ولا يطأطئ هامته، وعندما تحلق الطائرات فوق سماواتنا فإنها تطير بعلو شاهق لكي لا ترتطم بجباه السودانيين التي تعانق السحاب.
وفي هذه الأثناء ترتعد فرائص النظام، ويركن للمزيد من العنف الغشوم الحاقد المصحوب بالبروبوقاندا الكاذبة المخاتلة والمسرحيات الفجة، (مثل الإدعاء بأن إحدى المتظاهرات كانت تحمل بندقية خرطوش في حقيبة يدها قتلت بها أحد الشهداء!)، ويلجأ رئيس النظام إلى الغلو في أنشطة العلاقات العامة وهو وفريقه في الزمن الإضافي، وكل يوم ينهض لتجوال مستمر لمخاطبة منسوبيه المحشودين بالترغيب والترهيب في أمثال ود الحداد ونيالا والكريدة؛ كما شمل ذلك التجوال رحلة خاسرة لدولة قطر، وكانت تلك هي الطامة الكبرى: فقد أجمع المراقبون على أن قطر نأت بنفسها وسمعتها عن هذا النظام المرفوض من شعبه، والذى انكشف أمره دولياً بأنه والغ في قتل الأبرياء غير المسلحين، ووالغ في الفساد المالي والإداري الذى يبتلع كل ما تجود به الدول الحليفة والصديقة. ولعل السؤال المنطقي الذى يحتار المرء كيف وجد البشير له إجابة هو: (لقد ذكرت يا سيادة الرئيس في خطابك الجماهيري بالساحة الخضراء قبل أيام أن دولا عديدة تقف معك وتدعمك، وقد حددتها بالإسم – الصين وروسيا والكويت الإمارات العربية المتحدة وتركيا ومصر - وبعد تذكير prompt من أحد أفراد حاشيتك تذكرت "قطر" وأضفتها لقائمة المانحين؛ ولكن أين ذهب كل هذا الدعم؟ كيف ينعدم رغيف الخبز والوقود والكاش من السودان، ويظل السودانيون واقفين بتلك الطوابير السرمدية من دغش الصبح إلى المساء رغم الأموال الواردة من الدول المذكورة؟ "مثل أوشيك الذى يحط ساقاً فوق ساق، ويرصد الآفاق، من الدغش إلى المساء، علها تجود بقطرة ماء! ص أ إبراهيم". لا بد أن نظامكم بالوعة ضخمة من الفاسدين والمفسدين تمتص كل الموارد المحلية وتلك القادمة من الخارج في شكل قروض وهبات وزكاوات، أليس كذلك !؟). وعاد صاحبنا بخفي حنين من الدوحة، وبكثير من التجاهل والمرمطة الدبلوماسية والضحك وراء الأكمة المصحوب بالنصائح الأبوية بالتنحي طالما أصبح الأمر واضحاً بشهادة الإعلام العالمي، بما في ذلك قناة الجزيرة (القطرية) التى لحقت بالركب مؤخراً على إثر طرد ثلاثة من مراسليها من الخرطوم، إذ لا تنتطح عنزان حول الخيار الذى أجمع عليه أهل السودان: تسقط بس!
ولعمرى إن البشير كان يحمل خفي حنين معه قبل أن يحط رحاله في الدوحة، إذ كان يعرف تماماً أن قطر لا تستطيع أن تتورط مع نظامه أكثر من ذلك وهي بصدد التصالح مع جيرانها الأكثر أهمية، السعودية والإمارات العربية المتحدة، وفك الحصار الذى يطوقها من الجهات الأربع؛ ولا هم لقطر في هذه اللحظة سوى إنجاح دورة كأس العالم التى ستستضيفها بعد ثلاث سنوات، ولا بد من الابتعاد عن تهمة دعم الإرهاب...وشبهة الارتباط بتنظيم الإخوان المسلمين العالمي الذى يشكل النظام السوداني إحدى تجلياته.
إذن، لماذا أصر البشير على التوجه إلى قطر رغم أنه كان يعرف النتيجة مسبقاً؟ يبدو أن البشير يريد أن يكون في حالة ترحال مستمر بغض النظر عن المحطات المستهدفة حتى يتجنب الخرطوم التى توشك أن تنفجر في وجهه بصورة تذكره بمصير القذافي، وحيثما يحط الرئيس مؤخرته فهو يحس بأنه جالس عارياً علي إناء مليء حتى حوافيه بالشطة "القبانيت"، أو قل سطح صفيح ساخن؛ وفضلاً عن ذلك فإن السفر المستديم يربك خطط الخصم الذى ربما يعدّ في هذه اللحظات لضربة مباغتة تضع حداً لبحور الدم وتسلم السلطة للشعب، وبالفعل هناك إشارات من عطبرة وكسلا وبورتسودان تفيد بأن الجيش لن يقف مكتوف الأيدي لما لا نهاية. ومن نافلة القول أن البشير في هذه الحركة الدائبة والقلق الفاضح يكشف عن عدم ثبات وارتجاف لا يشبه الرجل أوالجندي السوداني المعروف ببسالته عندما يحتدم الوطيس، ( نقابل المدافع بالثبات والعقل!): وقد شهدت له ساحات المكسيك عام 1863م؛ وحرب القرم إلى جانب السلطنة العثمانية ضد روسيا في نفس تلك الفترة؛ وصمود الملك صبير ومهيرة بت عبود ومقاتلي الشايقية والبديرية الدهمشية أمام جيش اسماعيل باشا فى كورتي عام 1820م؛ وموقف المك نمر بعد ذلك ببضع شهور عندما أحرق إسماعيل باشا ومفرزته العسكرية بأكملها في شندي؛ وثورة الإمام المهدي بجيشه السوداني الراق تاق الذى هزم الجنرال هكس باشا والجنرال غردون باشا بالقنا والسيوف والعكاكيز؛ وبطولات قوات دفاع السودان وانتصاراتها الباهرة في مطلع الحرب الكونية الثانية بكل من إرتريا وصحراء ليبيا التى مهدت لغلبة الحلفاء في نهاية الأمر على دول المحور ألمانيا وإيطاليا واليابان؛ والمواقف الراهنة لهذا الشعب الأعزل الذى لم تخفه شراذم الإخوان المسلمين المسلحة بالبنادق ذات الذخيرة الحية والطبنجات والشماليخ وعبوات الغاز المسيل للدموع. أنظر لهذا الشعب الفارس الذى يتحدى الرصاص كأن شيئاً لم يكن، ويكرر المواجهة يوماً وراء يوم لأكثر من خمسة أسابيع، رغم الأعداد المتصاعدة للشهداء.
وعلى كل حال، يبدو أن البشير لا ينتمي لهذا الشعب المتفرد، فهو لا يتمتع بخصلة الشجاعة والثبات في يوم الكريهة؛ والجبان فقط هو الذى يواجه بشراً لا يحملون سلاحاً نارياً وليس لديهم ساترٌ يحتمون به، ويطلق عليهم النار كأنهم أسراب من الجرول أو الجرذان؛ ومعروف أن السوداني لا يبالغ في الفتك بخصمه، (ومنذ الصغر، إذا صرعت شخصاً في مباراة أو مبارزة صراع بدني فإنك تكتفي بذلك، ولا تلاحق الخصم بالضرب أو الركل بعد أن توسده الثرى). والسوداني معروف بالعفو عند المقدرة لأن التشفي والغلظة في الإنتقام والفجور في الخصومة من شيم الجبناء ومنخفضي الذكاء وأصحاب النفوس المعطوبة. وليست الشجاعة الأدبية وقفاً على السودانيين، فالكل يذكر أن الرئيس الكيني أوهورو كنياتا قبل عامين، وقبيل تسنمه السلطة بعد فوزه في الإنتخابات الكينية، توجه إلى لاهاي بمحض اختياره ليمثل أمام محكمة الجنايات الدولية التى كانت قد أصدرت أمراً بتوقيفه بموجب اتهامات تتعلق بخرق حقوق الإنسان وبالتسبب في قتل الأبرياء أثناء الحملة الإنتخابية. ولم يفعل أهورو كما فعل البشير الذى ما انفك يكيل السباب لتلك المؤسسة العدلية الدولية، وما برح "يتزاوغ" ويزورّ ويتهرب منها طوال التسع سنوات المنصرمة. بل نجده الآن متشبثاً بالحكم رغم الرفض الإجماعي البائن له من جانب أهل السودان لسبب واحد، وهو تحاشي مصير المحكمة الدولية الذى تضيق حلقته حول عنقه يوماً بعد يوم، ولا بد من لاهاي ولو طال السفر.
لقد فقد نظام البشير مبررات بقائه، وأخذ يتصدع كأعجاز نخل هاوية نخر السوس في عودها وعروقها وأعطافها، ولقد انفض سامر الدول التى كانت تدعمه نسبة لمصالح خاصة بها، ونسبة لحقائق توازن القوى الإقليمية والدولية التى يصعب تجاهلها. ومن الواضح أن شعب السودان قد أخذ زمام الأمور في يديه، وقد أسكت الألسنة التى كانت تبرطم وتثرثر عن المصير الحالك الذى ألم بدول الربيع العربي المنهارة مثل ليبيا واليمن وسوريا، قائلا بملء فيه: نحن لسنا كأي أحد آخر. نحن نسيج وحدنا، ولدينا المقدرة على التوحد في اللحظة المناسبة لإنقاذ الوطن مثلما فعلنا إبان الثورة المهدوية التى طردت الحكم التركي المصري المسنود بالمخابرات البريطانية عام 1885م؛ ومثلما فعلنا في ديسمبر 1955 عندما اتفقت كل القوى السياسية، يمينها ويسارها، شمالها وجنوبها، على إعلان الاستقلال من الاستعمار البريطاني المصري من داخل البرلمان خلافاً للإتفاقية الموقعة بين دولتي الحكم الثنائي قبل ذلك بعامين؛ ومثلما فعلنا في اكتوبر 64 وابريل 86 عندما أطحنا بنظامي الفريق عبود والجنرال جعفر نميري. نحن الآن كذلك على وشك تسديد الضربة القاضية لنظام البشير وإخونه المسلمين الاستبدادي المتجبر، بإذن الملك العلام.
عاش كفاح الشعب السوداني. والسلام. مخلصكم / الفاضل عباس محمد علي. 24 يناير 2019