المحطة الأخيرة

 


 

 

 


بسم الله الرحمن الرحيم

9 فبرراير 2019

تقول سكرتارية تجمع المهنيين، ويثنّي القول حلفاؤها من الأحزاب والهيئات المعارضة، إنها تعوّل بالدرجة الأولى على المسيرة التراكمية التى سوف يتوجها العصيان المدني بلا شك في آخر محطة بإذن الملك العلام؛ وكلما تحركت العملية الثورية بتؤدة وحسابات دقيقة محكمة وحنكة وحصافة، كلما بات النجاح الكامل السلس للإضراب السياسي الشامل في جيبنا؛ ومن الجانب الآخر فإن فشل ذلك العصيان لا قدر الله يعني الضربة القاصمة للتجمع وللشارع، ويعني عودة الإنتفاضة لمربعها الأول، ويعني الإحباط وذبول الروح المعنوية للجماهير لعشر سنوات أخرى، كما يعني بعث روح جديدة في النظام ما كان يحلم بها، وقد كاد أن يلفظ أنفاسه الأخيرة.

ولا تختزن الذاكرة الجمعية السودانية عملية ثورية بطول النفس الراهن، والثورات التى عرفها تاريخ السودان الحديث كانت في عجلة من أمرها (أمسك لي واقطع ليك!) :-
• اندلعت ثورة أكتوبر 1964 في يوم الأربعاء الحادي والعشرين من ذلك الشهر المبارك، وخلال سبعة أيام فقط حققت جميع أهدافها: إذ قام الرئيس الجنرال ابراهيم عبود بحل الحكومة والمجلس المركزي (البرلمان)، ودعا ممثلي الشارع المنتفض لترتيب الأوضاع الانتقالية؛ وخرج ذلك الاجتماع بحكومة ثورة أكتوبر برئاسة الشخصية الوطنية الكاريزمية المستقلة "سر الختم الخليفة الحسن"، وعضوية ثمانية ممثلين لجبهة الهيئات (الجسم الشرعي الحاوي لتجمع النقابات المهنية)، وممثل لكل من الأحزاب المعارضة الأربعة: الشيوعي والأمة والإتحادي والإخوان، وممثل لكل من اتحاد العمال واتحاد المزارعين، وثلاثة ممثلين للجنوب؛ ولقد منحت تلك الحكومة تفويضاً لمدة عام واحد تتم بعده الانتخابات النيابية، وقد حدث ذلك بالفعل.
• أما انتفاضة أبريل 1985، فقد استغرقت تسعة أيام فقط منذ انلاعها بآخر مارس حتى 6 أبريل عندما أذاع الفريق عبد الرحمن سوار الدهب رئيس هيئة الأركان بيان القوات المسلحة التى استولت على السلطة وعزلت الفريق جعفر النميري (الذى كان قد هرب إلى الولايات المتحدة بدعوى البحث عن مخرج لأزمة نظامه)، وحلت الحكومة والجهاز التشريعي وحزب الحكومة – الإتحاد الاشتراكي، ودعت ممثلي تجمع النقابات المهنية السبع للتفاوض مع هيئة أركان الجيش: (إتحاد طلاب جامعة الخرطوم ونقابة أساتذة نفس الجامعة ونقابة المحامين والأطباء والصيارفة والتلفزيون والكهرباء)؛ وخلال ثلاثة أيام تم الإتفاق على حكومة انتقالية برئاسة الجزولي دفع الله رئيس نقابة الأطباء، وبعضوية وزراء تكنوقراط محايدين لفترة عام واحد تعقد بعده الإنتخابات البرلمانية، كما تم الإتفاق على مجلس عسكري من أرفع رتب بالجيش برئاسة سوار الدهب ليقوم بمهام رأس الدولة البروتوكولية.

(وقد كانت نتائج تلك المفاوضات ملغومة: "بوجود رئيس وزراء ونائب رئيس المجلس العسكري من جماعة الإخوان المسلمين، وسوار الدهب نفسه متعاطف مع تلك الجماعة – كما اتضح لاحقاً"؛ ولقد تفجرت تلك الألغام في شكل الأداء المتعسر لتلك الفترة الديمقراطية، مما أدى للردة العسكرية/الإخوانية التى ألمت بالبلاد بعد ذلك بأربع سنوات فقط، والتى ما زالت تجثم على صدر الوطن، حتى الإنتفاضة الراهنة الظافرة بإذن الله – التى نأمل أن تضع نصب أعينها أخطاء الماضي السالف ذكرها، خاصة تبديل الجلد وحربائية تنظيم الإخوان الفاشستي المتآمر.)

أما الآن، وجماهير شعبنا توغل منتفضة في خواتيم شهرها الثاني، فقد تطورت الثورة بصورة غير مسبوقة محلياً أو إقليمياً أو عالمياً، وباتت نهايتها مرهونة بسيناريو ما – يصعب التكهن به؛ وقد أورد فلاديمير لينين في الدليل الموجز (الدولة والثورة) الذى صنفة عشية ثورة أكتوبر مباشرة "أن الثورة لن تنجح مهما استطالت إذا لم ينحاز لها فصيل من الجيش). ولا ريب أن هذا القانون مبني على دراسة لكل ثورات البشرية الناجحة، كما تؤكده الثورات اللاحقة لعهد لينين، من لدن الثورة الأمريكية والفرنسية والبلشفية والصينية والكوبية – بالإضافة للثورتين السودانيتين، أكتوبر 64 وأبريل 85. بيد أننا الآن نتساءل: ماذا ترانا فاعلين وقد استطالت ثورتنا لما لم تشهده البشرية جمعاء من قبل؛ وقد حرص الإخوان المسلمون على تدجين ضباط الجيش كباراً وصغاراً بالرشي والتمهيد للتمرغ في كافة أنواع الفساد، وبالتركيز على واستقطاب العناصر المطأطئة الذيلية التى لا تهش ولا تنش، وليس لها لون أو طعم – كالماء الزلال. ونحن أمام جيش كالحمار الداراوي (الدبّلو)، لا تحركه هذى المدام ولا تلك الأغاريد، وهو محشو بالعيون والجواسيس والبصاصين على كوادر هي أصلاً من الرويبضات منخفضي الذكاء وضامرى الإحساس الوطني، على رأسهم "مارشالات المديرية" الذين يزينون صدورهم بالنياشين، كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد.

ولكن، هل يعني ذلك إحتمال فشل الثورة، وهل يعني أن الشعب سيعود لبيوته مكسور الخاطر ليلعق جراحه وينتظر مستكيناً "محاكم التفتيش" وحملات الدفتردار والإنكشارية الإنتقامية، كأنا يا بدر لا رحنا ولا جئنا؟ حا شا وكلا. ذلك رابع المستحيلات. إن شعباً قدم عشرات الشهداء بلا تردد لن يخذل أرواحهم ولن يرجع من منتصف الطريق. فهو ك(التور أب جاعورة، شمّ الدم وقال حرّم!)، ولن يتوقف قطار ثورته إلا عند محطة مكتوب عليها" (نهاية نظام الإخوان المسلمين، وبداية عهد ديمقراطي مرشّد ومحسّن جديد).

والحالة هذه، يبدو أن أهل السودان مصممين علي تزويد البشرية بنظرية جديدة للثورة الشعبية الحقيقية. فإذا استمر الجيش في تغافله و"صهينته" كأن شيئاً لم يكن، فإن ذلك الفراغ المعنوي قد يغري غيره الأجسام المسلحة الطموحة لأن تأخذ بزمام المبادرة – مثل قوات الدعم السريع (حميدتي)، وعندئذ ينشب صراع مسلح بينها وبين جهاز الأمن (قوش)، وكلاهما مسلح حتي أسنانه، آخذين في الإعتبار تجربة قوات العدل والمساواة (د. خليل إبراهيم) التى اجتاحت العاصمة القومية ببضع "تاتشرات" قادمة من أقصي الغرب قبل بضع سنوات وكادت أن تستولي على السلطة، وقد فر رموزها من الخرطوم كانهم حمر مستنفرة. وفي هذه الحالة ربما يتدخل الجيش بدعوى تلافي انفراط الأمن، تحركه المقولة المعروفة: "جحا أولى بلحم ثوره.)

ولكن، في حقيقة الأمر، ليس هناك هناك مقاتلون شرسون هذه الأيام يتقحمون الوغي بلا حران بأي من هذه الجهات المذكورة، إذ ليس لديهم استعداد للإستشهاد في سبيل السلطة – الذاهبة أو القادمة، فقد ظلوا "مُلساً" – بضم الميم - يتقلبون في نعيم "الإنقاذ" المدعم بالفساد المؤسسي المستشري، وكلهم يمتلكون بيوتاً بالعاصمة وأرتالاً من السيارات الفارهة والزوجات مثنى وثلاث؛ فهم ليسوا من طينة ثوار كوبا أو فيتنام أو حتى إرتريا، وليست لديهم العقيدة القتالية أو الجاهزية التي تحفزهم لخوض غمار حرب المدن التى لا يعلم عواقبها إلا رب العالمين.

لذلك، فإن الإحتمال الأكبر أمام هذا الإصرار الشعبي العجيب وهذه الجذوة النضالية العصية على الإنطفاء، هو أن يمتطي البشير وزوجاته وإخوانه وأسرهم الطائرة الرئاسية ويتوجهون إلي إنجمينا أو مسقط أو موسكو، كأنه في زيارة عادية ضمن سفرياته الماكوكية الأخيرة، بحثاً عن دعم أو حل لأزمة نظامه، وهو يعلم جيداً "أنه قد ترك بسطام خلفه"، فالحل يكمن في الخرطوم نفسها – في يد الجماهير التى خرجت للشوارع منذ شهرين ولن تعود إلا برأس النظام. وعندئذ فقط سوف يتدخل الجيش الداراوي بنفس طريقة سوار الدهب الذى كان في غاية التردد والاستماتة في الدفاع عن نظام النميري حتى الرمق الأخير، ولقد أجبر إجباراً على التحرك نحو جهاز التلفزيون لإذاعة بيان تنحي النميري واستيلاء الجيش على السلطة. إن قيادة الجيش الحالية تجسيد مكرر للحالة السواردهبية؛ وعلى كل حال، عندما يختفي البشير من الساحة، ويمكث شراذم المتربصين الذئبيين المنافسين، فإن ثمة ضباط لديهم بقايا نخوة سودانية سيتحركون ويدفعون قادتهم نحو استلام السلطة ودعوة ممثلي الشارع المنتفض – تجمع المهنيين والجهات المعارضة المعروفة – لبيت الضيافة للمفاوضات.
مهما يحدث، فإن هذه الثورة تسير في طريق لإتجاه واحد، مكتوب في محطته الأخيرة: "سقوط نظام البشير وإيداعه مزبلة التاريخ!".

- إن النصر معقود لواؤه بشعب السودان.
- تسقط # بس!


fdil.abbas@gmail.com

 

آراء